محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه55 كن أول من يقيّم
ومن هذا المعنى اختلفت طباع الناس في الطعام باختلاف الإلف والعادة، فكلّ يستمرئ ما يألفه من الطعام ويشتهيه ويعاف الآخر، قال صلى الله عليه وسلم في الضب: "إنّهُ لَيْسَ بِأرْضِ قَوْمِي فَتَجِدُني أعَافُهُ. فعلل ذلك بكونه ليس في أرضه. ودخلت في أعوام الستين وألف مدينة مراكش عند رحلتي في طلب العلم وأن إذ ذاك صغير السن، فخرجت يوماً إلى الرحبة أنظر "إلى" المداحين، فوقفت على رجل مسن عليه حلقة عظيمة، وإذا هو مشتغل بحكاية الأمور المضحكة "للناس". فكان أول ما قرع سمعي منه أن قال: اجتمع الفاسي والمراكشي والعربي والبربري والدراوي فقالوا: تعالوا فليذكر كل منا ما يشتهي من الطعام، ثم ذكر ما تمناه كل واحد بلغة بلده، وما يناسب بلده، ولا أدري أكان ذلك في الوجود أم شيء قدره، وهو كذلك "يكون"، وحاصله أن الفاسي تمنى مرق الحمام، ولا يبغي الزحام، والمراكشي تمنى الخالص واللحم الغنمي، والعربي تمنى البركوكش بالحليب والزبد، والبربري تمنى عصيدة انلي وهو صنف من الذرة بالزيت، والدراوي تمنى تمر الفقوس في تجمدرت وهو موضع بدرعة يكون فيه تمر فاخر، مع حريرة أمه زهراء، وحاصله تمر جيد وحريرة. ولو عرضت هذه الحريرة على العربي لم يشر بها إلاّ من فاقة، إذ لا يعتادها مع الاختيار، ولو عرضت العصيدة على الفاسي لارتعدت فرائصه من رؤيتها، وهكذا. وأغرب شيء وقع في أمر الاعتياد ما حكي في جارية الملك الهندي مع الاسكندر "فإن الاسكندر" لما دوَّخ الملوك واستولى على الأقاليم احتال بعض ملوك الهند في هلاكه، وكانت عنده جارية بديعة الحسن كاملة الأوصاف، فجعل يغذيها بالسموم، ويتلطف لها حتى اعتادت ذلك، ثم تناهت إلى أن تطبعت بذلك وصارت مسمومة، فأهداها للإسكندر، وقصد بذلك أن يمسها فيهلك، وهذا غريب. وقد ذكر الأطباء هذه الحكاية فاستغربوا شأنها، وقد ذكرنا في اختلاف البلدان مع اختلاف طبائع الناس بها فيما مر ما يقرب من هذا المعنى ويرشحه. لله الأمر من قبل ومن بعد الدنيا وما فيها عرض زائل من كلامهم: ما أدري أو ودع، وهو "مذكور" في قِصَرِ الزيارة، ونحوه قولهم: ما سلم حتى ودع، وقال فيه الشاعر: بابي من زارني مكتـتـمـا خائفاً من كلّ حسٍّ جزعـا حَذِراً نَـمَّ عـلـيه نُـورُه كيف يُخفي الليل بدراً طلعا رصد الخلوة حتى أمكـنـت ورعى السامر حتى هجعا كابد الأهوال فـي زورتـه ثم ما سلم حـتـى ودعـا وقال العباس بن الأحنف: سألونا عن حالنا كيف أنتـم ؟ فقرنَّا وداعهم بـالـسـؤال ما أناخوا حتى ارتحلنا فما نفْ رِقُ بين النزول والتّرحـال وقال محمد بن أمية الكاتب: يا فراقاً أتى بـعـقـب فـراق واتفاقاً جرى بـغـير اتـفـاق حين حطت ركابـهـم لـتـلاق زفت العيس منهم لانـطـلاق إن نفسي بالشام إذ أنـت فـيهـا ليس نفسي التـي بـالـعـراق أشتهي أن ترى فؤادي فـتـدري كيف وجدي بكم وكيف احتراقي وقال الحسين بن الضحاك: بأبي زور تلـفـت لـه فتنفست عليه الصُّعَدا بينما أضْحَكُ مسروراً به إذ تقطعت عليه كمدا وكنت خرجت ذات مرة لزيارة أقاربي فلقيت أختاً لي، فبنفس ما سلمت عليّ جعلت تبكي، فقلت لها: ما يبكيك؟ أليس هذا وقت سرور وفرح؟ فقالت: ذكرت يوم فراقك، فقلت في ذلك: ومحزونة بالبين طال بها الـجـوى علينا وشوق بالـجـوانـح لـداغ تبيت وجفناها يباريهـمـا الـحـيا وما تحت جنبيها من الفرش لداغ إلى أن تسخى الدهر بالوصل بيننـا ولاح ضياء للمـسـرات بـزاغ فلما انقضى التسليم ما بيننا بـكـت وفاض لها دمع من العين نشـاغ فقلت: ألم يإنِ السـرور ولـم يدر شراب للقيان الأحـبـاء سـواغ فقلت: تذكرت الفـراق غـداً فـذا لقلبي عن تلك المسرات صـداغ فيا لك من حزن يبـاري مـسـرة بسهمين كل في المناضـل بـلاغ ويا لك من نعمى ببؤسي مـشـوبة كما شاب بالدم المـور نـسـاغ بل الشر في الدنيا على المرء صائل لجوج عليه الدهر والخـير رواغ على أن لطف الله للعسـر دامـغ كما الحق منه للأباطـيل دمـاغ |