في اللهجات العربية القديمة (1) كن أول من يقيّم
ألقيت هذه المحاضرة في مؤتمر الدورة الثامنة والعشرين للمجمع اللغوي العربي بالقاهرة ، الجلسة السادسة في 20 من مارس سنة 1962 : لغات النقوش العربية الشمالية وصلتها باللغة العربية للأستاذ الدكتور مراد كامل ( عضو المجمع اللغوي العربي بالقاهرة ) هاجرت قبائل من الجزيرة العربية في الألف الرابع قبل الميلاد واستقرت فيما بين النهرين وهم الأكديون، وهاجرت منها قبائل في الألف الثالث قبل الميلاد واتجهت إلى الشمال الغربي من شبه الجزيرة وهم الكنعانيون، وفي الألف الثاني هاجرت قبائل إلى شمال الجزيرة هم الآراميون. وبقي من بقي في الجزيرة، يسكن الواحات ويحترف الزراعة حينًا والتجارة حينًا، أو يقوم على رعاية الإبل والماشية في البادية. وقل اختلاط هؤلاء بالشعوب المجاورة فحافظوا على سلامة جنسهم ولغتهم. واحتفظت لغات شبه الجزيرة بالأصوات التي كانت في اللغة السامية الأصلية مع بعض تطورات طفيفة، واحتفظت كذلك بالإعراب على مثال ما نجده في البابلية القديمة، واحتفظت بالصيغ الفعلية كما كانت في السامية الأصلية. وطوّعوا اشتقاق المفردات حتى سدت جميع النواحي التي احتاج إليها الناس في حياتهم البدوية، ولم يدخل العربية إلا القليل من الألفاظ الأجنبية، أخذها أهل الحضر منهم ممن تاخموا البلاد الواقعة في شمال الجزيرة – أخذوا بعض ألفاظ الحضارة من الآراميين، وأخذوا من الرومان قصر Castra وبلد Palatium وسراط Strata وهي من ألفاظ الجيش، كما أخذوا القليل من الألفاظ الفارسية القديمة مثل رزق وأنبار وخندق . إن تاريخ لغات شمال شبه الجزيرة العربية غامض لا نكاد نعرف عنه شيئًا إلا ما روي من الشعر الجاهلي في اللغة العربية، مع كثير من التحفظ. والواقع أن معرفتنا لتاريخ اللغة العربية التي يعتبرها علماء اللغة من أكثر اللغات المحافظة على أصلها البعيد، سيفيد في دراستنا لفقه اللغات السامية بخاصة وفي فقه اللغة بعامة، وقد هيأت الظروف منذ أواخر القرن الماضي العثور على آلاف النقوش مبعثرة في شمال الجزيرة العربية في المنطقة الواسعة الممتدة من وسط الجزيرة إلى الصفاة في الشرق والجنوب من حوران. وأخذ العلماء في معالجتها وحل رموزها وفهمها حتى توصلوا إلى ذلك في الربع الثاني من القرن الحالي. اشتقت هذه النقوش قلمها من الخط المسند في اليمن واحتفظت بالأصوات العربية عددًا أي بثمانية وعشرين حرفًا، وليس للحركات في هذا الخط من نصيب فهي لم تثبت لها علامات . وكنا نتوقع أن نجد في هذه الكثرة من النقوش مادة كافية لتاريخ اللغة العربية قبل الإسلام، ولكن للأسف لم تعالج هذه النقوش إلا موضوعات قليلة غير منوعة، فهي لذلك لا تحمل إلينا مادة لغوية كاملة وبالتالي فإننا لا نفيد منها إلا بمقدار . وكان هذا هو السبب في أننا لا نعتبرها لغات متكاملة بل لغات نقوش ينقصها الكثير من الصيغ والتراكيب . ودراستها على كل حال واجبة على من أراد الوقوف على أصول العربية وتاريخها ، وتنقسم هذه النقوش إلى ثلاث مجموعات: 1- أقدمها المجموعة التي نسميها الثمودية وقد عثر على كتاباتها في حايل وعلى مقربة من الوجه وفي الطائف وتيماء ومدائن صالح (الحجر) والعلا (ددان القديمة) وخيبر والجوف ونجد ومدين القديمة وفي شرقي الأردن وفي شبه جزيرة سيناء وفي الصحراء الشرقية بمصر أي على الأكثر في المنطقة الشمالية الغربية من شبه الجزيرة . وقد ورد اسم الثموديين في نقوش الملك سرجون الأشوري سنة 715 ق . م. ( 721 – 705 ق .م ) وجاء ذكرهم بين الشعوب التي أخضعها هذا الملك في شمال شبه الجزيرة العربية، وعرفوا في العصر الروماني بأنهم فرسان مهرة وكانت منهم كتيبة في مصر . ويرجع تاريخ النقوش الثمودية التي عثر عليها من القرن الخامس قبل الميلاد وتنتهي بالرابع بعد الميلاد. 2- المجموعة الثانية هي التي تعرف بالصفوية وسميت بذلك لوجودها في منطقة الصفاة منقوشة أو مخربشة على حجارة اللابا ( اللافا ) في الحرّة في جنوب شرق دمشق ووجدت أيضًا في حوران وفي الرحبة وفي حرة الراجل وفي شمال سورية وفي الصالحية على الفرات . وكان الصفويون وهم رعاة فقراء يسكنون أرضًا جدباء، وكان الحكم عندهم شورى. هذا ويرجح أن أقدم الكتابات الصفوية من القرن الثاني قبل الميلاد وتنتهي بالثالث بعد الميلاد. 3- المجموعات اللحيانية: عثر على النقوش اللحيانية في شمالي الحجاز وفي مدائن صالح ( الحجر ) وفي الخريبة – والعلا ( ددان ) - وتلعة الحمّادي – وجبل أثلب – وخشم جبلة وتيماء – وقبور الجندي – ووادي المعتدل . عرفت العلا وهي ( ددان ) التي ورد اسمها في العهد القديم: بغزارة مياهها ووقوعها على الطريق التجاري وهو الطريق الذي كان يصل بلاد العرب الجنوبية ببلاد البحر الأبيض، وتحمل فيه أنواع البخور والبضائع التي كانت تصل من الهند وإفريقية عن طريق اليمن جنوبًا إلى الشمال، وكانت العلا تقع وسطًا عند ملتقى الطرق: طريق الحجر شمالاً والطريق إلى الحرة شرقًا وإلى الغرب والطريق الذي يتبع وادي الحمد إلى شاطئ البحر الأحمر حتى الميناء الذي عرف عند اليونان باسم ليكوكومي والطريق إلى ميناء الوجه، وكان يسكن العلا قديمًا مهاجرون من أهل اليمن المعينيين وأهل ددان ثم اللحيانيين . وتبدأ الكتابات من القرن الرابع قبل الميلاد وتنتهي بالقرن الرابع بعد الميلاد، وظهرت مملكة ددان في القرن الثالث قبل الميلاد وتلتها مملكة لحيان، ويظهر أن قبائل لحيان كانت تسكن الشاطئ أصلاً وعلى صلة بالحضارة المصرية ويتبين ذلك من أسمائهم مثل تحمىPtahmay تلميPtolemaios وقد اتسعت رقعة مملكتهم حتى احتل النبطيون الحجر سنة 65 ق . م وكذلك تيمـاء وليكوكومي واقتصرت المملكة بذلك على الداخل دون الشاطئ وانتهى احتلال النبط لهم سنة 106 ميلادية . ولم يمض وقت طويل حتى اجتاح زلزال مدينة ددان فدمرها وأخذ أهلها في إعادة بناء المعبد، ونحن نعرف من النقوش أن مدة إعادة البناء قد امتدت حوالي ثلاثين سنة، وقل الأمان وظهرت وظيفة جديدة هي وظيفة " خفير " لحماية القوافل . وفي أوائل القرن الرابع الميلادي نجد أن اليهود سكنوا ددان، ويظهر أن اللحيانيين تركوا المدينة وأصبحوا بدوًا وهاجر تجارهم إلى الحيرة التي أنشئت في أوائل القرن الثالث الميلادي غربي الفرات، ونعرف أن في القرن الرابع الميلادي كان بالحيرة حيٌّ يسمى حي اللحيانيين، كما التحقت بطون من لحيان بهذيل . ( تابع ) |