أسعدتم مساء جميعاً.. كن أول من يقيّم
من عادة الشعراء في الجاهلية أن يبدؤوا مطالع قصائدهم بالوقوف على الأطلال والغزل، ويوصف كثير من الشعراء ببراعة الاستهلال، وذلك حين يبدعون بذلك الوقوف وذلك الغزل، وكان شاعرنا كعب بن زهير من ضمن الشعراء الجاهليين، ينحو منحاهم، ويتبع طريقهم؛ فهو واحد منهم وليس من سواهم. قدم كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً تائباً من براثن الجاهلية إلى حمى الإسلام، نادماً على أفعاله المنكرة، قادماً من شرٍّ عميم إلى ظلال الخير والبركات في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم معلناً إسلامه ونابذاً للشرك والجاهلية، معتذراً طالباً السماح من الصادق المصدوق بعد أن أهدر دمه. كان الشعراء لهم شأنهم بين القوم (مثل الجريدة والتلفزيون والراديو في عصرنا) يستطيعون تغيير مسار كثير من الأمور، بحجة أقوى من كل الحجج، ولسان أبلغ من كل لسان، وإذا خرجت عن الموضوع قليلاً أقول: لذلك أتت حجة القرآن الكريم لتلجم العرب، وتجعلهم مذهولين أمام البلاغة القرآنية. المهم.. دخل كعب بن زهير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ ينشد قصيدته المشهورة (البردة)، وأخذ يستهل قصيدته كعادة (زملائه وأصدقائه)، إلى أن قال ما قال في الغزل، وبعد أن انتهى جاءت باقي القصيدة.. ومنها أنه كان موعوداً بالعفو والمغفرة من رسول الله، وأن الوشاة كان لهم يد بمسألته. أما النبي عليه صلوات الله وسلامه، فلم يعترض على هذا الاستهلال لإدراكه أن هذا الأمر لازم عند الشعراء الجاهليين، فلا تكاد قصيدة تخلو منه، ولن يعاقب كعباً عليها بعد أن جاءه مسلماً مستسلماً.. وقد شفع لكعب في ذلك أيضاً ما قاله في مدح النبي عليه الصلاة والسلام، فنستطيع القول إن هذه القصيدة لها حكم خاص عند النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أنه لم يأت شعر في عصر النبوة يشبهها من ناحية الغزل على أقل تقدير، هذا كله أمر. أما الأمر الآخر فهو كما سمعته من أستاذ الأدب الإسلامي في جامعة دمشق أوائل التسعينيات، من أن (سعاداً) المقصودة في الأبيات هي كناية عن (الدنيا)، فهي مقبلة ومدبرة، وهي جميلة وفي غاية الحسن أيضاً، كيف لا وقد كانوا في الجاهلية يتنعمون بكل شيء ولا يتورَّعون عن ملذاتهم بأي شيء، يأخذون الدنيا بكل تفاصيلها وزخرفها وملذاتها، وهكذا كان شأن كعب حين وصفها بـ(سعاد)، وسعاد من السعادة والهناء، جعل الله أيامكم كلها سعادة وهناء (جمعياً)، وأرجو أن أكون قد وفقت في قولي. |