البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات د يحيى مصري

 53  54  55  56  57 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
الزمخشري3    كن أول من يقيّم

وقد ترك هذا الكتاب صدًى واسعاً في الساحة العلمية ، واعتنى الدارسون به شرحاً واختصاراً وتلخيصاً . وطبع مراراً في الهند ومصر ، ومع بعض الطبعات جزء في تفسير شواهده (35)
ومن مؤلفاته: "الفائق في غريب الحديث"(36)
واختلفت المصادر في اسم هذا الكتاب.فذكره صاحب هدية العارفين باسم ــ الفائق وشيم الرائق في غريب الحديث ــ (37).
وأورده صاحب كتاب الجواهر المضيئة باسم ــ غريب الحديث ــ (38). أمَّا صاحب كتاب "تاج التراجم" ، فأورده باسم ــ الفائق في تفسير الحديث ــ (39)
ورتَّب الزمخشري هذا الكتاب حسب حروف المعجم ، وكشف فيه عن غريب الحديث .فشرح فيه كل كلمة غريبة اشتمل عليها الحديث (40).
وقد أثنى ابن حجر العسقلاني على هذا الكتاب قائلاً : " وكتابه الفائق في غريب الحديث من أنفس الكتب لجمعه المتفرق في مكان واحد مع حسن الاختصار وصحة النقل " (41).ومنها:"أساس البلاغة" (42)
وهو أبرز الكتب اللغوية التي خلّفها الزمخشري ، وهو معجم في اللغة العربية رتَّبه الزمخشري حسب الحرف الأول وما يليه من حروف الهجاء . وكان الزمخشري رائداً في هذا الترتيب الدقيق.
ويمتاز هذا المعجم عن غيره باختصاصه بذكر الاستعمالات المجازية للكلمة في مواضعها من الجمل إلى جانب معناه الحقيقي. لهذا فهو مليء بأبيات الشعر والعبارات الأدبية لتوضيح معاني الكلمات في استعمالاتها المختلفة.
ومنها :"شرح مقامات الزمخشري" (43) وهو كتاب تصدى فيه الزمخشري لشرح مقاماته شرحاً مفصلاً تعرض فيه للغة والبلاغة ، واستشهد بكثير من آيات القرآن الكريم ، والحديث النبوي ، وشعر العرب ، وأمثالهم وأخبارهم،ومنها:"المستقصى في أمثال العرب" وهو كتاب في الأمثال العربية . وقد رتب الزمخشري كتابه ترتيباً كما صنع في أساس البلاغة . فبدأ بالأمثلة التي أولها همزة ثم باء وهكذا.وفي هذا الكتاب ثلاثة آلاف وأربع مِئة وواحد وستون مثلاً . وقد ذكر ابن شاكر الكتبي كتاباً آخر للزمخشري في الموضوع نفسه ، وهو كتاب ــ الأمثال ــ  وهو يختلف عن المستقصى بدليل ذكر ابن شاكر الكتبي للكتابين بشكل منفصل (44).
ويذكر ابن خلكان كتاباً آخر في الأمثال للزمخشري ، اسمه : سوائر الأمثال (45) ومن مؤلفاته   :" مقامات الزمخشري " (46) وهي خمسون مقامة في النصح والإرشاد موجهة كلها إلى نفسه ، ولكل منها عنوان خاص. وألَّفَها الزمخشري عام اثني عشر وخمس مِئة للهجرة (512هـ) ، وقد شرح الزمخشري مقاماته،ومنها :
"أطواق الذهب في المواعظ والخطب" (47)،وهو مختصر يشتمل على مئة مقالة في المواعظ والنصائح والحكم ومكارم الأخلاق ، كل منها في بضعة أسطر ، ليست مُعنونة (48).

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري4    كن أول من يقيّم

رابعاً: أثر ثقافته في مقاماته:

تكلمنا فيما مضى على ثقافة الزمخشري وعلى أثر بيئته الاجتماعية والسياسية في ثقافته مما كان لــــه الأثر الفاعل في توجُّه الزمخشري العلمي وتحصيله من كثير من العلوم .وكان لا بد لثقافة الزمخشري تلك أن يكون لها دور وأثر في كتاباته فيما بعد ، سواء كان في اللغة ، أو الحديث ، أو التفسير ، أو الأدب . فالزمخشري لغوي محدث معتزلي العقيدة ، وكان يميل إلى المذهب الحنفي ، وكان فوق ذلك شاعراً أديباً ، فكل هذه الصفات كان لا بد لها أن تلعب دوراً في كتاباته ، ونخص بالذكر هنا مقاماته.
فالزمخشري لغوياً ظهر أثر هذا الجانب الثقافي في مقاماته بشكل واضح ، ويظهر ذلك في أسلوب كتابته ، حيث كان يستخدم العبارات البليغة والكلمات الوعرة قليلة الاستعمال ، فهو يقول في مقامة (التبصر ) : " يا أبا القاسم نفسك إلى حالها الأولى نزَّاءة ، فاغْزُها بسرية من الصبر غزَّاءة ، لعلك تفلُّ شوكتها وتكسرها ، وتجبرها على الصَّلاح وتقسرُها ، فإن عَصَتْ وَعَتَتْ وَعَدَتْ طَوْرَها ، وأقتْ بصحراء التمرد زَوْرَها ، وانقشعتْ عن غُلُبَتِها الغَبَرَة ، ووقعت على مصابرتك الدَّبْرَة ، وعَلِمْتَ أنَّ صبرك وحده لا يقوِّم عنادَها ، ولا يقاوم أجنادَها ......" (49).
ففي هذا النص نلاحظ الكثير من العبارات البليغة والاستعارات الرائعة ، وكذلك نلاحظ الخيال الواسع ، فالزمخشري يشخِّص النفس ، ويتحدث عنها كأنها شخص عاقل له نوايا وأفعال معينة.
وكثيراً ما نجد مثل هذا في مقاماته ، فالزمخشري يستخدم التعابير البليغة التي تقوم على صحة التعبير والاستعمال ، وعلى استخدام الكلمات الوعرة مما يدل على مقدار حفظ الزمخشري واطلاعه على مفردات المعجم اللغوي ، وتقوم كذلك على استخدام الاستعارات بمختلف أنواعها ، وهذا يدل على قدرة الزمخشري الأدبية ، وتقوم على الخيال الأدبي مما يدل على شاعرية هذا الأديب ، كما تدل على هذا الجانب الأبيات التي كان ينثرها هنا وهناك في بعض مقاماته كما تنثر الزهورعلى العروس ، فلنقرأ له وهو يقول :

           أثـْــــنِ على ربِّ البشـــــــــر** على الذي أعطى الشَّبــــــــــرْ
           أعطى الذي عَــيَّ الــــــورى**  بحَصْـــــرِه ولا حَصَــــــــــــرْ
              حَسْبُكَ مـــــــا أولاكَ مـــــــن قلــــبٍ وَسَـــمْـــع ٍ وَبَصَـــــــرْ
               وَمِــــــن لســـــــان مُطْلَــــــق للذِّكـــــر كالسَّـــــــيف الذَّكَـــرْ
              آيــــــاتُ صِـــــــدْق وعِبَـــــرْ وهـــــنَّ آلاتُ العِبَـــــــــــــرْ(50)

ففي هذه الأبيات نلاحظ التّأثر الواضح لثقافة الزمخشري اللغوية والأدبية ، فأول بيت يشير إلى الرّجز المشهور :

الحمــــــد للــــــه الذي أعطى الشَـــــــــبَر (51)


17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري5    كن أول من يقيّم

فهنا يظهر أثر مخزون الزمخشري الثقافي الأدبي ، وكذلك إتيانه في هذه الأبيات بالجناس والتشبيهات الجميلة يدل على ذلك أيضاً.
وقد كان الزمخشري معتزليَّا كبيراً ، فتأثره بثقافته العقائدية الاعتزالية يظهر واضحاً فيما كتبه من مؤلفات ومصنفات ، ومنها مقاماته ، بل لقد كان الزمخشري يدعو فيها إلى تلك العقيدة.
وكون الزمخشري مفسراً كبيراً وهو كتاب تفسير ــ الكشَّاف ــ فقد كانت لــــــه ثقافته الدينية المستقلة في تفسير القرآن الكريم ، بل والداعية إلى مذهبه الاعتزالي ، وفي مقاماته يظهر تأثر الزمخشري الواضح بهذه الثقافة الدينية.
-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-==-=-=-=-=-

المصادر والمراجع

1
- ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، تحقيق : إحسان عباس ، دار الثقافة ، بيروت ، ج5 ، ص168.
2-
ابن حجر العسقلاني ، لسان الميزان ، دار الفكر ، ج6 ، ص6.

3- القفطي ، إنباه الرواة على أنباه النحاة ، تحقيق ، محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الكتب المصرية ، القاهرة ، 1955م ، ج3 ، ص265.
4- ابن شاكر الكتبي ، عيون التواريخ ، تحقيق ، فيصل السامر ، ونبيلة عبد المنعم داود ، وزارة الإعلام ، الجمهورية العراقية ، 1977م ، ج12 ، ص379.
5- إسماعيل البغدادي ، هدية العارفين في أسماء المؤلفين ، وآثار المصنفين ، دار الفكر ، 1982م ، ج6 ، ص402.
6- طاش كبرى زادة ، مفتاح السعادة ومصباح السيادة ، في موضوعات العلوم ، تحقيق : أحمد بن مصطفى ، دار الكتب ، الحديثة ، عابدين ، ج2 ، ص100.
7- ياقوت الحموي ، معجم الأدباء ، تحقيق ، إحسان عباس ، دار المغرب الإسلامي ، بيروت ط1 ، 1993م ، ج6 ، ص2688.

8- الزمخشري ، ديوان الزمخشري ، تحقيق ، عبد الستار ضيف ، ص216.
9- ياقوت الحموي ، مصدر سابق ، ج6 ، ص2687.
10- الداودي ، طبقات المفسرين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ج2 ، ص315.
11- ابن خلكان ، مصدر سابق ، ج5 ، ص169.
12- ياقوت الحموي ، مصدر سابق ، ج5 ، ص1961.
13- الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ، ومحمد نعيم العرقسوسي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط1، 1985م ، ج20 ، ص154.
14- السمعاني ، الأنساب ، تقديم وتعليق ، عبدالله عمر الباروحي ، دار الجنان ، بيروت ، ط1 ، 1988م ، ج3 ، ص154.
15- ابن أبي الوفاء ، الجوهر المضيئة في طبقات الحنفية ، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو ، هجر للطباعة ، القاهرة ، 1993م ، ج3 ، ص447.
16- ابن حجر العسقلاني ، مصدر سابق ، ج3 ، ص4.
17- ياقوت الحموي ، مصدر سابق ، ج6 ، ص2687 ـ 2688.
18- المصدر السابق ، ج5 ، ص1961.
19- زين الدين الحنفي ، تاج التراجم في مَنْ صنَّف من الحنفية ، تحقيق: إبراهيم صالح ، دار المأمون للتراث ، دمشق ، ط1 ، 1992م ، ص251.
20- ابن خلكان ، مصدر سابق ، ج5 ، ص168.
21- المصدر السابق ، ج2 ، ص340.
22- القفطي ، مصدر سابق ، ج3 ، ص268 ـ 269.
23- جلال الدين السيوطي ، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الفكر ، 1979م ، ط2 ، ج2 ، ص279.
24- الفيروز أبادي ، البُلغة في تراجم أئمة النحو واللغة ، تحقيق: محمد المصري ، منشورات مركز المخطوطات والتراث ، الكويت ، ط1 ، 1987م ، ص220.

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري6    كن أول من يقيّم

25- إسماعيل البغدادي ، مصدر سابق ، ج6 ، ص402.
26- ابن خلكان ، مصدر سابق ، ج5 ، ص168.
27-
عباس القميّ ، الكنى والألقاب ، المطبعة الحيدرية ، النجف ، 1970م ، ج2 ، ص298.
28-
الأنباري ، نزهة ألألبَّاء في طبقات الأدباء ، تحقيق: إبراهيم السامرائي ، مكتبة المنار ، الزرقاء ، الأردن ، ط3 ، 1985م ، ص290.
29-
حاجي خليفة ، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ، دار الفكر ، بيروت ، 1982م ، ج1 ، ص117 ، 164 ، وغيرها ، 185 ، وانظر: ج2 ، ص1009 ، 1022 ، 1056 ، وغيرها.
30-
المصدر السابق ، ج2 ، ص1475.
31-
ابن خلكان ، مصدر سابق ، ج5 ، ص168.
32-
ابن شاكر الكتبي ، مصدر سابق ، ج12 ، ص379.
33-
الزمخشري ، ديوانه ، ص189.
34- الداوديّ ، طبقات المفسرين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ج2 ، ص316.
35-
كارل بركلمان ، تاريخ الأدب العربي ، نقله إلى العربية: رمضان عبد التواب ، دار المعارف ، القاهرة ، ط3 ، ج5 ، ص217 ـ 224.
36-
ياقوت الحموي ، مصدر سابق ، ج6 ، ص2691.
37-
إسماعيل البغدادي ، مصدر سابق ، ج6 ، ص403.
38-
ابن أبي الوفاء ، مصدر سابق ، ج3 ، ص448،
39- زين الدين الحنفي ، مصدر سابق ، ص252.
40-
حاجي خليفة ، مصدر سابق ، ج2 ، ص1217.
41-
ابن حجر العسقلاني ، لسان الميزان ، ج6 ، ص4.
42-
الذهبي ، مصدر سابق ، ج20 ، ص156.
43-
ياقوت الحموي ، مصدر سابق ، ج6 ، ص2691.
44-
ابن شاكر الكتبي ، مصدر سابق ، ج12 ، ص379.
45-
ابن خلكان ، مصدر سابق ، ج5 ، ص169.
46- ياقوت الحموي ، مصدر سابق ، ج6 ، ص2691.
47-
حاجي خليفة ، ج1، ص117.
48-
كارل بروكلمان ، مصدر سابق ، ج5 ، ص224.
49-
الزمخشري ، شرح مقامات الزمخشري ، مقامة التصبُّر ، تحقيق: يوسف بقاعي ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، ط1 ، 1981م ،ص167 ـ 168.
نزّاءة: كثيرة النزو ، نزا إلى الشيء: نزع إليه ومال ، غزَّءة: كثيرة الغزو، صيغة مبالغة من اسم الفاعل غازٍ. طور الدنيا وطوارها: حدّها. الزور: مقدمة الصدر. الدَّبْرَة: الهزيمة. "من شرح المقامات نفسها".
50-
المصدر السابق ، مقامة اجتناب الظلمة ، ص185 ـ 186.
51-
العجَّاج ، ديوان العجَّاج ، رواية عبد الملك بن قريب الأصمعي وشرحه ، تحقيق: عبد الحفيظ السطلي ، المطبعة التعاونية ، دمشق ، د.ط ، 1971م ، ص4 ، الشَّبَر: العطية ، من الديوان نفسه
 
المصدر : أيمن خالد دراوشة / الدوحة / قطر.

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري وكتابه أساس البلاغة .1    كن أول من يقيّم

                                    الزمخشري وأساس البلاغة
ما أكثر الذين جاوروا بمكة خلال العصور الإسلامية، ولكن مجاورًا واحدًا هو الذي حمل اسم جار الله. إنه أبو القاسم محمود بن محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، المولود سنة 467هـ والمتوفَّى عام 538هـ(1).
فقد كُتب له أن يجاور بمكة المكرّمة ويشتهر بهذا اللقب الذي غلب عليه، وهذه مزية عظيمة ومنقبة جليلة، وقد كان يحلم بحمل لقب (جار الله) وهو بعدُ مقيم ببلده خُوارزم، قبل أن يعقد العزم ويخرج منه غير مبالٍ بتلك التي حاولت أن تمنعه(2):
قامتْ لِتَمْنَعَني المسيرَ تُماضِرُ
سِيرِي تُماضِرُ حيث شئتِ وحدِّثِي
حتى أنيخَ وبينَ أطماري فَتًى
سأقيـمُ ثَمّ وثَمّ تُدفـنُ أعظُمي أَنَّى لها وغِرارُ عَزْمي باتِرُ
أني إلى بطحاء مكة سائِرُ
للكعبة البيت الحرام مجاورُ
ولسوف يبعثُني هناكَ الحاشِرُ
وعندما تحقق حلمه حمد الله على النعمة العظيمة التي أنعم بها عليه. قال في ديباجة أطواق الذهب: "ولما اقترحت عليك الأسباب المقصية عن الدار التي اقترفت فيها المعصية، عطفت عليّ في ذلك عطفَ حفيٍّ، وتداركتني بلطفٍ خفيٍّ، واصطنعتني بالنقل إلى أحب بلادك إليك، وأعزها وأكرمها عليك، وحلّيتني بدُمْلُج الفخر وسواره حين شرفتني بحج بيتك وجواره"(3).
وقد افتخر بجوار مكة وبلقب جار الله في شعر له، فقال(4):
أنا الجارُ جارُ الله مكة مَرْكَزي ومَضْرِبُ أوتادي ومَعْقِد أطنابي
وزاد بعض أحبابه فقال:
لقد حاز جارُ الله -دام جمالُه-
تجدّدَ رسم الفضـل بعد اندراسِهِ فضائل فيها لا يشقّ غُبارُه
بآثار جارِ اللهِ فاللهُ جـارُه(5)

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري وكتابه أساس البلاغة 2    كن أول من يقيّم

ويبدو أنّ أسبابًا دعته –وهو مجاور- إلى زيارة بلده، فما أن قضى لُبانته حتى رجع مسرعًا إلى مكة؛ لأنه لم يكن يبغي بها بديلاً، وفي ذلك يقول:
وما كان إلاّ زورةً نهضتي إلى
فلما قضت نفسي ولله درّها
كررت إلى بطحاء مكة راجعًا
فمنْ يُلْقِ في بعض القُرَيّاتِ رحله
ومن كان في بعض المحاريب راكعًا بلاد بها أوطان رهطي وأحبابي
لُبانةَ دار زندُها غيرُ خيَّابي
كأني أبو شبلين كرَّ إلى الغابِ
فأمّ القرى ملقى لِرَحْلي ومنتابي
فلَلْكعبةُ البيتُ المحرَّم مِحرابي(6)
وكان خلال غيبته عن مكة لا ينفك عن ذِكرها والبكاء على أيامه بها.
ولم يكن جار الله مجاورًا عاديًّا؛ إذ كان علمه وزهده وتفرُّده يدفع خاصة الناس وعامّتهم إلى السعي في خدمته، وقد كان في مقدمتهم أمير مكة أبو الحسن علي بن حمزة بن وهّاس(7) الذي اتخذ الزمخشريَّ أستاذًا مُربِّيًا، وهيّأ له مُقامًا طيِّبًا. يقول فيه جار الله:
على بابِ أجيادٍ بنى لي منـزلاً
وأنفـق في إتمامـه من تـلاده كركن شمام بالصفا متواصفا
ثقيلاتِ وزن في البلاد خفائفا(8)
وإذا كان أصحاب كتب الطبقات يذكرون مشيخة الزمخشري للأمير ويروون أشعارًا للأمير في مدح شيخه فإنّ الزمخشري لا يعدّ الأمير تلميذًا، وإنما يعدّه أخًا وحاميًا له كما يقول(9):

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري وكتابه أساس البلاغة 3    كن أول من يقيّم

بمكة آخيتُ الشريفَ وفِتيةً
وكان ابنُ وهّاسٍ لجنبيَّ فارشًا
يُتابعُ إن نوظِرْتُ دَرْءًا لشاغِبٍ تُواليه من آل النبي غطارِفَا
كما تفعلُ الأمُّ الحَفِيَّة لاحِفَا
وينهضُ إن ذوكرتُ رِدْءًا مُكاتِفَا
ويقول(10):
ولولا ابنُ وهَّاسٍ وسابقُ فضلهِ رعيتُ هشيمًا وانتقيتُ مصرَّدَا
وقد ألّف الزمخشري أعظم تآليفه، وهو "الكشاف" برسم هذا الأمير العالم، وفي مقدمته يقول: "فلما حططت الرّحل بمكة إذا أنا بالشعبة السّنِية من الدوحة الحسنية الأمير الشريف الإمام شرف آل رسول الله أبي الحسن عليِّ بن حمزة بن وهَّاس، أدام الله مجدَهُ، وهو النكتة والشَّامَة في بني الحسن، مع كَثرةِ محاسِنِهِم وجُمُوم مناقبهم، أعطشُ الناس كَبِدًا وأَلْهَبَهُم حَشًى، وأوفاهم رَغْبة، حَتّى ذكر أنه كان يُحدِّث نفسَه في مُدّة غَيْبَتي عَن الحجاز -مع تزاحُم ما هو فيه من المشادة- بقَطْعِ الفيافي وطَيِّ المهامهِ، والوفادة علينا بخُوارزم ليتوصَّل إلى إصابة هذا الغَرَض"(11).
وبعد، فلقد كان لمقام جار الله في مكة أثر كبير في حياته وتراثه، فأهمّ مؤلفاته وُجِدت في الحرم المطهّر، ووُلِدت في حجر البيت المسَتَّر(12)، ومنها -فيما يبدو- "أساس البلاغة"، فالإشارات التي فيها ذِكر الحجاز ومكة والمدينة والطائف وغيرها تدلّ على أنه أُلِّف خلال المجاورة بمكة؛ ذلك أننا نجد أحيانًا في "الأساس" شيئًا من الاستطراد اللطيف الذي يشعر بوجود المؤلف الذي جَاوَرَ بمكة مدّة من الزمان ودُعِي "جار الله" كما ذكرنا، وهو يذكر عرضًا بعض ما كان يسمعه أو يراه في سكك مكة، وهذا هو الذي أريد أن أعالجه في هذه المقالة.
 يتوضأ
r
فمن ذلك قوله عند ذِكره مادة (ت و ر): "وكان رسول الله  بالتَّوْر، وهو إناء صغير، وهو مذكَّر عند أهل اللغة. ومررتُ بباب العُمْرة(13) على امرأة تقول لجارتها: أعيريني تُوَيْرَتَكِ". وفي هذا المثال إشارة إلى استعارة المواعين التي كانت من الأمور المعروفة بين الجيران، وفيه الاستشهاد بمؤنث "تَوْر" مصغَّرًا.
ويقول في مادة (ش ق ق): "وسمعتُ بمكة مَن يقول لحامل الْجُوالق: استَشِقَّ به، أي حرّفه على أحد شقَّيه حتى ينفذ الباب". ويبدو أنّ بعض الأبواب في مكة كانت ضيّقة.
و يقول في مادة (ر ن ج): "سمعتُ صبيان مكة ينادون على المُقل: ولد الرانِج، وهو الجوز الهندي". والمقل هو ثمر الدوم، شبّهوه بثمر جوز الهند، ترغيبًا فيه وإعلاء من شأنه. وقد كان المقل كثيرًا بالحجاز وفي هذا يقول الزمخشري أيضًا مادة (ب هـ ش): "وفلان من أهل البهش، أي من أهل الحجاز؛ لأنّ البهش وهو المقل الرطب ينبت به".

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري وكتابه أساس البلاغة 4    كن أول من يقيّم

بمكة آخيتُ الشريفَ وفِتيةً
وكان ابنُ وهّاسٍ لجنبيَّ فارشًا
يُتابعُ إن نوظِرْتُ دَرْءًا لشاغِبٍ تُواليه من آل النبي غطارِفَا
كما تفعلُ الأمُّ الحَفِيَّة لاحِفَا
وينهضُ إن ذوكرتُ رِدْءًا مُكاتِفَا
ويقول(10):
ولولا ابنُ وهَّاسٍ وسابقُ فضلهِ رعيتُ هشيمًا وانتقيتُ مصرَّدَا
وقد ألّف الزمخشري أعظم تآليفه، وهو "الكشاف" برسم هذا الأمير العالم، وفي مقدمته يقول: "فلما حططت الرّحل بمكة إذا أنا بالشعبة السّنِية من الدوحة الحسنية الأمير الشريف الإمام شرف آل رسول الله أبي الحسن عليِّ بن حمزة بن وهَّاس، أدام الله مجدَهُ، وهو النكتة والشَّامَة في بني الحسن، مع كَثرةِ محاسِنِهِم وجُمُوم مناقبهم، أعطشُ الناس كَبِدًا وأَلْهَبَهُم حَشًى، وأوفاهم رَغْبة، حَتّى ذكر أنه كان يُحدِّث نفسَه في مُدّة غَيْبَتي عَن الحجاز -مع تزاحُم ما هو فيه من المشادة- بقَطْعِ الفيافي وطَيِّ المهامهِ، والوفادة علينا بخُوارزم ليتوصَّل إلى إصابة هذا الغَرَض"(11).
وبعد، فلقد كان لمقام جار الله في مكة أثر كبير في حياته وتراثه، فأهمّ مؤلفاته وُجِدت في الحرم المطهّر، ووُلِدت في حجر البيت المسَتَّر(12)، ومنها -فيما يبدو- "أساس البلاغة"، فالإشارات التي فيها ذِكر الحجاز ومكة والمدينة والطائف وغيرها تدلّ على أنه أُلِّف خلال المجاورة بمكة؛ ذلك أننا نجد أحيانًا في "الأساس" شيئًا من الاستطراد اللطيف الذي يشعر بوجود المؤلف الذي جَاوَرَ بمكة مدّة من الزمان ودُعِي "جار الله" كما ذكرنا، وهو يذكر عرضًا بعض ما كان يسمعه أو يراه في سكك مكة، وهذا هو الذي أريد أن أعالجه في هذه المقالة.
 يتوضأ
r
فمن ذلك قوله عند ذِكره مادة (ت و ر): "وكان رسول الله  بالتَّوْر، وهو إناء صغير، وهو مذكَّر عند أهل اللغة. ومررتُ بباب العُمْرة(13) على امرأة تقول لجارتها: أعيريني تُوَيْرَتَكِ". وفي هذا المثال إشارة إلى استعارة المواعين التي كانت من الأمور المعروفة بين الجيران، وفيه الاستشهاد بمؤنث "تَوْر" مصغَّرًا.
ويقول في مادة (ش ق ق): "وسمعتُ بمكة مَن يقول لحامل الْجُوالق: استَشِقَّ به، أي حرّفه على أحد شقَّيه حتى ينفذ الباب". ويبدو أنّ بعض الأبواب في مكة كانت ضيّقة.
و يقول في مادة (ر ن ج): "سمعتُ صبيان مكة ينادون على المُقل: ولد الرانِج، وهو الجوز الهندي". والمقل هو ثمر الدوم، شبّهوه بثمر جوز الهند، ترغيبًا فيه وإعلاء من شأنه. وقد كان المقل كثيرًا بالحجاز وفي هذا يقول الزمخشري أيضًا مادة (ب هـ ش): "وفلان من أهل البهش، أي من أهل الحجاز؛ لأنّ البهش وهو المقل الرطب ينبت به".

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري وكتابه أساس البلاغة 5    كن أول من يقيّم

ويقول في مادة (خ ض د): "ومنه قول صبيان مكة في ندائهم على القِثاء: العَثَرِي العَثَرِي عثَر فتكسَّر"، أي أنهم يمدحون طراوته، وما يزال للقثاء هذا الشأن في المشرق، وأمّا في المغرب فإنها لا تؤكل إلاّ نادرًا.
والنداء على الفواكه عادة قديمة، فالشاعر الدمشقي الملقّب بالوأواء كان -فيما قيل- مناديًا على الفواكه(14)، وما تزال هذه العادة معروفة إلى الآن.
ويقول في مادة (ع ر د): "وسمعتُ في طريق مكة صبيًّا من العرب وقد انتحى عليه بعير يقول: ضربتُه فَعَرَّد عني"، ومعنى عَرَّد: انحرَفَ. وما يزال الأطفال في الجزيرة يقودون الإبل فتنقاد إليهم، ويركبونها فتسرع بهم(15).
ويجعلنا الزمخشري نتصوّر هيئته جالسًا في الحرم المكي برجله الخشبية التي كانت تثير فضول بعض الغرباء البسطاء، وذلك إذ يقول في مادة (ع ض ب): "ورجلٌ معضوب (بالضاد): زَمِنٌ. ووقَفَ عليَّ شيخٌ من أهل السَّراة(16) في المسجد الحرام فقال لي: ما عَضَبَك؟". ومعنى السؤال: ما سبب زمانتك.
وسؤال هذا الشيخ البدوي القادم من نواحي مكة سأله للزمخشري عالم معروف هو أبو الحسن الدامغاني، فأجاب: "إنني في صباي أمسكتُ عصفورًا وربطتُه بخيط في رجله، وانفلت من يدي فأدركْتُه وقد دخَل في خَرْقٍ فجَذَبْتُه فانقطعتْ رجلُه في الخيط، فتألّمتْ أمّي لذلك وقالت: قطع الله رِجْلَ مَن قَطَع رِجْلَه. فلمّا وصلتُ إلى سِنّ الطّلب رحلتُ إلى بُخارَى لطلب العلم فسقَطْتُ عن الدابّة فانكسرتْ الرِّجل وعمِلْتُ عملاً أوجبَ قَطْعَها"(17).
ونجد الزمخشريَّ في سياق شرحه لبعض الألفاظ يذكر بعض عوائد أهل مكة وكلماتهم. يقول في مادة (ص ق ر): "ورُطَبٌ مُصَقَّر: مَصْبُوبٌ عليه دِبْس الرُّطَب، وأهل مكة يصبُّون عليه العسل في البَراني". والبراني جمع برنية، وهي إناء معروف يحفظ فيه العسل وغيره، ولست أدري هل ما يزال أهل مكة يفعلون هذا أم لا.

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري وكتابه أساس البلاغة6    كن أول من يقيّم

ويقول في مادة (د ق ق): "ورأيت العرب يسمّون الكُزُبرة الدقّة، وسمعتُ باعة مكة ينادون عليها بهذا الاسم". وقد كان النداء على البضاعة من لوازم أسواق مكة وغيرها كما تقدم. ومثل هذا قوله في مادة (ش ر ق): "شَرقت الثمرة إذا قطفتها، ويقولون في النداء على الباقلَّى: شرق الغداة طري أي قطف الغداة".
وثمة في "الأساس" ما يشير إلى لقاء جار الله بعض الحجاج والمعتمرين، ومنهم وافدون من بلاد بعيدة. يقول في مادة (ل ث م): "ولَثَم فاهُ ولَثََّمه، وناسٌ من المغاربة يقال لهم: الْمُلَثِّمة"(18). والملثِّمة أو الملَثّمون هم الذين أسسوا دولة المرابطين، وقد نبتت فكرة تأسيسها في رأس أحد زعماء الملثّمين عندما كان راجعًا من الحج إلى بلده(19). وثمة حكاياتٌ تُروى في المصادر عن سبب اتخاذهم اللثام(20)، ومما جاء في مدح بعض الشعراء:
لَمّا حَوَوْا إحرازَ كلِّ فضيلـة غَلَب الحياءُ عليهمُ فتَلَثَّمُوا
وقد كان الزمخشري معاصرًا لهذه الدولة، وإدخاله كلمة "الملثِّمة" في معجمه قد يدل على أنه رأى بعضهم في موسم الحج(21)، ولا وجود للكلمة في المعاجم القديمة، وقد استدركها الشيخ مرتضى على صاحب "القاموس" أخذًا من "الأساس" فيما يبدو. قال: "والملثّمون قوم من المغرب مَلكوا الأندلس"(22).
وفي مادة (ك ت ب): "وسَأَلني بعض المغاربة ونحن في الطواف عن القَدَر؟ فقُلْتُ: هو في السماء مَكْتوب، وفي الأرض مَكْسوب". ويبدو أنّ هذا البعض من المغاربة كان يسمع عن الزمخشريِّ المعتزليِّ فأراد أن يتأكد من مذهبه الذي كان يجاهر به وينتصر له، وقد عرّض بل صرّح في "الكشاف" مرارًا بأهل السنّة وسمّاهم المجبرة، أي الذين يقولون بالجبر. ويذكرنا قول الزمخشري "وفي الأرض مسكوب" بنظرية الكسب التي تنسب إلى أبي الحسن الأشعري والتي قيل فيها: أدقُّ من كَسْب الأشعري.

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
 53  54  55  56  57