البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات د يحيى مصري

 52  53  54  55  56 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 50    كن أول من يقيّم

منافسة علماء مصر لأحمد المقري
 رجعنا إلى الحديث الأول قال: ووجدت الفقيه أبا العباس المذكور قد وقع بينه وبين طلبة العلم من أهل مصر شحناء عظيمة، وحدث أن سببها اتفاق غريب، وهو أنه حضر ذات يوم سوق الكتب وهو إذ ذاك لم يعرف، فوقع في يده سِفْرٌ من تفسير غريب، ففتح على "تفسير" سورة النور. فإذا هو قد تعرض لمسألة فقهية غريبة، وذكر فيها اختلافاً وتفصيلاً وتحقيقاً، فحفظ ذلك كله على الفور، وكان رجلاً حافظاً، ثم اتفق عن قريب أن اجتمع علماء البلد في دعوة وحضر معهم، فلما استقر بهم المجلس إذا سائل في يده بطاقة يسأل عن تلك المسألة نفسها، فدفعت للأول من أكابر أهل المجلس، فنظر فكأنه لم يحضره فيها ما يقول، فدفعها لمن يليه، ثم دفعها الآخر للآخر وهكذا حتى بلغت أبا العباس المذكور، فلما تناولها استدعى الدواة فكتب عليها الجواب بنحو ما حفظ، فجعلوا ينظرون إليه متعجبين، فلما فرغ تعاطوها فقالوا: من ذكر هذا؟ فقال لهم: ذكره فلان في تفسير سورة النور، فالتمسوا التفسير فإذا الأمر كما ذكر، فدخلهم من ذلك ما هو شأن النفوس.
قلت: وليس هذا ببدع، فما زال هذا الجنس يتحاملون على من توسموا فيه شفوفاً عنيهم، أو مزاحمة في رتبة أو حظ إلاّ من عصمه الله، وقليل مثلهم.
كضرائر الحسناء قلن لوجهها               حسداً وبغضاً أنه لـدَمـيمُ.
وقد أفتى بعض الفقهاء أنه لا تقبل شهادة بعضهم على بعض لهذا المعنى، ولا شك أنه "ليس" على العموم، ولكنه شائع معلوم.
فمن ذلك ما وقع للإمام سيبويه مع أهل الكوفة، وقصته مشهورة.
وما وقع لسيف الدين الآمدي مع أهل مصر، فإنه لما برز عليهم في العلوم أنكروه ونسبوه إلى الأهواء، وكتبوا عليه رسماً بذلك، فكانوا يدفعونه بعضهم لبعض ليوقعوا فيه الشهادة على ذلك، فكانوا يشهدون حتى انتهى إلى بعض من وفقه الله وعصمه فوقع تحت الشهادات.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه             فالقوم أعداء له وخصـوم
وقد تناهى به ذلك حتى خرج من مصر.
وما وقع للفقيه محمد بن تومرت المعروف بالمهدي إمام الموحدين، فإنه دخل مدينة مراكش مَقْفَلَهُ من المشرق، فحرَّك العلوم العقلية، وكانوا أهل بادية لا يعرفون ذلك، فقالوا: هذا أدخل علينا علوم الفلاسفة، ووَشوا به إلى اللمتوني حتى كان من أمره ما كان.
و"مثله" ما وقع للإمام أبي الفضل بن النحوي حين دخل سجلماسة فجعل يدرس أصول الدين وأصول الفقه، فمر به عبد الله بن بسام أحد رؤساء البلد فقال: ما العلم الذي يدرسه هذا؟ فأخبروه، وكانوا قد اقتصروا على علم الرأي فقال: هذا يريد أن يدخل علينا علوماً لا نعرفها، وأمر بإخراجه، فقام أبو الفضل ثم قال "له": أمَتَّ العلمَ أماتك الله ههنا، قالوا: وكانت عادة أهل البلد أن يعقدوا الأنكحة في المسجد، فاستحضروا ابن بسام لعقد نكاح صبيحةَ اليوم الثاني من ذلك اليوم، فخرج سَحَراً وقعد في المكان المذكور، فمرت عليه جماعة من ملوانة إحدى قبائل صنهاجة فقتلوه برماحهم، وارتحل أبو الفضل إلى مدينة فاس فتسلط عليه القاضي ابن دبوس ولقي منه ما لقي من ابن بسام، فدعا عليه أيضاً فهلك، ولما رجع إلى وطنه القلعة واشتغل بالتقشف تسلط عليه ابن عصمة أيضاً فقيه البلد بالإذاية.
وهذا النوع أعني الفقهاء ولا سيما أرباب المناصب منهم كالقضاة لم يزالوا متسلطين على أهل الدين كما وقع لهذا، وكما وقع للقاضي ابن الأسود مع الإمام العارف أبي العباس بن العريف ولابن "أبي" البراء مع القطب الجامع أبي الحسن الشاذلي وكلهم قد أخذهم الله بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، نسأل الله تعالى العصمة من اتباع الهوى، ونعوذ بالله أن نظلم أو نظلم، إنه الحفيظ الرحيم

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 51    كن أول من يقيّم

وحدثني الحاج المذكور أيضاً قال: دخلنا مكة شرفها الله فدخلت ذات يوم المسجد الحرام فإذا هو غاص بأهله والناس مزدحمون فقلت: ما هذا؟ فقالوا: جنازة ولد توفي للشيخ يوسف الوفائي وكان حاضراً في تلك الحجة، قال: وكنت أعرفه، فجئت إليه لأعزيه في مصيبته، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت عليه وهو مع أصحابه فإذا هو يتحدث وهو في غاية ما يكون من البسط والسرور، قال: فجلست أمامه وقلت: أعظم الله أجرك فأنكر علي غاية الإنكار وقال: أمثلك يقول هذا؟ وقد طالما كنت أتمنى أن يجعل الله "جسدي في هذه البقاع المشرفة، واليوم قد جعل الله" بعضي فيها، فله الحمد وله الشكر، أو كلاماً هذا معناه رحمة لله ورضي عنه، "و" إنما أذكر مثل هذه القصة للاعتبار والائتساء.
وحدثنا أيضاً قال: بتنا عند الفقيه الشيخ علي الأجهوري برسم زيارة، فبات ليله على النظر في كتب العلم، وهو يشرب الدخان، فكان له صاحب بعمر له الدواة حتى إذ فرغت عمر أخرى، ويرى حلَيَته.
قال: وكان الشيخ إبراهيم اللقاني معاصره وبلديه يفتي بحرْمته.
لله الأمر من قبل ومن بعد
قضاء الحاجات عند الصلحاء
وكان يحدثناعن أسلافه أن ثلاثة من صلحاء الغرب قد جرب عندهم قضاء الحاجات: الشيخ عبد السلام بن مشيش، والشيخ أبو يعزى "يلنور" والشيخ أبو سلهام، غير أنهم اختلفوا، فالأول في أمور الآخرة، والثالث في أمور الدنيا، وأبو يعزي في الكل، نفعنا الله بهم وبأمثالهم.
وقد ذكر غيره كالشيخ زروق أن هؤلاء الثلاثة أبا يعزى وأبا العباس السبتي وأبا مدين قد وقع الانتفاع بهم بعد الموت، وهذا بحسب ما اشتهر وانتشر، وإلاّ فالانتفاع واقع بأولياء الله كثيراً في كل أرض.
وقد شاهدت المولى أدريس بن إدريس رضي الله عنه أيام مقامي بمدينة فاس تِرْياقاً في كل ما أنزل به من حاجة.
وحدثونا في درعة عن الشيخ سيدي أحمد بن إبراهيم أنه كان يقول لهم: إن سيدي أبا القاسم الشيخ وهو معروف هنالك يقضى عنده ما يقضى عند الشيخ أبي يعزى.
وحدثني بمدينة مراكش الفاضل أبو العباس أحمد بن أبي بكر الهشتوكي قال: رأيت ذات ليلة فيها يرى النائم أني دخلت مقام الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي، فإذا هو جالس وهو يقول، من كانت له إلى الله حاجة فليأتنا، قال فلما أصبحت وكان أمير الوقت قد بعث إلى أهل المدينة أن يعطوا الرماة، وشق عليهم ذلك كثيراً، وكان قوم قد ذهبوا إليه وعزموا أن يسعوا في إذايتي، فجئت أليه فقلت: إنك قلت كذا، وها أنا ذا قد جئت في هاتين الحاجتين، قال: فقضى الله الحاجتين معاً.
وحدثني أيضاً الأخ الصالح أبو عبد الله محمد بن أحمد الهشتوكي قال: بلغني عن الفقيه سيدي عبد الواحد الشريف أنه حدث أصحابه فقال لهم: كنا خرجنا ونحن نفر ثلاثة لزيارة الشيخ عبد الخالق بن ياسين الدغوغي، فلما كنا ببعض الطريق قلنا: تعالوا فليذكر كل واحد منكم حاجته التي يريدها، قال: فأما أنا فقلت لهم: إني أريد كرسي جامع المواسين، وأما الثاني فقال: أريد أن أتولى الحكومة في البلد، وأما الثالث فقال: أريد محبة الله تعالى، قال: فزرنا، فأما أنا وصاحبي فقد تولينا ما طلبنا، وأما الآخر فبخروجه من مقام الشيخ تحرك وفغر فاه واستقبل البرية، فكان ذاك آخر العهد به، وقد قضى الله الحاجات كلها.
وكانت أهلي أيام كنا بالزاوية البكرية قد تراخت عنها الولادة، فدخلها من ذلك غم عظيم، فأصبحت ذات يوم فأخبرت أنها رأت أنها ذهبت إلى مقام سيدي أبي علي الغجاتي، "فقالت فوجدته جالساً وأنا في غاية العطش" فإذا حوله عين يرشح منها ماء قليلٌ. لا يغني، فقلت: يا سيدي ما هذا؟ جئت إليك عطشى رجاء أن أشرب، أفأرجع كما جئت؟ قال: لا، إن الماء ثمَّ، انبشي يخرج، فقالت: فنبشت بيدي فخرج الماء وشربت حتى رويت، وطلبت مني أن نزوره وأن نطعم عنده طعاماً ففعلنا، فولد ولدنا محمد الكبير أصلحه الله وأمتع به.
ولما نزلنا بالزاوية المرةَ الثانيةَ مَقْفَلَنَا من حضرة مراكش كانت لنا بُنَيّةٌ عجزت عن النهوض وهي في سن من يمشي، فظنناها مقعدةً فذهب بها الخدم إليه وزوروها فقامت بالفور على رجلها تمشي، وأمثال هذه الأمور لو تتبعنا منها ما رأينا وما سمعنا لملأنا بها الدواوين.
 نعم رأيت لبعضهم أن الولي إذا مات أنقطع تصرفه من الكون، وما يحصل لزائره مثلا إنما يحصل له على يد قطب الوقت بحسب درجة ذلك الولي، والله تعالى أعلم.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 52    كن أول من يقيّم

لله الأمر من قبل ومن بعد
الحرة تكفي وتغني
وكان أيضاً رحمه الله كثيراً ما ينشدنا "لبعضهم":
إذا لم يكن في منزل المرء حرة             تدبر أمراً نابه فهـو ضـائع
وقوله في البيت حرة يحتمل أن يريد بها ضد الأمة لأن الحرائر مظنة العقل والتجربة والغناء والكفاية، والظاهر أن المراد أخص "من ذلك" وهي الكاملة الحرية، كما يقال لكامل الرجولية: فلان رجل، وذلك أن ليس كل حرة تكفي وتغني، بل رب أمة لبيبة أقوم من حرة، فالمرأة الصالحة الكيِّسة الصيِّنة هي التي تراد.
وفي الحديث: "تُنْكَحُ المَرْأةُ لِديِنَها وَجَمَالِهَا وَمَالِهَا، فّاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ" "تَرِبَتْ يَمِينُكّ".
وفي الحديث أيضاً: "الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأةُ الصَّالِحَةُ".
وفي الحديث: "إنَّ المَرْأةَ الصَّالِحَةَ بَيْنَ النساءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ بَيْنَ الغِرْبَانِ" وذلك لعزة من تستكمل المعتبر من الأوصاف، أو لعزة الدين فيهن، فإنهن ناقصات عقل ودين.
وروي عن نبي الله داود أنه قال لابنه سليمان عليهما السلام: يا بني، إن المرأة الصالحة كمثل التاج على رأس الملك، وإن المرأة السوء كالحِمل الثقيل على الشيخ الكبير.
وعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: النساء ثلاث: امرأة عاقلة مسلمة عفيفة هينة لينة ودود ولود، تعين أهلها على الدهر، ولا تعين الدهر على أهلها، وقليلاً ما تجدها، وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك، وأخرى غُلّ قمل يجعله الله في عنق من يشاء، ثم إذ شاء أن ينزعه نزعه.
وقوله غل قمل تمثيل، وأصله أن الأسير مثلاً يجعل عليه الغل فيبقى حتى إذا طال قَمِلَ أي دخله القمل فيأكله القمل في عنقه ولا يمكنه أن يزيل القمل منه ولا أن يزحزح الغُلّ من محله ما لم "من" أصله، فيلقى من ذلك عذاباً لازماً، وكذلك المرأة إذا كانت سيئة الأخلاق أو ذميمة الخلقة أو جمعتها فالرجل يتأذى منها أذىً عظيماً لازماً، ما لم يطلقها، فالمرأة إذا كانت جميلة حسنة الشباب مليحة ألفها الطبع وشربتها النفس، فكان سيئها حسناً، وذنبها مغفوراً كما قال أبو فراس:
يُعد عليَ الواشـياتُ ذنـوبَـه          ومن أين للوجه المليح ذنوب
ولا بد مع ذلك من كفاية بيتها، فإذا جمعت الحسن والدين والكفاية فهي الحرة المعدودة، والضالة المنشودة، وفي أمر النساء كلام يكثر، لا يفي به إلاّ تصنيف مستقل، وهذا يكفي في هذا المحل.
"وكان يقول كثيراً: لا تواكل من لا يواكل، ولا تجالس من لا يجانس".
وكان يقول في حديثه بما سمع ممن لقي: إن الولي الصالح سيدي عبد العزيز بن عبد الحق الحرار المعروف بالتباع كان يقول لأصحابه، وهم سيدي سعيد بن عبد المنعم المناني الحاحي، "وسيدي علي بن إبراهيم البوزيدي " وسيدي رحال المعروف بالكوش: سعيد فقيهكم، وعابدكم، ورحال مجذوبكم، والغزواني سلطانكم، نفعنا الله بجميعهم آمين.
وسمعته يحدث عن والده سيدي محمد بن أبي بكر أن شيخه سيدي محمد ابن أبي القاسم المعروف بالشرقي التادلاوي كان وقع بينه وبين ولده سيدي الغزواني كلام وعتاب إلى أن قال الولد: أنت ترزقني؟ فقال الشيخ نعم أنا أرزقك، فأعظم الناس هذا الكلام، قال: فقال الوالد: لا شيء في هذا، فإن الشيخ هو القطب في الوقت، والقطب تجري الأرزاق على يده، فصح بهذه الإضافة أن يكون رازقاً.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه53    كن أول من يقيّم

لله الأمر من قبل ومن بعد
شيخ الدلاء
عند عبد الله بن حسون في سلا
 
وحدث عنه أيضاً قال: قدمت على الوالي الصالح سيدي عبد الله بن حسون دفين سلا، فقعدت إلى جنبه وقد مد رجليه، والأعراب يتساقطون عليه يقبلون يديه ورجليه، قال: فخطر ببالي أنه كيف أطلق هذا الرجل نفسه للناس هكذا؟ فلم يتم الخاطر إلاّ وقد قال: أيها الناس، رجل قيل له من مس لحمك لم تمسه النار، أو لم تأكله النار، أو نحو هذا فيبخل بلحمه على المسلمين؟ قال: فلما سمع كلامه وعلمت أنه خاطري تكلم تبت إلى الله تعالى في نفسي، فجعلت إذا مد إليه أحد كاغدا وكان يكتب الحروز، تلقفته من يده، وناولته الشيخ وقبلت يده، "فإذا كتبته أخذته منه وقبلت يده"، فيحصل لي في كل حرز تقبيلتان، قال: ورأيت عنده أموراً أشكلت علي: منها أنه يؤتى بالثياب هدية وصدقة فيأمر بها فترمى في بيت وتبقى كذلك يأكلها السوس.
ومنها أنه كل يوم يصبح عليه أهل الآلات فيضربون عليه.
قلت: أما الثياب فالذي يظهر في أمرها أنه إما غيبة حصلت للشيخ عنها، وليس ذلك بمستنكر في أمثاله من المستهترين في ذكره، وإما خارج مخرج القلنسوة التي رمى بها الإمام الشبلي في النار، ومائة الدينار التي رمى بها في دجلة. وتأويل ذلك معروف عند أهل الطريق لا نطيل به.
"وأما أمر الآلات فإما أنه كان يستنكر من تلك الأصوات أسراراً ومعاني"، ونظيره ما حكى الإمام أبو بكر بن العربي في سراج المريدين عن الشيخ أبي الفضل الجوهري أنه بات بجواره ذات ليلة أصحاب الآلات فشغلوه عن ورده بما هم عليه من لهوهم وباطلهم، فلما أصبح وجلس في مجلسه قال: إنه بات بجوارنا البارحة قوم ملئوا مسامعنا علماً وحكمة، قال أولهم: لي لي لي، فقال الآخر لي ولك لي ولك، فقال الآخر كذا، ومثل ذلك بمتناظرين، وجعل يقرر ذلك حتى قضى المجلس كله بأنواع من الحكم واللطائف والأسرار، وهذا من أعجب ما يتحف الله به أولياءه، فقد غيّبَهُ الله عن صورتها الباطلة وأشهده سره الباطن فيها.
وفي كل شيء له آية         تدل على أنه واحد
وإما أن ذلك يوافق حالة له جمالية تحصر في الوقت، ومن هذا المنبع يقع الطرب وما يشهد من حالات أهل الوجد.
وإما أنه يكون قطباً فتناسبه النوبة الملوكية.
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها             فذا المُلْكُ ملْكٌ لا يباع ولا يهدى
لله الأمر من قبل ومن بعد
محمد الشرقي شيخ تادلا
ونحو هذا ما يحكى عن سيدي محمد الشرقي التادلاوي وأنه لما وقع له الظهور بعث إليه السلطان أحمد المنصور نفراً من خواصه يختبرون أمره، فأضمر كل واحد منهم حاجة، فأحدهم قال: تركت جارية لي مريضة وأريد أن يخبرني بأمرها، وقال الآخر: أشتهي خبزاً خالصاً ودلاعة وذلك في غير مكان وغير إبان، فلما انتهوا إليه خرج إليهم في لباس رفيع فقال بعضهم: هذا لباس الملوك فكيف يكون هذا ولياً؟ فلما استقر المجلس بهم قال للمتكلم: أنا قطب وقتي، وهذا هو اللباس اللائق بي أو نحو هذا، وأخبر الآخر عن جاريته وأنها عوفيت، وكان رجل قد خبأ له دلاعة من الصيف، فأتاه بها ذلك اليوم، واستحضر خبزاً على الوصف فقال للمشتهي: تطلبت ما لا يكون فها هو ذا قد جاء الله به.
وحدث أيضاً أن بعض الناس ممن كان مملقاً دوام حياته ذهب إلى سيدي محمد الشرقي المذكور فاشتكى إليه الفقر فقال له: اذهب فقد رفع الله عنك الفقر، قال: فذكر ذلك للوالد رحمه الله يعني سيدي محمد ابن أبي بكر. فقال: كلام الشيخ لا مطعن فيه، ولكن يا عجباً أين يذهب الفقر عن فلان؟ فهذا لا بد له من مخرج، قال فلم يلبث ذلك الرجل أن مات عاجلاً، فكان ذلك هو ارتفاع الفقر عنه واستراحته منه.
قلت: ومن معنى هذه ما حدثوا عن بعض الصلحاء مراكش القرباء العهد أنه جاءه إنسان فقال له: يا سيدي إن الصلاة تثقل علي، فعسى أن ترفعها عني فقال له "على الفور" "قم" قد رفعها الله عنك، فلم يقم إلاّ مجنوناً خارجاً عن التكليف، والله على كل شيء قدير.
وقد شهدت أنا بعض الناس ممن كان ذا رياسة ودنيا فنكب وذهب ماله كتب معي كتاباً إلى أستاذنا الإمام ابن ناصر رضي الله عنه يشكو عليه بما نابه وما تخوف من العيلة والضيعة، فأجابه الأستاذ بكتاب وفيه: فلا تخشى الفقر، فاتفق أن مات ذلك الرجل عن قريب، فكان ذلك راحته مما خاف.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 54    كن أول من يقيّم

لله الأمر من قبل ومن بعد
القاف المعقودة
  حدثني الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد بن المرابط الدلائي قال: كنت مع والدي رحمه الله، وأظنه قال في درب الحجاز نزولاً، فإذا بعجوز أعرابية مرت بنا وقد رفعت عقيرتها وهي تقول:
حج الحجيج وناقتي معكـولة         يا رب يا مولاي حل عكالها
بقاف معقودة على ما هو لغة العرب اليوم، قال: فقام أبي يهرول وراءها عجباً بما سمع من كلام العرب في غير زمانه.
والظاهر أنها أرادت بالناقة نفسها، وأنها لم تنشرح لهذا الأمر، أو أرادت تمثيل حالها في عدم التحرك بحال الناقة المعقولة أو حال من ناقة معقولة.
ومثل هذه اللغة ما حدثني الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الجزائري قال: حج بعض الأشراف فلما وقف على الروضة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام قال:
إن كيل زرتم بما رجعتم به          يا أكرم الرسل ما نكولُ؟
بالقاف المعقودة، فسمع من الروضة بتلك اللغة:
كولوا رجعنا بكـلّ خـير               واجتمع الفرع والأصول
لله الأمر من قبل ومن بعد
الكسكسون والتداوي بالشيء المعتاد
وجدت في بعض التقاييد لبعضهم ما معناه: لو رأى أرسطو قدر البرنس في اللباس، والكسكسون في الطعام، والحلق بالموسى، لاعترف للبربر بحكمة التدبير الدنيوي وأن لهم قصب السبق في ذلك، انتهى.
وقد كتب الكسكسون بالنون على ما وجدته مكتوباً خلاف ما ينطق به الناس، وبالنون، حدثنا الرئيس الأجلّ أبو عبد الله محمد الحاج المتقدم الذكر قال: ذهب رجلان فاضلان من بلاد المغرب، وأظنه قال: أخوان، فدخلا بلاد الشام، فمرض أحدهما وطال به المرض حتى يئسوا منه، فرأى الآخر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أطعموه الكسكسون بهذه العبارة، قال: فاستصنعوه له فأكله فبرئ، وهذا إما خصوصية لهذا الطعام، أو بذكره صلى الله عليه وسلم، فيثبت له الشرف، ويستدرك بذلك ما قلته من كونه لم يأكله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإما من باب ما تقرر من أن دواء الجسم عادته.
قد دخلنا مدينة فاس -حرسها الله- عام تسع وسبعين وألف فأصابني إسهال مفرط، وطال "بي" وكان الطبيب بعثني بأمري، فلم يترك دواء يستحسنه إلاّ صنعه لي، فلما لم يفد ذلك أرسل في غيبة مني إلى عمالي يقول لهم: انظروا إن كان "ثم" من الطعام ما يعتاده في بلده فأطعموه، فذكروا الأقط واصطنعوا عليه طعاماً فأكلته فعافاني الله تعالى.
وقد أصابني مرة أخرى ذلك فدخلت على السلطان رشيد ابن الشريف، وكان يكرمني ويجلني، فرأى تغيراً في وجهي، فسألني فأخبرته فقال: وماذا صنعت من علاج؟ فقلت له: إن الطبيب يصنع لي شراب الريحان، فتضاحك ثم قال: سبحان الله! ما لنا ولشرب الريحان؟ وأين عهدناه؟ خذ سويق الشعير واخلطه بالماء فذلك دواؤه، ثم ضحك فقال: هذه مثل قصة العمراني الشريف، بات في ملوية عند بني فلان فجعل يقول: أعندكم شيء من شراب رمانتين؟ وهذا أعني التداوي بالشيء المعتاد، ولو في الأعراق أمر شهير واضح، وقد ذكره ابن الحاج رضي الله عنه في "المدخل" وذكر قصة الملك النصراني الذي مرض فأعيا الأطباء علاجه حتى جاء بعض أهل الخبرة فسأل أمه وقال: إن أردت أن يعافى ابنك فاصدقيني عنه، فقالت: نعم، كان أبوه عقيماً، فلما خفت ذهاب ملكهم مكنت أعرابياً كان عندنا من نفسي، فهو أبو الملك، فقال الرجل على الفور: علي بحوار فجيء به وذبح وشوي قدامه وهو يشم رائحته، فكان ذلك بإذن الله تعالى سبب برئه.
وهذا من العجب، فإن هذا الملك الظاهر أنه ما أكل قط لحم الجمل، وإنما العروق نزعته فكيف بمن اعتاد أكل الطعام وربا عليه جسمه.
 ومن أظرف ما وقع في هذا ما حدثني به الطبيب المذكور، وهو الفاضل أبو عبد الله محمد الدراق الفاسي، قال: "كنت" دخلت طنجة بقصد ملاقاة الأطباء ورؤية الشخص الذي صوّروه تعلّم التشريح معاينةً، قال: فكان بعض أطباء الروم هنالك يعجب من أكلنا الكسكسون المذكور ويضحك منا ويقول: إنما تأكلون العجين في بطونكم، قال: فبينما نحن كذلك إذ دخلت عليه يوماً فوجدته عند رأس مريض محموم شديد الحمى وهو يسقيه الخمر، قال: فقلت له: ما هذا الذي تصنع أنت؟ وأي مناسبة بين الخمر والحمى والكل في غاية الحرارة؟ فقال: إنها لن تضره لاعتياده لها، فإنه كان يرضعها من ثدي أمه، وهو طفل صغير، قال فقلت له: سبحان الله! ونحن هكذا كنّا نرضع ما تنكر من الكسكسون من ثدي أمهاتنا ونحن صغار، فأي شيء يضرنا؟ فقال: صدقت، ولم يجد ما يقول.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه55    كن أول من يقيّم

ومن هذا المعنى اختلفت طباع الناس في الطعام باختلاف الإلف والعادة، فكلّ يستمرئ ما يألفه من الطعام ويشتهيه ويعاف الآخر، قال صلى الله عليه وسلم في الضب: "إنّهُ لَيْسَ بِأرْضِ قَوْمِي فَتَجِدُني أعَافُهُ. فعلل ذلك بكونه ليس في أرضه.
ودخلت في أعوام الستين وألف مدينة مراكش عند رحلتي في طلب العلم وأن إذ ذاك صغير السن، فخرجت يوماً إلى الرحبة أنظر "إلى" المداحين، فوقفت على رجل مسن عليه حلقة عظيمة، وإذا هو مشتغل بحكاية الأمور المضحكة "للناس". فكان أول ما قرع سمعي منه أن قال: اجتمع الفاسي والمراكشي والعربي والبربري والدراوي فقالوا: تعالوا فليذكر كل منا ما يشتهي من الطعام، ثم ذكر ما تمناه كل واحد بلغة بلده، وما يناسب بلده، ولا أدري أكان ذلك في الوجود أم شيء قدره، وهو كذلك "يكون"، وحاصله أن الفاسي تمنى مرق الحمام، ولا يبغي الزحام، والمراكشي تمنى الخالص واللحم الغنمي، والعربي تمنى البركوكش بالحليب والزبد، والبربري تمنى عصيدة انلي وهو صنف من الذرة بالزيت، والدراوي تمنى تمر الفقوس في تجمدرت وهو موضع بدرعة يكون فيه تمر فاخر، مع حريرة أمه زهراء، وحاصله تمر جيد وحريرة.
ولو عرضت هذه الحريرة على العربي لم يشر بها إلاّ من فاقة، إذ لا يعتادها مع الاختيار، ولو عرضت العصيدة على الفاسي لارتعدت فرائصه من رؤيتها، وهكذا.
وأغرب شيء وقع في أمر الاعتياد ما حكي في جارية الملك الهندي مع الاسكندر "فإن الاسكندر" لما دوَّخ الملوك واستولى على الأقاليم احتال بعض ملوك الهند في هلاكه، وكانت عنده جارية بديعة الحسن كاملة الأوصاف، فجعل يغذيها بالسموم، ويتلطف لها حتى اعتادت ذلك، ثم تناهت إلى أن تطبعت بذلك وصارت مسمومة، فأهداها للإسكندر، وقصد بذلك أن يمسها فيهلك، وهذا غريب.
وقد ذكر الأطباء هذه الحكاية فاستغربوا شأنها، وقد ذكرنا في اختلاف البلدان مع اختلاف طبائع الناس بها فيما مر ما يقرب من هذا المعنى ويرشحه.
لله الأمر من قبل ومن بعد
الدنيا وما فيها عرض زائل
من كلامهم: ما أدري أو ودع، وهو "مذكور" في قِصَرِ الزيارة، ونحوه قولهم: ما سلم حتى ودع، وقال فيه الشاعر:
بابي من زارني مكتـتـمـا             خائفاً من كلّ حسٍّ جزعـا
حَذِراً نَـمَّ عـلـيه نُـورُه                كيف يُخفي الليل بدراً طلعا
رصد الخلوة حتى أمكـنـت           ورعى السامر حتى هجعا
كابد الأهوال فـي زورتـه             ثم ما سلم حـتـى ودعـا
وقال العباس بن الأحنف:
سألونا عن حالنا كيف أنتـم ؟                فقرنَّا وداعهم بـالـسـؤال
ما أناخوا حتى ارتحلنا فما نفْ              رِقُ بين النزول والتّرحـال
وقال محمد بن أمية الكاتب:
يا فراقاً أتى بـعـقـب فـراق           واتفاقاً جرى بـغـير اتـفـاق
حين حطت ركابـهـم لـتـلاق          زفت العيس منهم لانـطـلاق
إن نفسي بالشام إذ أنـت فـيهـا              ليس نفسي التـي بـالـعـراق
أشتهي أن ترى فؤادي فـتـدري              كيف وجدي بكم وكيف احتراقي
وقال الحسين بن الضحاك:
بأبي زور تلـفـت لـه          فتنفست عليه الصُّعَدا
بينما أضْحَكُ مسروراً به             إذ تقطعت عليه كمدا
وكنت خرجت ذات مرة لزيارة أقاربي فلقيت أختاً لي، فبنفس ما سلمت عليّ جعلت تبكي، فقلت لها: ما يبكيك؟ أليس هذا وقت سرور وفرح؟ فقالت: ذكرت يوم فراقك، فقلت في ذلك:  
ومحزونة بالبين طال بها الـجـوى          علينا وشوق بالـجـوانـح لـداغ
تبيت وجفناها يباريهـمـا الـحـيا             وما تحت جنبيها من الفرش لداغ
إلى أن تسخى الدهر بالوصل بيننـا          ولاح ضياء للمـسـرات بـزاغ
فلما انقضى التسليم ما بيننا بـكـت          وفاض لها دمع من العين نشـاغ
فقلت: ألم يإنِ السـرور ولـم يدر             شراب للقيان الأحـبـاء سـواغ
فقلت: تذكرت الفـراق غـداً فـذا              لقلبي عن تلك المسرات صـداغ
فيا لك من حزن يبـاري مـسـرة              بسهمين كل في المناضـل بـلاغ
ويا لك من نعمى ببؤسي مـشـوبة           كما شاب بالدم المـور نـسـاغ
بل الشر في الدنيا على المرء صائل                لجوج عليه الدهر والخـير رواغ
على أن لطف الله للعسـر دامـغ              كما الحق منه للأباطـيل دمـاغ

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
عزو البيت    كن أول من يقيّم

                أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ** فصادف قلباً خالياً فتمكنا
 
هذا البيت يرويه الناس على وجهين: أتاني هواها / عرفت هواها
وأما قائله، فقد اختلف فيه:
-
فعزاه الجاحظ في الحيوان وفي البيان والتبيّن إلى المجنون.
-
وعزاه الصُّولي في أخبار أبي تمام ،والراغب الأصبهاني في محاضرات الأدباء إلى ابن الطثرية
وهو في الحماسة القرشية، منسوباً إلى يزيد بن الطثرية أيضاً، وقبله:
برغمي أُطيل الصدَّ عنها إذا نأتْ ... أُحاذر أسماعاً عليها وأعينا
وهو في "الزهرة" منسوباً إلى ابن الطثرية كذلك، ويحسن ذكر القطعة على وجهها:
أعِيبُ الَّذي أهوَى وأُطرِي جوارياً ... يرينَ لها فضلاً عليهنَّ بيِّنا
برغمِي أُطيلُ الصَّدَّ عنها إذا بدتْ ... أُحاذرُ أسماعاً عليها وأعيُنا
وقدْ غضبتْ أنْ قلتُ أنْ ليس حاجتِي ... إليها وقالتْ لمْ يُردْ أنْ يحبَّنا
وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَداً قانطَ الهوَى ... أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعلَنا
أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى ... فصادفَ قلبِي خالياً فتمكَّنا
-      وفي التذكرة الحمدونية أنه لمهدي بن الملوح.
-
وأبعد الإمام ابن عبد البر النجعة فعزاه إلى أبي تمام! وإنما ذكروا (كما في كتاب الصولي) أن أبا تمام أخذ بيتيه الشهيرين (نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى) منه.
فكأن أغلب الرواة على نسبته إلى يزيد بن الطثرية، كما ترى..
-       
-      المصدر : ملتقى أهل الحديث .

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الشعراء الفرسان    كن أول من يقيّم

                                               من الشعراء الفرسان

نحن نعلم بأنّ شاعر القبيلة هو لسانها الناطق وعقلها المفكّر والمشير بالحقّ والناهي إلى المنكر، فكيف إذا جمع له الشعر والفروسية فهو صورة صادقة لتلك الحياة البدوية، حيث كان يتدرّب على ركوب الخيل، ويشهر سيفه، ويلوح برمحه، ومن هؤلاء الشعراء: الـمُهَلهَل والفند الزماني (فارس ربيعة).

المُهلهل :

هو عدي بن ربيعة التغلبي، خال امرىء القيس، وجدّ عمرو بن كلثوم. قيل إنّه من أقدم الشعراء الذين وصلت إلينا أخبارهم وأشعارهم، وإنّه أوّل من هلهل الشعر ولذلك قيل له المهلهل. كان له أخ اسمه كُليب قائد جيش بكر وتغلب. كُليب قتل ناقة البسوس ثمّ قُتل كليب، ونشبت حرب البسوس بين بكر وتغلُب، دامت أربعين سنة.

وأكثر شعر المهلهل هو في رثاء أخيه كُليب، حيث يقول:

كليب لا خير في الدنيا ومن فيها *** إن أنت خلّيتها في من يُخلّيها
نعى النعاةُ كليباً لي فقلت لهم ** سالت بنا الأرضُ أو زالت رواسيها
ليت السماء على من تحتها وقعت * وحالت الأرض فانجابت بمن فيها((1))
ومن مراثيه المشهورة في أخيه:
أهاج قذاء عيني الإدِّكارُ ***** هدوءاً فالدموع لها انحدارُ
وصار الليلُ مشتمِلاً علينا ***** كأنّ الليلَ ليس له نهارُ
 دعوتُكَ يا كليب فلم تُجِبْني ***** وكيف يجيبني البلد القِفَارُ وإنّك كنتَ تحلم عن رجال ***** وتعفو عنهم ولك اقتِدارُ((2))
توفّي المهلهل عام 92 ق. هـ / 530م.
(1)ديوان المهلهل / شرح انطوان القوّال: ص91. شعراء النصرانية قبل الإسلام / الأب ليوس شيخو: ص166.
(2)تاريخ الأدب العربي / الدكتور عمر فرّوخ: ج1، ص111.

الفنْدُ الزّماني :

اسمه شهل بن شيبان، أحد فرسان ربيعة المشهورين، شعره قليل، سهل، عذب، وأكثره
في الحماسة التي يتخلّلها شيء من الحكمة، وحينما اضطرّ إلى الخوض في حرب البسوس، قال:
صفحنا عن بني ذهل ***وقلنا القوم إخوانُ
عسى الأيّام أن يرجعن *** أقواماً كما كانُوا
فلمّا صرح الشرّ ****وأمسى وهو عريانُ
ولمْ يَبْقَ سوى العدوان *** دِنّا لهم كما دانُوا
توفّي الفندالزماني سنة 92ق. هـ.
المصدر : الشنكبوتية .
 

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري 1    كن أول من يقيّم

                                      الزمخشري
مقدمة:
اشتهر المخشري عالماً في التفسير ، والحديث ، واللغة ، ولكنه لم يُعرف عند كثير من المثقفين بأنَّه كاتب للمقامات ، وهذا راجع إلى قلة الاهتمام بهذا النوع الأدبي من قبل الدارسين ،وقد أشار الدارسون إلى مقامات الزمخشري إشارات مقتضبة في معرض دراستهم للمقامة ، ولكنهم لم يتناولوا مقاماته بدراسات تحليلية.
لقد كتب الزمخشري مقاماته قاصداً بكتابته التعليم ، فقد اختار الزمخشري لمقاماته موضوعاً واحداً يكرره في كل مقامة وهو الوعظ والحكمة. ولهذا السبب لم ترق مقاماته إلى رتبة مقامات البديع والحريري التي كانت تحوي عناصر العمل الأدبي الخاص بكتابة المقامة ، وهي التي تُظهر قدرة الأديب وفضله.
غير أنَّ الزمخشري حافظ على الشكل الفني التقليدي للمقامة ، فقد جاء فيها بالمحسِّنات البديعية ، وأبرزها السجع ، ولكنه لم يُسرف كثيراً في استخدامها.
وفي دراستنا هذه فقد حاولنا إلقاء الضوء على هذه الشخصية الفذَّة من حيث مؤلفاته القيِّمة ، ومكانته العلمية المرموقة ، واثر ثقافته في مقاماته.
وقد توصلنا إلى مجموعة من النتائج ذكرناها في نهاية هذه الدراسة المتواضعة ، فإن أصبنا فبفضل من الله ، وإن أخطأنا فلنا أجر المحاولة ، ونسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة ونقية.

أولاً : اسمه ومولده وأسرته ولقبه:

هو محمود بن عمر بن محمد، وكنيته أبو القاسم (1). وينسب محمود بن عمر إلى زمخشر ، فيقال عنه الزمخشري (2) . وزمخشر التي ينسب إليها محمود بن عمر ، هي قرية من قرى خوارزم (3) . والمصادر التاريخية تنسبه إلى هذه المدينة أيضاً عند تحديد اسمه . فتقول عنه عند الترجمة لـــه: هو محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري (4).
وقد اتفقت المصادر التاريخية على أن ولادة الزمخشري كانت يوم الأربعاء السابع والعشرين من رجب سنة سبع وستين وأربعمائة للهجرة (467هـ) . وكانت ولادته في زمخشر التي ينسب إليها (5).
ولم تحفل المصادر التاريخية بالحديث عن أسرة الزمخشري ، وكانت تتصف به ، والمعيشة التي كانت عليها. فغاية ما ذكر أن والده كان إماماً بقرية زمخشر (6). ويورد عدد من المصادر ذكراً سريعاً لأمه مرتبطا بحادثة يرويها الزمخشرى نفسه (7). ونستدل من هذه الأخبار أنها امرأة ورعة تقية . ولو حاولنا أن نتعرف إلى أسرة الزمخشري أكثر ، نجد أنه قد أورد ذكراً لأسرته في أشعاره . ومنها نذكر هذين البيتين اللذين قالهما الزمخشري مستغفراً الله من الخمر :

أستغفر الله أنني قد نُسِبتُ بها ** ولــــم أكــن لمحيــــاهــا بــــذَوَّاقِ
ولـم يذقْها أبي كَــلاّ ولا أحـدٌ ** من أسرتي واتِّفاق الناس مصداقي (8)

من الشعر السابق يظهر أن الزمخشري ينتمي إلى أسرة ذات دين وتقوى وورع . فقد كانت بعيدة عن مثل هذه المحرمات التي يستغفر الزمخشري منها.
وكان للزمخشري ألقاب عدة أطلقها عليه المؤرخون وكتّاب السّير . وقد غلب عليه لقب "جار الله "، فكان يُلقَّب به ، ويُذكر معه حيثما ورد له ذكر (9). وقد اتفقت المصادر المتعددة على أن إقامة الزمخشري في مكة مجاوراً البيت الحرام ، كانت سبباً في إطلاق هذا اللقب(10). وقد ذكر ابن خلكان أن اللقَب كان علماً عليه(11)
وقد ارتبط بالزمخشري لقب آخر ، وهو فخر خوارزم ، وتستخدمه معظم المصادر عندما تشرع بالحديث عنه (12). ولعل إطلاق هذا اللقب على الزمخشري راجع إلى المكانة العلمية الجليلة التي كان يتمتع بها.

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
الزمخشري 2    كن أول من يقيّم

ثانياً : مكانته العلمية :

كان الزمخشري يتمتع بمكانه علمية مرموقة أوجدتها له متابعته الحثيثة للعلم واهتمامه به سواء أكان في مرحلة طلب العلم أم في إعطائه للآخرين . ويشهد على مكانته العلمية الكبيرة تعدُّد المجالات العلمية لتي نبغ فيها. وقد حرص أكثر الذين ترجموا لــــه على ذكر المجالات التي أبدع فيها ، وذكروها ملازمةً لـــه. فالذهبي يذكر أنَّ الزمخشري كان رأساً في البلاغة والعربية (13)
ويذكر السمعاني أنَّ الزمخشري كان مضرب المثل في علم الأدب والنحو (14). وأيَّده صاحب كتاب ــ الجواهر المضيئة ــ في ذلك ، فعندما شرع في ترجمة الزمخشري قال عنه " الإمام الكبير المضروب به المثل في علم الأدب " (15). وعلى الرغم من إعراض ابن حجر العسقلاني عن الزمخشري لميله إلى الاعتزال ، فإنَّه أشاد به ، فيذكر أنَّ الزمخشري كان في غاية المعرفة بفنون البلاغة وتصرُّف الكلام (16).
وقد أعلى ياقوت الحموي من قدر الزمخشري ، فعدَّه إماماً في التفسير والنحو واللغة والأدب ، وأنه واسع العلم ، كبير الفضل ، متفنِّن في علوم شتى (17) وللمكانة العلمية العالية التي لمحها ياقوت الحموي في الزمخشري نجده يطلق عليه فَخْرَ خوارزم حيثما ورد ذكره في كتابه (18)
وينتصر صاحب كتاب ــ تاج التراجم ــ إلى الزمخشري ويرفع من شأنه ، فيبتدئ ترجمته له بقوله: إمام عصره بلا مدافعة (19)
وأشاد ابن خلكان بمكانة الزمخشري العلمية ، فذكر بأنَّه "الإمام الكبير في التفسير ، والحديث ، والنحو ، واللغة ، وعلم البيان ، وأنَّه كان إمام عصره من غير مدافعة" (20). ويذكر ابن خلكان في موضع آخر من كتابه بأنَّ الزمخشري كان من أعلم فضلاء العجم بالعربية في زمانه(21). وقد بالغ عدد مكن المترجمين في الحديث عن مكانة الزمخشري العلمية ، فصاحب ــ كتاب الوشاح ــ يقول عنه : "أستاذ الدنيا ، فخر خوارزم ، جار الله ، العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري من أكابر الأمة ، وقد ألقت العلوم إليه أطراف الأزمة" (22).
وامتدح الكثيرون سعة علم الزمخشري وإتقانه للعلم. فالسيوطي يذكر أنَّه واسع العلم ، كثير الفضل ، غاية في الذكاء ، وجودة القريحة ، متفنناً في كل علم (23). وأشار الفيروز أبادي إلى أنَّه "إمام اللغة والنحو ، والبيان باتفاق جميع العلماء" (24). وأشاد الكثيرون بما كان يتقنه الزمخشري من علوم. فذكروا عند الحديث عنه أنَّه نحوي ولغوي ومحقق وبليغ ومفسِّر وفقيه (25)
من هنا يظهر لنا تنبُّه المؤرخين للمكانة العلمية العالية للزمخشري ، ونقلت آراؤهم عند الحديث عن حقيقة هذا العالم بما يتمتع به من قدرة كبيرة ، وظهر أن الزمخشري بحق موسوعي المعرفة والثقافة. وهذا ما ظهر في كثرة نتاجه العلمي. فالزمخشري صاحب مصنَّفات شملت جمل الثقافة المعروفة في عصره.

ثالثاً: مؤلفاته:

أشرنا سابقاً إلى المكانة العلمية التي كانت للزمخشري. وقد كان من أبرز مظاهر هذه المكانة كثرة نتاج الزمخشري ومصنفاته المتخصصة. فهذه الكثرة في مؤلفاته تعكس بلا شك جانباً مهما ً من سعة معرفته وعلمه. وقد شملت المؤلفات التي خلفها الزمخشري جمل النشاط الثقافي وعناصر الثقافة التي كانت سائدة في عصره . وأشاد الكثير من أصحاب التراجم الذين ترجموا الزمخشري بمصنفاته . فنراهم عند الشروع بالترجمة يذكرون أنه صاحب التصانيف البديعة (26) ، أو يقولون أنه صاحب المصنفات المشهورة (27) ، أو يذكرون أنه صنف كتباً حسنة (28).
وذكر أغلب المصادر مصنفات الزمخشري والحديث عنها . وقد ذكر له المترجمون أكثر من خمسين مؤلفاً في موضوعات شتى . وأورد صاحب كتاب "كشف الظنون" أكثر مؤلفات الزمخشري ، وأورد جزءاً من مقدماتها وخواتيمها (29)
برز الزمخشري في علوم شتى ، وكانت له مؤلفات متعددة قيمة ، فقد صنّف في جوانب مختلفة من العلوم الدّينية ، واللغوية، والنحوية ، والأدبية ، والبلاغية وغيرها. ومن مؤلفاته على سبيل المثال لا الحصرأذكر :
"الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل "(30)
وقد أشاد كثير من أصحاب التراجم بهذا المؤلف . فابن خلكان عند حديثه عن هذا الكتاب يذكر أنه " لم يصنف قبل هذا الكتاب مثله" (31)
ويؤيده ابن شاكر الكتبي في ذلك حيث يقول عن هذا الكتاب إنه "لم يصنف قبله مثله في المعاني ، والبيان ، والإعراب" (32).

وأشاد الزمخشري نفسه بهذا المصنف وافتخر به ، فقال :

وناهيــكَ بالكشـَّــاف كَنْزاً تَصادُهُ ** يُعلِّمُ تمييزَ الجياد الصِّيارفـــــــا (33)
وقال أيضاً:
إنَّ التفاسيرَ في الدنـيـا بلا عــــددٍ ** وليس فيها لَعَمْري مثلُ كَشَّــــافي
إنَّ كنت تبغي الهدى فالزمْ قراءته** فالجهلُ كالداء والكشَّاف كالشَّافي(34)

17 - فبراير - 2008
كناشة الفوائد و النكت
 52  53  54  55  56