مقارنة بين جيلين كن أول من يقيّم
بارك الله أستاذنا ومرشدنا زهير ظاظا، وحفظه من كل مكروه، وأقر به عيون أسرته الكريمة وجميع محبيه، هذا، وأشكره على اهتمامه بزيارتي للقدس الشريف ، وعلى ما أمتعنا به من معلومات قيمة حول الشاعر المرحوم عبد الرحيم محمود ومنتقيات من أشعاره وأخباره . ويبدو أن أستاذنا ظن أنني أنا السائل عن الموسوعة الشعرية حيث لم ينتبه إلى أن الأستاذ تركي هو الذي سأل ، فبارك الله في السائل والمجيب . وكان تساؤل أستاذنا عن السبب في عدم حضور الطيب عبد الرحيم ومشاركته في الحديث عن أبيه قد اثار في نفسي الكتابة ،وربما بالغت فيها حتى تجاوزت الإجابة حين قلت: أما الطيب عبد الرحيم أمين عام مجلس الرئاسة فلست أدري لم لم يشارك في الحديث عن أبيه، وربما كان لتغير الحال السياسية الفلسطينية، والعربية الإسلامية عما كانت عليه أيام عبد الرحيم محمود وما هي عليه الآن نصيب في عدم المشاركة. ويحضرني الآن ما حدثني به صديق كان على صلة بالمرحوم فيصل الحسيني ، ابن الشهيد عبد القادر الحسيني ملخصه أن المتنفذين من الفلسطينيين تبدى لهم في أوائل السبعينات أن عليهم أن يتجهوا اتجاها سلميا واقعيا في سعيهم لتحرير بلادهم من الاحتلال، وقد رأوا حينذاك في تحرير القنيطرة أن السوريين( وهم وطنيون قوميون) قد انتهجوا نهجا سلميا* . ونتيجة لذلك أخذ فيصل الحسيني يومها يسعى ، هو وغيره، لنشر ثقافة معرفة الممكن من غير الممكن في السياسة الحاضرة بين الفلسطينيين، من ناحية السعي لتحرير ما احتلته إسرائيل في حرب الأيام الستة، وأن الأوضاع العربية والإسلامية لا تبشر بالمقدرة على الاستمرار بالنهج القديم من المطالبة بتحرير فلسطين كلها كما كان ينادي، مثلا، المرحوم الأستاذ أحمد الشقيري، ومن قبله المرحوم الحاج أمين الحسيني، ومن قبلهما الشيخ القسام وعصبته رحمهم الله . فهذه سوريا قد بدأت تحقق غايتها، وعلينا نحن الفلسطينيين أن لا نتوانى عن اللحاق بالركب بأن ننتهج نفس النهج السوري . هذا ما حدثني به صديقي وهو ينقل لي ما سمعه من فيصل الحسيني نفسه. وأضاف صديقي: يومها أخذ المرحوم الحسيني يطوف ببعض البلدات الفلسطينية ، ومن بينها بلدات فلسطينية كانت قد وقعت تحت الاحتلال سنة ثمانية وأربعين ، منها " أم الفحم "، حيث ذهب الحسيني إليها وألقى في جمع من أهلها خطابا يتضمن الفكرة السلمية الجديدة ، وكان من بين الحضور رجل عجوز عرف عبد القادر الحسيني والد فيصل أيام كانت فلسطين لم تقع بعد في قبضة اليهود، فصاح بفيصل قائلا: " الله يرحم أبوك..والله في هذا المكان الذي تقف فيه وقف أبوك ووزع علينا بعض الأسلحة...". لقد ذكرت ما ذكرت للتفريق بين حال كنا فيها وحال صرنا إليها .. فالكثير من رجالات فلسطين السابقين ممن شاركوا في العمل الجهادي أيام الانتداب الإنجليزي والهجرة اليهودية إلى فلسطين، نجد من أبناءهم الآن من يشارك ولكن بنهج آخر لا يتفق مع ما كان عليه نهج آبائهم بطبيعة الحال. من هنا، لا يمكن للأغلبية من الناس من أن يقتنع وجدانهم بأن تصرف الابن المغاير تماما لتصرف أبيه يمكن أن يجد محلا يستريح فيه في ذلك الوجدان . فلو حضر الطيب عبد الرحيم وشارك في برنامج يتحدث عن أبيه، لتبادر إلى أذهان المشاهدين المقارنة بين حالين متباينتين، وبين رجلين لا رابطة بينهما غير النسب . وقد سبق للشاعر عبد الرحيم محمود أن قال: وَاِغصب حُقوقَكَ قَطُّ لا تستَجدِها إِنَّ الأَلى سَلَبوا الحُقوقَ لِئامُ هذي طَريقُكَ لِلحَياةِ فَلا تَحِد قَد سارَها مِن قَبلِكَ القَسّامُ بينما نجد طريق ابنه الطيب هو وزملاؤه قد ابتعدت عن طريق الشيخ القسام، فلكل زمان دولة ورجال ، ولكل زمان سياسة ومقال. ولا اعني بالمشاهدين كبار السن الذين عاصروا الأحداث الفلسطينية السابقة فقط، بل وأعني الكثيرين من الشباب والكهول، الذين درسوا في المدارس ، ونقلوا عمن هم اكبر منهم سنا، ما كانت عليه حال القضية الفلسطينية قبل ضياع فلسطين، ثم عاصروا ما آلت إليه تلك القضية. ويبقى من الفلسطينيين فئة نشأت في عهد الاحتلال ، وهذا الاحتلال فرض بقوته واقعا ملموسا.. فرضه على الأرض، وفرضه على السياسة، وفرضه على الاقتصاد، وفرضه على احتياجات الناس اليومية.. وهو واقع فرض نفسه على العقول أيضا، ثم نفذ منها إلى النفوس فخضعت له واستكانت ؛ متعللة بالضعف العربي والفرقة العربية.. وربما كان لهذه الفئة أو جزء منها بعض عذر في ما تتعلل به وتدعيه ، فلا أشد تأثيرا على الناس من الواقع المعاش . ولذا رأينا دولة الاحتلال وقد بدأت بفرض واقع جديد على الأرض المحتلة عشية احتلالها بيت المقدس خاصة وباقي الأراضي الفلسطينية عامة. ولم يكن هدفها التأثير على نفوس الفلسطينيين وحدهم، وإنما التأثير على نفوس العرب، والمسلمين، وعلى نفوس الشعوب الغربية وحكامها أيضا، الذين يرون في الواقعية مذهبا لا بد من مجاراته. ولكن هذه الفئة بدأت تدرك أن الصهاينة في واقع الأمر لن يقدموا للفلسطينيين حلا عادلا ، فالعدل عندهم ينبثق مما يرونه في صالحهم فقط، دون اعتبار لمصالح الفلسطينيين . ولكن هذا الإدراك يبدو أنه جاء متأخراً. إن ما ذكرته آنفا يمكن ان يفهم منه أن العرب والمسلمين لم يشاركوا ولا يشاركون حتى الآن في صنع واقعهم ولا في صنع مستقبلهم؛ وإنما يسيرون وفقا لما تمليه عليهم مساعي الناس الآخرين. والأقدار نفسها، والتي تقع بمشيئة الله تعالى بطبيعة الأمر، يشارك الناس في نتائجها إيجابا أو سلبا؛ قصدوا ذلك أو لم يقصدوا. فالله سبحانه عندما يجزي المجدّ خيرا، ويجازي التنبل الكسول شرا ، تكون المجازاة قد قدرها الله وفقا للجد أو للكسل، وهما، أي الجد والكسل، من عمل العبد دون شك. إنني في ما ذكرت لا أعيب على أحد نهجا، ولا أتدخل في سياسة فلسطينية أو عربية اتبعها من اتبعها وخالفها من خالفها، فلست في موقع يؤهلني لذلك؛ وإنما أبين اجتهادي في شيء من السبب الذي أثر تأثيرا كبيرا في تشكيل حال الأمة، وتباين أفكار أجيالها؛ في أمسها ، وفي حاضرها، وربما في مستقبلها، من موقع الذي يغار على أمته بقدر ما تؤلمه أحوالها. وتبقى نوايا الناس لا يعلمهما إلا رب الناس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * لو كنا في موقع التصويب والتخطئة لقلنا: لا مقارنة بين نهج الفلسطينيين ونهج السوريين في الحين الذي ذكرناه. فالسوريون أصحاب دولة يمكن أن تسري عليهم قوانين الدول، بينما لا تسري بالمثل على الفلسطينيين الضعاف المحتلة جميع أراضيهم، هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى عادت القنيطرة إلى أهلها ، وإن مدمرة، دون أن يجد الصهاينة من السوريين مقابلا. ومما يدل على ذلك أن مسيرة الحل السلمي بين السوريين والصهاينة قد توقفت منذ ذلك الحين. كما أن أطماع الصهيونية في فلسطين لها الأولوية عندها، ثم تأتي الأطماع بباقي الوطن العربي . ولن أنسى ما قاله شمعون بيرس مرة ، وذلك بعد اتفاقيات وادي عربة ومن قبلها كامب ديفيد: لن يمنعني أحد من أن أحلم بإقامة إسرائيل الكبرى. |