العامية فصحى محرفة (1) كن أول من يقيّم
وهذه محاضرة في أصل اللهجة المصرية للمرحوم الدكتور شوقي ضيف ، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة ( ألقاها في الجلسة الثانية من مؤتمر المجمع في دورته السادسة والستين بتاريخ 28 ذي الحجة 1420 الموافق للعام 2000 م ) ندرجها استكمالاً للفائدة التي كنا قد بدأناها في المقالات السابقة حول أصل اللهجات المحكية في الوطن العربي . لا بد من الإشارة إلى أن هذه المقالات التي أقوم بنقلها إلى هنا كونها من علامات الزمن المتحول والأوطان التي تشكلت بتحوله ، ربما تبدو للبعض باهتة أو قد تجاوزها الزمن مقارنة بالدراسات الحديثة التي تطورت تقنياتها وتفرعت بشكل هائل حالياً حتى صار من الصعب الإلمام بها لغير المتخصص ، غير أنني وجدت في هذه المقالات فائدة كبيرة لأنها عود إلى بدء ، ولأنها تأسيسية وبإمكانها ان تكون مدخلاً لإثارة اهتمام الدارسين من طلاب الجامعات بهذا الموضوع الهام والمترامي الأبعاد . العامية فصحى محرفة للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ا الزملاء المجمعيون من المصريين والعرب والمستعربين السيدات والسادة: للعامية أنصار كثيرون وخاصة في مصر، يقولون: دعونا نتخذ العامية لغة لأدبنا لأنها لغة بسيطة تمتلئ بها الأفواه في حياتنا اليومية بينما الفصحى لغة نزيلة في ديارنا، وقواعدها معقدة وتحتاج منا جهدًا في تعلمها. ومن يقولون هذا القول عن الفصحى لا يعرفون تاريخها، ولا أنها حين خرجت من الجزيرة العربية مع الفتوح الإسلامية قهرت بعذوبة لسانها وبيانها جميع اللغات التي التقت بها من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلنطي: قهرت الفارسية في إيران، والآرامية والنبطية في العراق، والسريانية واليونانية في عليها نهائيا واستحالت بلدانا عربية دون تدخل حاكم عربي وإدارته الحاكمة في أي بلد بقوة الفصحى الذاتية وقوة القرآن الكريم. وأعدها ذلك لأن تصبح لغة عالمية، مما لم يتح لأية لغة قديمة سواها. ولم تصبح الفصحى عالمية لغويا فحسب، بل أصبحت أيضا عالمية ثقافيا فقد استوعبت الثقافات التي سبقتها جميعا: استوعبت الثقافة الهندية وما كان بها من فلك ورياضة، واستوعبت الفارسية وما كان بها من نُظم في السياسة والإدارة والحكم، واستوعبت اليونانية وما كان بها من علوم وفلسفة وطب وغير طب، واستوعبت كل ما كان لدى الأمم القديمة من فكر وعلوم بفضل اشتقاقاتها الكثيرة وقدراتها على تمثل الأفكار والمعارف، وقد مضت تضيف إليها إضافات كبيرة، وظلت الشام، والقبطية واليونانية في مصر، واليونانية واللاتينية والبربرية في المغرب، واللاتينية والرومانثية في الأندلس بإسبانيا. استعلت على كل هذه اللغات ونحَّتْها عن ألسنة الشعوب في كل هذه الديار وحلت محلها في الألسنة. ولقد نزلت اليونانية الشام ومصر منذ عهد الإسكندر وظلت لغة حكامهما ولغة الإدارة فيهما قروناً، وبالمثل نزلت اللاتينية واليونانية البلاد المغربية ولم تستطع إحدى اللغتين أن تنقل إحدى البلدان التي سيطرت عليها إلى لسانها إذ بقيت لغة للحاكم وحاشيتـه، وظلت الشعوب في الشـام ومصر والمغرب تتحدث بلغتها المحلية أمـا الفصحى فبمجرد أن نزلت فيهاأخذتْ لغاتُ كل هذه البلدان تُزَايلها وتحل محلها تدريجياً، حتى قضت تقود العالم علميا طوال ستة قرون متعاقبة، وقامت أوربا منها – منذ القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن السادس عشر – مقام التلامذة من أساتذتهم، إذ ترجموا إلى لغاتهم كل مالها من علم وفكر وفلسفة متخذين منها منارات تهديهم إلى مسالكهم في حضارتهم الحديثة. ويردِّدُ أنصار العامية أن الفصحى لغة تراثية لا تلائم العصر، وفاتتهم معرفة أن الفصحى الآن إنما هي لغة عصرية حديثة أخذت في الظهور منذ أواسط القرن الماضي ببواعث مختلفة، منها رؤية الأدباء – وخاصة المترجمين – أساليب النثر الأدبي والعلمي الغربية وأنها تخلو من قيود السجع والبديع، وكانت قد طُبعت حينئذ كتب ابن المقفع والجاحظ، فعمدوا إلى استخدام لغة تعتمد على الأسلوب المرسل الخالي من كل قيد، ولم تلبث الصحف أن ظهرت واتجهت إلى الجمهور، فكان طبيعيا أن تتخذ هذا الأسلوب المرسل الجديد حتى يفهم الشعب ما تريد أن تخاطبه به من أمورالسياسة والاجتماع والاقتصاد، وأخذ الصحفيون يحاولون تبسيط لغتهم حتى تفهم ما يقولونه طبقات الشعب المختلفة، وأعد ذلك لفصحى عصرية حديثة مبسطة غاية التبسيط، وأخذت الأجيال التالية من الصحفيين والأدباء تبسطها صورا مختلفة من التبسيط. ونلتقي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بأول جيل صحفي مهم عمل على إشاعة هذه الفصحى الحديثة: جيل الشيخ محمد عبده، وأحمد لطفي السيد، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وكانوا يكتبون مقالاتهم الصحفية بلغة مبسطة سهلة تمتع القارئ، وخلفهم منذ العشرينيات في هذا القرن جيل من أدباء الفصحى الحديثة البارعين من أمثال عباس العقاد، وإبراهيم المازني، وطه حسين ومحمد حسين هيكل، وبلغوا بهذه الفصحى الحديثة الغاية في جمال الصياغة وروعة الأسلوب، وعاونهم في الأداء بها للفنون المستحدثة من القصص والمسرحيات غيرُ أديب من الشباب الجامعي وغيرهم مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. وصِيغ بهذه الفصحى الحديثة في القرن العشرين كل ما ترجمه الأدباء المصريون الأفذاذ وكل ما كتبه علماء مصر من اقتصاد وعلم اجتماع أو علم نفس أو تربية أو علوم طبيعةٍ وغير طبيعة أو فلسفة. وكل ذلك كتبه أدباؤنا وعلماؤنا بالفصحى الحديثة، ووضعوا له معاجمه التي تضعها مجامع اللغة العربية وعلماء الأمة الأعلام. وليس لنا كتاب في علم أو فكر أو قانون أو سياسة أو تاريخ قديم أو حديث أو في أي فن من الفنون إلا كتب بهذه الفصحى الحديثة، وكُتِبَ بها أدبنا بقصصه وأقاصيصه ومسرحياته البارعة، أما المقالات فتنشر يومياً في الصحف التي تحملها الملايين من الشعب صباح مساء. والفصحى الحديثة لم تؤدِّ لنا في القرن العشرين فقط كل معارفنا وثقافتنا وعلومنا وآدابنا وفكرنا فقد أدت لنا أيضاً الآداب الغربية كاملة وما خلَّفه شعراء الغرب المبدعون وكتَّابه وفلاسفته. ومر بنا زمن كنا نأخذ عن الغرب أعماله الأدبية ولا نعطيه شيئاً. وخَلَفَتْ هذه المرحلة في القرن العشرين مرحلة جديدة نقلت إلى الغرب فيها مسرحيات لتوفيق الحكيم وغيره، ومثلت على مسارحهم، كما نقلت إليهم قصص بديعة لنجيب محفوظ وغيره وأعجبوا بها. وبذلك أصبحت الفصحى الحديثة تتبادل مع اللغات الأوربية أعمالها الأدبية. أصبح أدبنا عالميًّا كما أصبحت الفصحى لغة عالمية في الأمم المتحدة. ومع ما للفصحى الحديثة من هذا الكيان الأدبي والعلمي والفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني يقول أنصار العامية: إنها لغة تراثية وهي لغتنا العصرية، ولغة قوميتنا وعروبتنا الخالدة، ولغة كياننا ووجودنا على صفحات التاريخ. بينما العامية التي ينتصرون لها ليست لغة، وهي لا تحمل شيئاً مما ذكرت ولا تتمثله، إنها لهجة يومية مؤقتة، ولا تحمل لنا دينًا ولا علمًا ولا فكرًا ولا ثقافة ولا تاريخاً، مثلها في ذلك مثل اللهجات اليومية المتولدة من اللغات الحية الكبرى مثل الإنجليزية، لهجات لأداء الحاجات اليومية في الشارع والسوق والمصنع ولا تحمل أدب الأمة وفكرها ولم يقل أحد هناك: دعونا نتخذ لهجة السوق أو الشارع لغة أَدبنا، ولم يقل أحد عندهم: دعونا نتخذها للتعبير عن أدبنا الرفيع وفكرنا العميق. ومع أن الكثرة الغالبة من ألفاظ العامية ذات أصل فصيح نراها تهمل إعراب الألفاظ، وهو تغيير حركاتها في أواخر الأفعال والأسماء المعربة، وهو من أهم خصائص الفصحى، ويقف المتحدثون بالعامية على أواخر الكلمات بالسكون، ولم يذكر عن قبيلة عربية قديمة أنها أهملت إعراب الكلمات، وكل ما ذكر عن الشعراء القدماء أنهم قد يسكنون كلمة معربة في بيت من أبياتهم لضرورة الوزن في الشعر كقول امرئ القيس: فاليومَ أشربْ غير مُسْتَحْقبٍ إثما من الله ولا واغل مستحقب: مكتسب. وسكَّن امرؤ القيس الفعل: "أشربْ" وحقه الرفع لضرورة الشعر، وهو بيت وحيد في شعره. وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: إن قبيلة تميم تجيز حذف الحركة الإعرابية أحيانا، ونظن أنها كانت تجيز ذلك إذا توالت الحركات في مثل قوله تعالى في سورة البقرة: (ويعلِّمُهم الكتاب) بتسكين الميم وبذلك كان يقرأ أبو عمرو بن العلاء وهو تميمي، ويعلق ابن مجاهد في كتابه: القرَّاء السبعة على قراءته بقوله: " إن أبا عمرو كان يسكن لام الفعل في مثل ذلك للتخفيف في النطق أي لا لطرح الإعراب. وقُرئت آية سورة (المنافقون): (فأصَّدَّقَ وأكَونَ من الصالحين) بتسكين النون في (وأكون) لتصبح ( فأَصَّدَّقَ وأكنْ من الصالحين ) دون جازم، وبذلك قرأ ستة من القراء السبعة المشهورين هم: نافع وابن كثير وعاصم وحمزة وابن عامر والكسائي، وهو مثال وحيد في قراءات القرآن الكريم، وكأنما أريد بالتسكين وجوب الصلاح على المتكلم. وقرأ أبو عمرو ابن العلاء لفظ: ( وأكن ) بالتسكين ( وأكون ) بفتح النون عطفا على ( فأصدق ) السابقة لها . وإعراب الكلام في الفصحى وتغير الحركات في آخر الكلمات حسب مواقعها من الإعراب جزء لا يتجزأ من النطق بالعربية، سواء في القرآن الكريم أو في الحديث النبوي الشريف أو في الشعر أو في الخطابة أو في الكتابة. ورُويَ أن قبائل ربيعة كانت تقف بالسكون على آخر المفعول به، واستشهدوا لها بقول أحد شعرائها: أَلا حـبذا غُنْمٌ وحسنُ iiحديثها | | لقد تركتْ قلبي بها هائماً دَنِفْ | ودنف: سقيم، وسكن الشاعر لفظ " دنف " وحقه النصب مثل " هائماً " قبله. وربما سكنه الشاعر لضرورة القافية في القصيدة. على أن البيت لا يصلح شاهدًا على تسكين ربيعة للمفعول به، لأن " دنف " فيه تقع موقع الحال لا موقع المفعول به. والعامية المصرية لا تختص وحدها بإهمال الإعراب في الكلام بل تشترك معها في هذه الظاهرة جميع العاميات العربية من الخليج العربي إلى المحيط الأطلنطي، إذ كانت لغاتها المحلية تسكن أواخر الكلم، فلما تعربت أخذت تحاول إهمال الإعراب بصور مختلفة حتى تم لها ذلك بعد قرون تتفاوت بتفاوت الشعوب. (تابع ) |