البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات ضياء العلي

 52  53  54  55  56 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
هايدغر وسؤال اللغة والشعر (1)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

 
هايدغر قارئاً هولدرلن:
ما يبقى، يؤسسه الشعراء
 
 الترجمة والتقديم: هنري فريد صعب
 
 
لم تحظَ فلسفة في القرن العشرين بما حظيت به فلسفة مارتن هايدغر (1889 – 1976). فقد كان مثار اهتمام معظم الفلاسفة والمفكّرين، ولاسيما بعد صدور كتابه الشهير عام 1927 "الكينونة والزمان" L'être et le temps الذي اعتبر أهم عمل فلسفي عرفه ذلك القرن. ولعل فرنسا كانت السبّاقة في التأثر به. وما "الكينونة والعدم" لجان بول سارتر سوى مثال على ذلك. كما شأن فلاسفة وجوديين آخرين وأبرزهم موريس مارلو بونتي وغبريال مارسيل. لكن ما يستميلنا لدى هذا الفيلسوف هو تحوّل فكره الى البحث في الشعر والشعراء، مما وسع نطاق جمهوره، وغدا مرجعاً يؤخذ بحكمه في هذا المجال، حتى عدّ بحق "صديق الشعراء". على عكس ما هو مأثور عن غالبية الفلاسفة. وحين توفي رثاه رينه شار الذي كانت تربطه به مودّة، بقصيدة قصيرة. إلا أنّ أحبّ الشعراء إليه هو هولدرلن. فقد خصّه بأربعة أبحاث كتبها في أوقات متفاوتة وهي: "هولدرلن وماهية الشعر" (1936) (يرى القارىء في ما يلي ترجمة للقسم الأكبر من هذا البحث)، "كما في يوم عيد" (1941)، "ذكرى" (1943) و"عودة" (1943). وجميعها ألقاها هايدغر كمحاضرات وصدرت مجموعة في كتاب عنوانه "اقترابات من هولدرلن". وفي رأي فيلسوفنا أنّ الشعر، وإن يكن من أرومة الفكر ذاتها، يبقى بعيداً جداً عنه: "المفكر يقول الوجود، أما الشاعر فيسمّي المقدّس. ولا شك أننا نعرف الكثير عن العلاقات بين الفلسفة والشعر، لكننا لا نعرف شيئاً عن الحوار بين الشاعر والمفكر اللذين يسكنان متقاربين على أبعد الجبال بعضها عن بعض" (فقرة من بحثه "ما الميتافيزيقا" – 1943). إنّ ما يقوله الشاعر هو المقدّس، وما يسمعه في كلامه هو المقدس. والكلام هو مجيء المقدس. وشعر هولدرلن هو من إملاء المقدس. و"الأعلى" و"المقدس" هما عنده امر واحد. إنهما الصفاء والسكون. ولعل هولدرلن قد ينفرد بإيمانه بالشعر وبأصله الألهي. فهو يتنشق في الشعر بخشوع أنفاس الألهي. ويقوم الشعر، كالاثير الذي يملأ العالم الواقع بين السماء والأرض، بملء الهوّة القائمة بين الفكر وأسفله، بين الآلهة والبشر. إلاّ أنّ "المادة" التي تعظّم هذا المقدس هي اللغة. والشاعر ككل كائن يكتفي بأن يقول ما تقوله اللغة بصوت خافت. ومع ذلك، فالشعر لا يكمن فقط في موسيقى اللغة وقدرتها البدئيّة على الكشف، وإنما في الصورة أيضاً. وهذه ليست خيالا خالصاً. إن "جوهر الصورة"، يقول هايدغر، هو أن يجعلنا نرى شيئاً ما. الصورة الشعرية ترينا العالم اليومي. لكنها ترينا إياه غريباً. إنها ترينا "اللامرئي".
 
هي ذي المواضيع الخمسة التي تعالجها هذه المحاضرة:

1 – "التعريض"(1): "هذه المشغلة الأكبر براءة من كل المشاغل".
(أعمال هولدرلن، المجلد 3، ص 377)

2 – "لذلك، فإن اللغة التي هي من أخطر الملكيات، قد أعطيت للأنسان... لكي يؤكد ما يكونه..." (المجلد 4، ص 246)

3 – "لقد خبر الأنسان كثيراً،
وسمّى العديد من السمويين
مُذ كنا حواراً
وفي مقدورنا أن يُصغي بعضنا الى بعض".
(المجلد 4، ص 343)

4 – "ولكن ما يبقى، إنما يؤسسه الشعراء".
(المجلد 4، ص 63)

5 – "الانسان غنيّ بالقِيَم، لكنه شعرياً يقيم على هذه الأرض".
(المجلد 6، ص 25)

لماذا اخترنا أعمال هولدرلن لتبيُّن ماهية الشعر، وليس هوميروس أو سوفوكليس، فيرجيل أو دانتي، شكسبير أو غوته ؟ ألم تتحقق ماهية الشعر في أعمال هؤلاء الشعراء، في غنى يعادل وربما يتجاوز إبداعات هولدرلن التي توقفت فجأة قبل الأوان ؟

قد يكون. ومع ذلك اخترنا هولدرلن دون سواه. ولكن هل يمكن فعلا أن نستخرج من أعمال شاعر واحد ماهية الشعر بشكل عام؟

العام، نعني به ما يصح بالنسبة الى كثيرين. وهذا ما لا نستطيع بلوغه ولا من طريق التفكير المقارن. لذلك، ثمة حاجة الى أن نستعرض أكبر تشكل ممكن من القصائد وضروب الشعر. وفي هذه الحالة، فإن شعر هولدرلن ليس سوى واحد من كثرة. وإذ ذاك لا يكفي وحده للقيام بماهية الشعر. ويكون مشروعنا، منذ البداية، قد حوى بذور فشله. وهو فشل أكيد، ما دمنا نعني بـ"ماهية الشعر"، ما يتركّز في مفهوم عام يصح في كل ضرب من ضروب الشعر على السواء. ودائماً ما يكون هذا العام، هذه القيمة التي تصحّ بالنسبة الى كل خاص بدون تمييز، هو "اللامتحيّز: "إنه تلك "الماهية" التي لا يمكن أبداً ان تصبح ذاتية. فيما نحن نبحث عن هذه الذاتية في الماهية بالذات. وهذا ما يدفعنا الى أن نقرر إن كنا نهتم بالشعر وكيف، وإن تكن الافتراضات التي نأتي بها، تبقينا في مجال الشعر وكيف.

لم نختر هولدرلن لأن أعماله حققت، كواحد من أعمال كثيرة، ماهية الشعر العامة، بل لأن ما يشكل قوام شعره، هو ذلك القرار الشعري الذي يرتكز على "تقريض" ماهية الشعر بالذات. إن هولدرلن في نظرنا هو "شاعر الشعراء" بامتياز.

ولكن أليس فعل "التقريض" إشارة الى انحراف في تأمل الذات؟ أليس في الوقت نفسه اعترافاً بأننا محرومون من فيض العالم ؟ و"التقريض" عندئذ، ألا يزيد العقبات ؟ أليس شيئاً فائت الأوان ونهاية ؟

الجواب في ما يأتي:

في رسالة بعث بها هولدرلن الى امه في كانون الثاني 1799، أشار الى أنه مشغول بقرض الشعر. وهذا "الانشغال هو الأكثر براءة". فكيف ذلك ؟ إنه يتجلى في الشكل المعتدل لـ"اللعب". فهو يبتكر، طليقاً، عالمه الخاص من الصور، ويظل مستغرقاً في نطاق ما تصوّره. وهذا اللعب ينجو من رصانة القرار الملتزم بطريقة أو بأخرى. وعليه، فإن قرض الشعر هو مسالم تماماً، وفي الوقت عينه هو غير فعّال، لأنه يبقى مجرّد كلام وإطناب. وهذا لا نصيب له من الفعل الذي يتصل مباشرة بالواقع ويغيّره. الشعر كالحلم، لا حقيقة واقعة. إنه لعب كلمات، وليس البتة رصانة فعل. الشعر مسالم وغير فعّال. وهل ثمة أفضل من اللغة الصافية، يستطيع ان يدّعي أنه بلا خطر؟ طبعاً، نحن، في نظرتنا الى الشعر كـ "أكثر المشاغل براءة"، لم ندرك بعدُ جوهره. لكننا على الأقل، استطعنا أن نعيّن أين يجب البحث عنه. فالشعر يبدع أعماله في نطاق اللغة، ومن "مادة" اللغة. فماذا يقول هولدرلن في صدد اللغة؟ لنستمع مرة ثانية اليه.

 
في تخطيط مجزّأ يعود تاريخه الى العام نفسه (1800) الذي كتبت فيه الرسالة المذكورة آنفاً، يقول الشاعر:

"لكن الكائن البشري يقيم في الاكواخ، ويكتسي بثوب محتشم، لأن كينونته جد حميمة، وجدّ راعية أيضاً. والواقع، أنه يصون "الروح" كما الكاهنة الشعلة السموية. وهنا مهارته. ولذا أعطيت له، هو الشبيه بالآلهة، حرية الاختيرا، والقدرة السامية على التنظيم والتنفيذ. ولذا أيضاً، أعطيت له اللغة أخطر الملكيات حيث ينشىء ويهدم، ثم يغيب عائداً الى الحية أبداً، الربة وا لأم، لكي يشهد انه ورث عنها ما يكونه، وتعلّم منها أسمى ما تملك وأقدس، الحب الذي يحفظ الكون". (المجلد 4، ص 246)

إن اللغة، هذا المجال لـ"أكثر المشاغل براءة"، هي أيضاً أخطر الملكيات". فكيف التوفيق بين هذين الاثباتين. لنترك الآن هذا السؤال، ولنطرح قبلُ، ثلاثة أسئلة: لمن تكون اللغة ملكية؟ وكيف تكون الملكية الأخطر؟ وعلى أيّ وجه عموماً تكون ملكية ؟

لنلاحظ أولا الفقرة التي جاء فيها هذا الكلام عن اللغة. لقد جاء في مخطط لقصيدة يُظهر من هو الكائن البشري في مقابل كائنات الطبيعة الاخرى. وذكر بعضها: الوردة، البجع، الوعل في الغابة (المجلد 4، ص 302 و385). كذلك، فإن الفقرة المذكورة، وبما أن النباتات محددة بالنسبة الى الحيوانات، تبدأ بهذه الكلمات:

"ولكن في الأكواخ يقيم الكائن البشري".

فمن هو اذاً الكائن البشري؟ ذاك الذي عليه أن يشهد على ما يكونه. وأن يشهد يعني أن يكشف ويُبلغ من جهة، وفي الوقت نفسه يعني أيضاً أن يضمن، في الإبلاغ، ما أبلغ به. فالإنسان هو "ذاك" الذي "يكونه" بالضبط، في الشهادة على "دازاينه"(2) "Son Dasein" الخاص. لكن هذه الشهادة لا تعني أن كينونة الانسان تعبّر عن ذاتها بعد فوات الأوان، وأن هذا التعبير إضافي وعلى هامش كينونته. كلا، بل هي تساهم في تكوين "دازاين" الانسان بالذات. ولكن ما يجب على الانسان أن يشهد عليه؟ إنه انتماؤه الى الأرض. وهذا الانتماء قوامه أن يكون الانسان وارثاً ومتعلماً في كل شيء. لكنّ الأشياء في تنافر. وما يفرّق بين الأشياء، وفي الوقت نفسه يجمعها، هو ما يسميه هولدرلن "الحميمية – الذاتية" "l'Essentielle Intimité". وشهادة الانتماء الى هذه "الحميمية – الذاتية" تتم بخلق عالم وسطوع فجره، كما بهدمه وأفول نجمه. وتولد الشهادة على كينونة الأنسان، ومن ثم على تحققها الصحيح، من حرية القرار. وهذه الحرية تقبض على "الضروري" وترتبط بقيود داعٍ اعلى. وأن تكون شاهداً على هذا الانتماء الى الموجود "L'existant" في جملته، انما يتم و"يتأرخن" "S'histarialise" كـ"تاريخ". ولكن لكي يكون تاريخ ما ممكناً، يجب ان تعطى اللغة للأنسان. فاللغة هي من ملكيات الأنسان.

ولكن كيف تكون اللغة الملكية الاشد خطرأً ؟ انها الاخطر من كل الاخطار، لأنها هي التي تبدأ بخلق امكان خطر ما. فالخطر هو تهديد للكينونة من قِبَل كائن "étant" ما. وعليه، فالانسان لا يجد نفسه معرَّضاً، الا بمقتضى اللغة، لشيء منكشف "révélé"، يحاصره باعتباره كائناً ويثيره في "دازاينه"، ويضلله ويهديه باعتباره غير – كائن "Non – étant". فاللغة هي التي تخلق أولا المجال المنكشف حيث التهديد والضلال يضغطان على الكينونة؛ كذلك هي التي تخلق امكان ضياع الكينونة. لكن اللغة لسيت خطر الأخطار فحسب، بل هي تخفي حتماً في ذاتها ولذاتها خطراً دائماً. مهمة اللغة ان تكشف عن الكائن بصفته كائناً، في العمل "l'œuvre" وأن تضمنه. في اللغة يمكن التعبير عما هو الأكثر جلاء وغموضاً، كما عن الملتبس والشائع المشترك. وينبغي للكلام الأصيل كي يكون مفهوماً، وتالياً كي يصبح ملكاً جماعياً، أن يكون مشتركاً. لذلك ورد في فقرة أخرى لهولدرلن: "لقد تكلمت الى الألوهة، لكنكم نسيتم جميعاً ان البواكير لم تكن قطّ للفانين، وإنما هي ملك الآلهة. إذ ينبغي أولا ان تصبح الثمرة أكثر شيوعاً، والفة يومية، حتى تصير ملك الفانين" (المجلد 4، ص 238). فالجليّ والشائع يشكلان كلاهما قولاً ما. الكلام اذاً، بما هو كلام، لا يقدم مباشرة ضماناً على أنه كلام اصيل او فراغ صائت. بالعكس، إن الكلام الأصيل، غالباً ما يبدو، في بساطته، اشبه بشيء غير أصيل. ومن جهة أخرى، نرى ان الكلام الذي يتخذ مظهر الأصالة، ليس في الغالب سوى ثرثرة وتبليغ. وعلى هذا النحو، فاللغة مرغمة دوماً على أن تتخذ مظهر المولّد لذاتها، ومن ثم تُعرّض للخطر ما هو من خصائصها على الاطلاق، أي القول الأصيل.

فبأي معنى الآن هذه الملكية الأشد خطراً من سواها، هي "ملكية" للانسان؟ اللغة هي ملكيته الخاصة، لتصرّفه بها بهدف نقل اختباراته، وقراراته، وانطباعاته الشعورية. اللغة تصلح للفهم. وبما انها أداة صالحة لهذه الوظيفة، هي "ملكية". لكن ماهية اللغة لا تحصر همّها في كونها وسيلة للفهم. فتحديدنا لها على هذا النحو، لا يوصلنا الى ماهيتها الخاصة، وانما يقدّم نتيجة لهذه الماهية. اللغة ليست فقط أداة يملكها الأنسان الى جانب أدوات كثيرة أخرى. اللغة هي، قبل كل شيء وعلى العموم، ما يضمن إمكان الانوجاد في وسط رحابة الكائن. فحيث تكون اللغة فقط، يكون عالم، اي تلك الحلقة المتغيّرة أبداً، من القرارات، والمشاريع، والعمل، والمسؤولية، وكذلك من التعسف، والصخب، والانحطاط، والضلال. وحيث يكون عالم، يكون "تاريخ" فحسب. اللغة هي ملكية على معنى أكثر أصالة. فأن تكون ملكية ضامنة لهذا العالم ولهذا التاريخ، معناه انها تضمن أن "يكون" الأنسان على نحو "تاريخوي"(3) "Historial". اللغة ليست أداة جاهزة، بل بالعكس، إنها ذلك الحدث الذي يملك في ذاته أعلى إمكانات كينونة الأنسان. من ماهية اللغة هذه، علينا أولا ان نتحقق، لكي نفهم مجال عمل الشعر، ونفهم الشعر بذاته حقاً. فكيف تتأرخن اللغة؟ للأجابة عن هذا السؤال، لنتأمل معاً ما يقوله هولدرلن:
*  المقال منقول عن النهار العربي والدولي ، الملحق الثقافي
 
( تابع )

27 - ديسمبر - 2007
بين الدين والفلسفة
هايدغر وسؤال اللغة والشعر (2)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

 
هايدغر قارئاً هولدرلن:
ما يبقى، يؤسسه الشعراء
 
 
الترجمة والتقديم: هنري فريد صعب
 
 نعثرعلى هذا القول في تخطيط طويل ومعقّد لقصيدة غير مكتملة، ومطلعها: "أيها المصلح، أنت يا من لم يصدّقه الناس قط" (المجلد 4، ص 162 و345)

"لقد خبر الأنسان كثيراً،
وسمّى العديد من السمويين،
مذ كنا حواراً،
وفي مقدورنا ان يُصغي بعضنا الى بعض".
(المجلد 4، ص 350).

في البدء، لنستخرج من هذه الأبيات ما يتصل بسياق حديثنا: "مُذ كنا حوارا"... نحن – البشر – حوار. كينونة الانسان تتأسس في اللغة. وهذه اللغة لا تتخذ واقعاً - تاريخوياً أصيلا، إلا في "الحوار". على أن الحوار ليس وحده الوجه الذي تتحقق به اللغة. إلا انها كحوار فقط، تكون اللغة أصيلة. وما نعنيه عادة بـ"اللغة"، أي ذلك النسق من الكلمات وقواعد الكلام التركيبية، ليس سوى مظهر خارجي للغة. اذاً، ماذا يعني "الحوار" ؟ أكيداً، أن يتكلم الناس بعضهم مع بعض عن شيء ما. واللغة إذذاك، تكون الوسيط الذي يجعلنا على تواصل ولقاء بعضنا مع بعض. لكن هولدرلن يقول: "مذ كنّا حواراً وفي مقدورنا ان يصغي بعضنا الى بعض". إن القدرة على الأصغاء، بعيداً من أن تكون مجرد نتيجة لفعل الكلام في ما بيننا، هي على النقيض، افتراضية. حتى القدرة على الفهم قائمة بدورها على إمكان الكلام وفي حاجة اليه. فالقدرة على الكلام والقدرة على الفهم وجدتا معاً منذ البدء. إننا حوار – وهذا يعني في الوقت ذاته ودوماً: أننا حوار "واحد"... فالحوار ووحدته هما قوام "دازايننا".

لكنّ هولدلرلن لا يقول فقط: نحن حوار. إنه يقول: "مذ كنا حواراً"... فحيث ما زال قائماً وناشطاً استعداد الأنسان للغة، ليس ثمة بعد صعود – أصيل للغة – الحوار. فمنذ متى كنا حواراً؟ حيث يجب أن يكون حوار "واحد"، على الكلام الأصيل أن يبقى على صلة بـ"الواحد"، وبـ"الواحد في عينه". بدون هذه الصلة تكون المناقشة مستحيلة تماماً. لكن "الواحد في عينه" لا يمكن أن ينكشف إلا في ضوء شيء ما مثابر وباق. المثابرة والبقاء لا يتجليان إلا في ما هو باق وحاضر. لكن ذلك لا يحدث إلا لحظة ينفتح الزمان على مصراعيه. فمذ يضع الانسان نفسه في حضور شيء مستمر، يمكن أن يُعرّض نفسه لـ"قابلية التغيّر"، أي لما يجيء ويمضي؛ لأن المستمر وحده معرّض لـ"قابلية التغيّر". فقط مذ يجد "الزمان الذي يُمزّق" نفسه ممزقاً، في حاضر وماض ومستقبل، يقوم إمكان التوافق على شيء ما باق. لقد كنا حواراً "واحداً"، مذ "كان زمان". مذ سيق الزمان ليوجد ويستمر، مذذاك "نحن" في "التاريخ". وأن "نكون" حواراً "واحدا"، و"نكون" في "التاريخ"، كلاهما حالان متساويان في القِدَم، ويشكّلان كلا متضامناً، بل هما شيء واحد.

ومذ كنا حواراً - خبر الانسان كثيراً وسمّى العديد من الآلهة. ومذ أخذت اللغة تتأرخن رسمياً كحوار، انصرف الآلهة الى الكلام، وظهر عالم. ولكن مرة اخرى، يجدر بنا أن نلاحظ أن حضور الآلهة وظهور العالم ليسا مجرد نتيجة لحدوث اللغة، انما هما معاصران لها، الى درجة أنّ تسمية الآلهة، على وجه الدّقة، وتحول العالم الى كلام، هما قوام الحوار الأصيل الذي نكونه، نحن أنفسنا (...).

ولكن سرعان ما ينبت سؤال: كيف يبدأ ذلك الحوار الذي نكونه؟ ومن يقوم بتسمية الآلهة؟ ومن الذي يقبض اذاً، في الزمان الممزّق على شيء ما باق، ويجعل هذا الشيء يثابر بالكلام؟ عن ذلك يخبرنا هولدرلن في بساطة شاعر واثقة، فلنستمع الى قوله الرابع.
 
هذا القول يشكّل خلاصة قصيدته "ذكرى"، وهذا نصّه: "ولكن ما يبقى، إنما يؤسّسه الشعراء". إنه قول يلقي الضوء على سؤالنا عن ماهيّة الشعر. الشعر تأسيس بالكلام وفي الكلام. وما الذي يؤسَّس؟ أليس ما هو حاضر على الدوام باقياً؟ كلا! فعلى ما يبقى أن يُستدرح الى الاستمرار في وجه التيار الجارف؛ والى وجوب انتزاع البسيط من المعقّد؛ والى تفضيل المقاس على الشاسع. يجب ان يُكشَف عمّا يدعم ويدير الكائن في جملته. يجب أن يُكشَف عن الكينونة، حتى يظهر الكائن. والحال بالضبط، أن ما يبقى هو العابر. يقول هولدرلن: "وهكذا هو "عابر" سريع كل سموي. ولكن ليس بلا طائل" (المجلد الرابع ص 163). أما أن يدوم ذلك، فهذا ما "عُهد به كهمٍّ وخدمة، الى اولئك الذين يتصرّفون كشعراء" (المجلد الرابع، ص 145).
الشاعر يسمّي الآلهة ويسمي كل الأشياء في كينونتها. وهذه التسمية لا تقوم ببساطة على تزويد شيء ما اسماً كان معروفاً به سابقاً. إن الشاعر حينما يقول الكلام الأصيل، آنذاك فقط يجد الكائن نفسه قد سُمّي بما هو عليه، ويكون معروفاً ككائن. الشعر هو تأسيس الكينونة بالكلام. فما يبقى اذاً، ليس ابداً من خلق العابر. البسيط لا يُستخرج من المعقّد مباشرة. القياس لا يوجد في الشاسع. ولن نجد ابداً الاساس في الهاوية (...)
 
ننتقل الى القول الخامس. ونجده في القصيدة الطويلة العجيبة التي تبدأ:

"في الزرقة الفاتنة تُزهر
قبة الكنيسة ذات السقف المعدني
(المجلد 6، ص24)
وهنا يقول هولدرلن (السطر 32):
"الانسان غني بالقيم، لكنه شعرياً
يقيم على هذه الارض".

ان ما يعمله الانسان ويواظب عليه قد اكتسبه واستحقه بمجهوده الخاص. "ولكن" – يقول هولدرلن مشيرا بشدة الى التباين – كل ذلك لا يعني ماهية اقامته على هذه الارض، كل ذلك لا يبلغ صميم دازاين الانسان. فهذا الدازاين هو في صميمه "شعري". لكن ما نعنيه بالشعر الآن، هي تسمية الآلهة وماهية الاشياء. وهي تسمية مؤسِّسة. و"الاقامة شعريا" تعني: ان نقف في حضرة الآلهة وعلى مقربة جوهرية من الاشياء. فأن يكون الدازاين "شعرياً" في صميمه، معناه في الوقت نفسه، أن الدازاين، من حيث هو مؤسس، ليس قيمة، بل هبة.

الشعر ليس مجرد زخرفة تصحب الدازاين، ولا مجرد حماسة عابرة، وهو ليس مطلقا مجرد اثارة او تسلية خفيفة. الشعر هو الاساس الذي يدعم "التاريخ" وهو تالياً، ليس في بساطة مظهرا ثقافيا، او بالاحرى، في بساطة "تعبيرا" عن "روح ثقافة" ما.

وأن يكون دازايننا شعريا في صميمه، لا يمكن اخيرا ان يعني انه ليس في الحقيقة، الا لعبا مسالماً. ولكن، في القول الذي ذكرناه كأول مسألة في بحثنا، ألم يحدد هولدرلن بنفسه الشعر بأنه "تلك المشغلة التي هي اكثر المشاغل براءة"؟ فكيف يتوافق هذا مع ماهية الشعر كما نراها الآن متبدية؟ وهكذا نعود ثانية الى السؤال الذي كنا اهملناه في البداية. وللإجابة عنه الآن، سنحاول في الوقت نفسه ان نجمع معا في نظرة واحدة بين ماهية الشعر وماهية الشاعر.
ينتج من ذلك اولا ان المجال الذي يعمل فيه الشعر هو اللغة. فعلينا انطلاقا من ماهية اللغة، ان نتصور ماهية الشعر. وتالياً، لقد تبينّا كيف ان الشعر هو التسمية المؤسِّسة للكينونة وماهية جميع الاشياء – ولكن ليس اي كلام، بل ذاك الذي، بفعله، يجد كل شيء نفسه منكشفا، كما كل ما نناقشه ونبحثه بعد ذلك في لغتنا اليومية. ونتيجة ذلك ان الشعر لا يتناول ابدا اللغة كمادة تعمل، وتكون في تصرفه، بل بالعكس، هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة. الشعر هو اللغة الاولية للشعب التاريخوي. يجب اذاً بخلاف ذلك، ان تُفهم ماهية اللغة، بدءا من ماهية الشعر.

وأساس الدازاين الانساني هو الحوار، باعتباره صيغة خاصة لما يحدث في اللغة. لكن اللغة الاولية هي الشعر من حيث هو اساس للكينونة. والحال، ان اللغة هي "اشد الملكيات خطرا. اذاً، الشعر هو اشد الاعمال خطرا، وفي الوقت عينه هو "اكثر المشاغل براءة"(...)

والشعر يظهر لنا على انه لعب، فيما هو ليس كذلك. اللعب يجمع الناس، ولكن على نحو ينسى فيه كلٌّ نفسه. بينما العكس يتم في الشعر، حيث الانسان يركز ذاته على صميم دازاينه ليصل الى الطمأنينة، لا الى تلك الطمأنينة الوهمية لتعطّل الفكر التام وفراغه، بل الى تلك الطمأنينة اللامتناهية حيث تنشط كل الطاقات وكل العلاقات.

الشعر يوقظ ظهور اللاواقع والحلم في مقابل الواقع الصاخب والملموس الذي نعتقد انه ملاذنا. في حين ان الامر غير ذلك. فما يقوله الشاعر، وما يضطلع بوجوده هو الواقع (...)

والشعر باعتباره تأسيسا للكينونة، يكون التزامه مضاعفاً. ونحن، اذا ما نظرنا الى هذا القانون الذي هو في صميمه، استطعنا أن ندرك كليا ماهيته.
ان "التقريض" هو التسمية البدئية للآلهة. لكن "الكلام الشعري" لا يملك قدرته على التسمية، الا اذا كان يدفعنا الآلهة بأنفسهم الى الكلام. فكيف يتكلم الآلهة؟

"... والاشارات كانت
منذ سحيق الازمنة لغة الآلهة" (المجلد 4، ص 135).

وقوام "كلام" الشاعر أن يلتقط هذه الاشارات ليجعل منها تاليا، اشارات لشعبه (...)

ان تأسيس الكينونة اذاً، مرتبط باشارات الآلهة. والكلام الشعري في الوقت عينه، ليس سوى تأويل لـ"صوت الشعب". وهذا هو الاسم الذي اطلقه هولدرلن على الاساطير، "الاقوال" التي يتذكر بها شعب ما، انتماءه الى الكائن في جملته. وغالبا ما يصمت هذا الصوت او يضعف. فهو غير قادر على العموم على ان يخبر بنفسه عما هو اصيل. لذا، هو في حاجة الى اولئك المؤولين.

وهكذا، فقد اندمجت ماهية الشعر في هذه القوانين التي تجهد في الالتئام والافتراق، والتي تنظّم اشارات الآلهة وصوت الشعب. أما الشاعر فهو يقف في البين بين: بين أولئك الآلهة وهذا الشعب. إنه "ملقى في الخارج". في هذا "البين بين". بين الآلهة والبشر. ولكن أولاً، وفي هذا البين بين وحده، يتقرّر من هو الانسان وأين يقوم دازاينه. "ولكن شعرياً يقيم الانسان على هذه الارض".

ومن دون راحة، وبطمأنينة وبساطة متناميتين باستمرار، ومغترفاً من كنز يفيض بالصور، نذر هولدرلن كلامه "الشعري" لتلك المنطقة الوسطى. وهذا ما يحملنا على القول: "إنه شاعر الشعراء (...)


إيضاحات

 
-1 التقريض: المصطلح الالماني "dichten" لا يعني فقط نظم القصائد. ولكن يشير الى النشاط الذي يخلق ويشكّل، ويظهر كأنه كشف انطولوجي. وبما أن الفرنسية لا تحوي معادلاً له، فقد نحت المترجم الفرنسي المستشرق المعروف هنري كوربان كلمة "Poématiser"، المركبة من Poiesis وPoima المشتقتين من الفعل اليوناني Poienen الذي يعني صنع. وقد وجدتُ أن كلمة "التقريض" في العربية أي صناعة الشعر وقوله، هي قريبة من المعنى المقصود.

-2 الدازاين: أي الكينونة في العالم. وهذه العبارة لا تشتمل فقط على المعنى المكاني، بل أيضاً وخصوصاً على المعنى الانطولوجي. وهذه الكينونة الانسانية هي عامة بين جميع الناس، وإن بدأت تجربتي من كينونتي أنا الخاصة بي. ومهمة التحليل الانطولوجي ستكون اذاً، الكشف عن الكينونة الانسانية عامة. وهذا المصطلح نجده لدى سارتر في تعبير "الحقيقة الانسانية"، وفي مصطلح "الآنية" لدى عبد الرحمن بدوي، وفي تعبير "الكينونة - هناك" في ترجمة عام 1964 لكتاب هايدغر "الكينونة والزمان". وقد آثرت إبقاء المصطلح الالماني نفسه، كما فعل فرنسوا فيزان في ترجمة جديدة للكتاب المذكور صدرت عام 1986 لدى "دار غاليمار"، لأن أي ترجمة له لن تفي.

-3 التاريخوي: في نظر هايدغر، ما يتعلق بالتاريخ كسيرورة تخص كل واحد منا، وتتعلق حتى بمصيرنا ومستقبلنا، أي مستقبل الانسانية
 
*  المقال منقول عن النهار العربي والدولي ، الملحق الثقافي
 

27 - ديسمبر - 2007
بين الدين والفلسفة
حجلة الأطلس    كن أول من يقيّم

 
سلمت يداك لمياء على هذا العمل المتقن والجميل الذي يعبر عن روحك وثقافتك الأصيلة . أحسست فيه بعبق ريحانة ماء ، ورأيت حجلة تقفز وتتنقل في تلك الأحراج الصخرية الوعرة والمجللة بهذا الأخضر العميق ، الحي ، التي تشبه كثيراً صورة بلادي التي أعرفها . كم تمنيت لو تتيح لي الظروف زيارة منطقتكم الخلابة والتعرف بها وبكم عن قرب ، ولو توفرت لي تلك الظروف فلن أتردد مطلقاً . شكراً لك تعريفك الجميل والرصين بهذه القطعة من الجزائر الحبيب ، ودعوتك الكريمة ، ورجائي أن تبلغي سلامي إلى والديك الكريمين ودمت .

28 - ديسمبر - 2007
المدية ، في مرآة التاريخ
نتمنى ذلك     كن أول من يقيّم

 
أستاذنا الكريم الدكتور أحمد إيبش : زادك الله من فضله نبلاً وتواضعاً .
 
لكم يسعدنا ويشرفنا أن نعلم بأنك على استعداد لنشر فصول من ترجمتك المتقنة والمثيرة للاهتمام من إنجيل بارنبا . لست بحاجة للاستئذان أستاذي ، وهل نستأذن عادة في فعل الخير ؟ ولكم يسعدنا أن نعلم بأنك قد حققت خطوة متقدمة في مشاريعك الجديدة ، وفي جمع الكتابين اللذين تنوي جمعهما .
 
تمنياتنا لك بعام سعيد ومزهر تتحقق فيه إن شاء الله جميع تطلعاتك ، وكل ما تصبو إليه . ونحن بانتظار ما ستتكرم به علينا ، وما سنتلقاه بفائق التقدير والاهتمام ، ولك الشكر منا سلفاً والامتنان .

31 - ديسمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
من ضيَّع حمار خالته ؟    كن أول من يقيّم

 
نودع عاماً أنصرم وصادف أن كانت نهايته حافلة بالمناسبات : لا بهجة للأعياد ، ولا سعادة تظلل أجواءها التي نتكلف بتزيينها وتعطيرها وإنارة شموعها الحزينة . صور المآسي تجتاح شاشات التلفزيون الذي يتربع في صالاتنا ويسكن منازلنا ويشاركنا في حياتنا اليومية . مصرع هذه السيدة الجميلة ، بنظير بوتو ، كان مؤثراً ! الصور التي تأتينا من العراق تنكأ فينا جراحات ما اندملت ، ومشاهد الطائرات التي تغير ، والدبابات التي تزحف وتعاود الزحف يومياً كأنها تريد بأن تصفي آخر قطرة متبقية من الدم الفلسطيني تهيج في دواخلنا غضباً يطفىء فينا آخر جذوة للأمل . وفي لبناننا " المباع على الرصيف " ، وكلما نظرت في وجوه سياسييه رأيت صورة ذلك الذي " ضيَّع حمار خالته " ، كل واحد فيهم يغني على ليلاه .
 
 كان عاماً مكلفاً وحزيناً . كان عاماً قدمت فيه الكثير من قرابين الحرب ، وكانت حصتنا فيها كبيرة . كيف السبيل للخروج من دوامة العنف هذه ؟ ولماذا نمنى بكل هذه الخسارات الجسيمة ؟ وكيف وصل بنا الآمر لكي تصبح بلادنا مفتوحة ومشرعة الأبواب هكذا أمام كل طامع ؟ هل من سبيل لإيقاف هذه الكوارث أم أن هذه الغولة التي تزحف مكشرة عن أنيابها لم تشبع من الدم بعد ؟ وهل من المعقول أن يستمر هذا الجنون طويلاً بعد ؟ ........
 
.......... مع هذا ، نتمنى لكم عاماً سعيداً ، ونتمنى للأولاد بأن يكبروا ، ونتمنى بأن يتبدل هذا الحال ، وسنظل نتفاءل بالخير حتى نجده لأن " دوام الحال من المحال " إنما ما نرجوه للعام الجديد هو : أن نتبدل نحو الأفضل .
 

31 - ديسمبر - 2007
أحاديث الوطن والزمن المتحول
العامية فصحى محرفة (1)    كن أول من يقيّم

 
 
وهذه محاضرة في أصل اللهجة المصرية للمرحوم الدكتور شوقي ضيف ، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة ( ألقاها في الجلسة الثانية من مؤتمر المجمع في دورته السادسة والستين بتاريخ 28 ذي الحجة 1420 الموافق للعام 2000 م  ) ندرجها استكمالاً للفائدة التي كنا قد بدأناها في المقالات السابقة حول أصل اللهجات المحكية في الوطن العربي . لا بد من الإشارة إلى أن هذه المقالات التي أقوم بنقلها إلى هنا كونها من علامات الزمن المتحول والأوطان التي تشكلت بتحوله ، ربما تبدو للبعض باهتة أو قد تجاوزها الزمن مقارنة بالدراسات الحديثة التي تطورت تقنياتها وتفرعت بشكل هائل حالياً حتى صار من الصعب الإلمام بها لغير المتخصص ، غير أنني وجدت في هذه المقالات فائدة كبيرة لأنها عود إلى بدء ، ولأنها تأسيسية وبإمكانها ان تكون مدخلاً لإثارة اهتمام الدارسين من طلاب الجامعات بهذا الموضوع الهام والمترامي الأبعاد .
 

العامية فصحى محرفة

للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
 
ا
الزملاء المجمعيون من المصريين والعرب والمستعربين
السيدات والسادة:
        للعامية أنصار كثيرون وخاصة في مصر، يقولون: دعونا نتخذ العامية لغة لأدبنا لأنها لغة بسيطة تمتلئ بها الأفواه في حياتنا اليومية بينما الفصحى لغة نزيلة في ديارنا، وقواعدها معقدة وتحتاج منا جهدًا في تعلمها. ومن يقولون هذا القول عن الفصحى لا يعرفون تاريخها، ولا أنها حين خرجت من الجزيرة العربية مع الفتوح الإسلامية قهرت بعذوبة لسانها وبيانها جميع اللغات التي التقت بها من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلنطي: قهرت الفارسية في إيران، والآرامية والنبطية في العراق، والسريانية واليونانية في عليها نهائيا واستحالت بلدانا عربية دون تدخل حاكم عربي وإدارته الحاكمة في أي بلد بقوة الفصحى الذاتية وقوة القرآن الكريم. وأعدها ذلك لأن تصبح لغة عالمية، مما لم يتح لأية لغة قديمة سواها.
 
       ولم تصبح الفصحى عالمية لغويا فحسب، بل أصبحت أيضا عالمية ثقافيا فقد استوعبت الثقافات التي سبقتها جميعا: استوعبت الثقافة الهندية وما كان بها من فلك ورياضة، واستوعبت الفارسية وما كان بها من نُظم في السياسة والإدارة والحكم، واستوعبت اليونانية وما كان بها من علوم وفلسفة وطب وغير طب، واستوعبت كل ما كان لدى الأمم القديمة من فكر وعلوم بفضل اشتقاقاتها الكثيرة وقدراتها على تمثل الأفكار والمعارف، وقد مضت تضيف إليها إضافات كبيرة، وظلت الشام، والقبطية واليونانية في مصر، واليونانية واللاتينية والبربرية في المغرب، واللاتينية والرومانثية في الأندلس بإسبانيا. استعلت على كل هذه اللغات ونحَّتْها عن ألسنة الشعوب في كل هذه الديار وحلت محلها في الألسنة.
 
       ولقد نزلت اليونانية الشام ومصر منذ عهد الإسكندر وظلت لغة حكامهما ولغة الإدارة فيهما قروناً، وبالمثل نزلت اللاتينية واليونانية البلاد المغربية ولم تستطع إحدى اللغتين أن تنقل إحدى البلدان التي سيطرت عليها إلى لسانها إذ بقيت لغة للحاكم وحاشيتـه، وظلت الشعوب في الشـام ومصر والمغرب تتحدث بلغتها المحلية أمـا الفصحى فبمجرد أن نزلت فيهاأخذتْ لغاتُ كل هذه البلدان تُزَايلها وتحل محلها تدريجياً، حتى قضت تقود العالم علميا طوال ستة قرون متعاقبة، وقامت أوربا منها منذ القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن السادس عشر مقام التلامذة من أساتذتهم، إذ ترجموا إلى لغاتهم كل مالها من علم وفكر وفلسفة متخذين منها منارات تهديهم إلى مسالكهم في حضارتهم الحديثة.
 
       ويردِّدُ أنصار العامية أن الفصحى لغة تراثية لا تلائم العصر، وفاتتهم معرفة أن الفصحى الآن إنما هي لغة عصرية حديثة أخذت في الظهور منذ أواسط القرن الماضي ببواعث مختلفة، منها رؤية الأدباء وخاصة المترجمين أساليب النثر الأدبي والعلمي الغربية وأنها تخلو من قيود السجع والبديع، وكانت قد طُبعت حينئذ كتب ابن المقفع والجاحظ، فعمدوا إلى استخدام لغة تعتمد على الأسلوب المرسل الخالي من كل قيد، ولم تلبث الصحف أن ظهرت واتجهت إلى الجمهور، فكان طبيعيا أن تتخذ هذا الأسلوب المرسل الجديد حتى يفهم الشعب ما تريد أن تخاطبه به من أمورالسياسة والاجتماع والاقتصاد، وأخذ الصحفيون يحاولون تبسيط لغتهم حتى تفهم ما يقولونه طبقات الشعب المختلفة، وأعد ذلك لفصحى عصرية حديثة مبسطة غاية التبسيط، وأخذت الأجيال التالية من الصحفيين والأدباء تبسطها صورا مختلفة من التبسيط. ونلتقي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بأول جيل صحفي مهم عمل على إشاعة هذه الفصحى الحديثة: جيل الشيخ محمد عبده، وأحمد لطفي السيد، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وكانوا يكتبون مقالاتهم الصحفية بلغة مبسطة سهلة تمتع القارئ، وخلفهم منذ العشرينيات في هذا القرن جيل من أدباء الفصحى الحديثة البارعين من أمثال عباس العقاد، وإبراهيم المازني، وطه حسين ومحمد حسين هيكل، وبلغوا بهذه الفصحى الحديثة الغاية في جمال الصياغة وروعة الأسلوب، وعاونهم في الأداء بها للفنون المستحدثة من القصص والمسرحيات غيرُ أديب من الشباب الجامعي وغيرهم مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. وصِيغ بهذه الفصحى الحديثة في القرن العشرين كل ما ترجمه الأدباء المصريون الأفذاذ وكل ما كتبه علماء مصر من اقتصاد وعلم اجتماع أو علم نفس أو تربية أو علوم طبيعةٍ وغير طبيعة أو فلسفة. وكل ذلك كتبه أدباؤنا وعلماؤنا بالفصحى الحديثة، ووضعوا له معاجمه التي تضعها مجامع اللغة العربية وعلماء الأمة الأعلام. وليس لنا كتاب في علم أو فكر أو قانون أو سياسة أو تاريخ قديم أو حديث أو في أي فن من الفنون إلا كتب بهذه الفصحى الحديثة، وكُتِبَ بها أدبنا بقصصه وأقاصيصه ومسرحياته البارعة، أما المقالات فتنشر يومياً في الصحف التي تحملها الملايين من الشعب صباح مساء.
       والفصحى الحديثة لم تؤدِّ لنا في القرن العشرين فقط كل معارفنا وثقافتنا وعلومنا وآدابنا وفكرنا فقد أدت لنا أيضاً الآداب الغربية كاملة وما خلَّفه شعراء الغرب المبدعون وكتَّابه وفلاسفته. ومر بنا زمن كنا نأخذ عن الغرب أعماله الأدبية ولا نعطيه شيئاً. وخَلَفَتْ هذه المرحلة في القرن العشرين مرحلة جديدة نقلت إلى الغرب فيها مسرحيات لتوفيق الحكيم وغيره، ومثلت على مسارحهم، كما نقلت إليهم قصص بديعة لنجيب محفوظ وغيره وأعجبوا بها. وبذلك أصبحت الفصحى الحديثة تتبادل مع اللغات الأوربية أعمالها الأدبية. أصبح أدبنا عالميًّا كما أصبحت الفصحى لغة عالمية في الأمم المتحدة.
 
       ومع ما للفصحى الحديثة من هذا الكيان الأدبي والعلمي والفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني يقول أنصار العامية: إنها لغة تراثية وهي لغتنا العصرية، ولغة قوميتنا وعروبتنا الخالدة، ولغة كياننا ووجودنا على صفحات التاريخ. بينما العامية التي ينتصرون لها ليست لغة، وهي لا تحمل شيئاً مما ذكرت ولا تتمثله، إنها لهجة يومية مؤقتة، ولا تحمل لنا دينًا ولا علمًا ولا فكرًا ولا ثقافة ولا تاريخاً، مثلها في ذلك مثل اللهجات اليومية المتولدة من اللغات الحية الكبرى مثل الإنجليزية، لهجات لأداء الحاجات اليومية في الشارع والسوق والمصنع ولا تحمل أدب الأمة وفكرها ولم يقل أحد هناك: دعونا نتخذ لهجة السوق أو الشارع لغة أَدبنا، ولم يقل أحد عندهم: دعونا نتخذها للتعبير عن أدبنا الرفيع وفكرنا العميق.
 
       ومع أن الكثرة الغالبة من ألفاظ العامية ذات أصل فصيح نراها تهمل إعراب الألفاظ، وهو تغيير حركاتها في أواخر الأفعال والأسماء المعربة، وهو من أهم خصائص الفصحى، ويقف المتحدثون بالعامية على أواخر الكلمات بالسكون، ولم يذكر عن قبيلة عربية قديمة أنها أهملت إعراب الكلمات، وكل ما ذكر عن الشعراء القدماء أنهم قد يسكنون كلمة معربة في بيت من أبياتهم لضرورة الوزن في الشعر كقول امرئ القيس:
فاليومَ أشربْ غير مُسْتَحْقبٍ    إثما من الله ولا واغل
 
مستحقب: مكتسب. وسكَّن امرؤ القيس الفعل: "أشربْ" وحقه الرفع لضرورة الشعر، وهو بيت وحيد في شعره. وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: إن قبيلة تميم تجيز حذف الحركة الإعرابية أحيانا، ونظن أنها كانت تجيز ذلك إذا توالت الحركات في مثل قوله تعالى في سورة البقرة: (ويعلِّمُهم الكتاب) بتسكين الميم وبذلك كان يقرأ أبو عمرو بن العلاء وهو تميمي، ويعلق ابن مجاهد في كتابه: القرَّاء السبعة على قراءته بقوله: " إن أبا عمرو كان يسكن لام الفعل في مثل ذلك للتخفيف في النطق أي لا لطرح الإعراب. وقُرئت آية سورة (المنافقون): (فأصَّدَّقَ وأكَونَ من الصالحين) بتسكين النون في (وأكون) لتصبح ( فأَصَّدَّقَ وأكنْ من الصالحين ) دون جازم، وبذلك قرأ ستة من القراء السبعة المشهورين هم: نافع وابن كثير وعاصم وحمزة وابن عامر والكسائي، وهو مثال وحيد في قراءات القرآن الكريم، وكأنما أريد بالتسكين وجوب الصلاح على المتكلم. وقرأ أبو عمرو ابن العلاء لفظ: ( وأكن ) بالتسكين ( وأكون ) بفتح النون عطفا على ( فأصدق ) السابقة لها .
 
  وإعراب الكلام في الفصحى وتغير الحركات في آخر الكلمات حسب مواقعها من الإعراب جزء لا يتجزأ من النطق بالعربية، سواء في القرآن الكريم أو في الحديث النبوي الشريف أو في الشعر أو في الخطابة أو في الكتابة. ورُويَ أن قبائل ربيعة كانت تقف بالسكون على آخر المفعول به، واستشهدوا لها بقول أحد شعرائها:
أَلا حـبذا غُنْمٌ وحسنُ iiحديثها
 
لقد تركتْ قلبي بها هائماً دَنِفْ
ودنف: سقيم، وسكن الشاعر لفظ " دنف " وحقه النصب مثل " هائماً " قبله. وربما سكنه الشاعر لضرورة القافية في القصيدة. على أن البيت لا يصلح شاهدًا على تسكين ربيعة للمفعول به، لأن " دنف " فيه تقع موقع الحال لا موقع المفعول به.
 
  والعامية المصرية لا تختص وحدها بإهمال الإعراب في الكلام بل تشترك معها في هذه الظاهرة جميع العاميات العربية من الخليج العربي إلى المحيط الأطلنطي، إذ كانت لغاتها المحلية تسكن أواخر الكلم، فلما تعربت أخذت تحاول إهمال الإعراب بصور مختلفة حتى تم لها ذلك بعد قرون تتفاوت بتفاوت الشعوب.
 
      (تابع )
 

2 - يناير - 2008
أحاديث الوطن والزمن المتحول
العامية فصحى محرفة (2)    كن أول من يقيّم

                                                         العامية فصحى محرفة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
 
بدء شيوع العامية في مصر
 
  لا يعرف بالضبط بدء التاريخ الذي ظهرت فيه العامية بمصر. والمظنون أنها أخذت في التكون بالقرون الأولى من فتح العرب لمصر، إذ أخذت في التعرب بعامل دخول كثرة من أهلها في الإسلام، حتى ليبلغوا في عهد معاوية نحو نصف سكانها الأصليين من القبط، إذ اعتنقوا الإسلام، وأخذوا يتعلمون لغته الفصحى. وعامل ثانٍ كان أثره في تعرب مصر أكبر، وهو نزول كثرة من القبائل العربية مصر وخاصة من القبائل القيسية حين سمعت بخيراتها وطيباتها من الرزق، وظلت هذه القبائل العربية تنزل بمصر حتى عصر الدولة الفاطمية وهجرة القبائل الهلالية إلى مصر، ثم إلى تونس والبلاد المغربية.
 
والعامية المصرية إنما تمت بالتقاء العربية الفصحى فيها باللغة القبطية وما حدث من امتزاج بين العرب والمصريين في المسكن والمعيشة والمصاهرة وأخذت تسود عامية كانت الغلبة في أفعالها وأسمائها وضمائرها للفصحى وهي لذلك عامية عربية، وكان أول ما حرَّفته من عروبتها التزامها بإهمال الإعراب في أواخر كلامها منذ العصر الفاطمي إذ نجد أكبر علماء مصر اللغويين في القرن السادس الهجري: ابن بري المتوفى سنة 582 للهجرة يهمل الإعراب في كلامه، يقول ابن خلكان إنه كان لا يتقيد في حديثه بالإعراب ويسترسل في كلامه كيفما اتفق، وقال يوما لأحد تلامذته ممن يشتغل عليه بالنحو: اشتر لي هندبا بعُروقو، فقال له التلميذ مصححا عبارته: بعروقه، فعزَّ عليه تصحيح التلميذ للفظه، فقال له: لا تأخذه إلا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو فلا تأخذه، يقول ابن خلكان: وكانت له كلمات من هذا الجنس، لا يكترث بما يقوله، ولا يتوقف على إعرابها، فإذا قلنا إن العامية المصرية أخذت تشيع في أحاديث المصريين منذ القرن السادس الهجري حتى في ألسنة أعلام الفصحى من أمثال ابن بري لم نكن مغالين ولا مبالغين.
 
       ولابن سناء الملك المصري شاعر صلاح الدين المعاصر لـه إذ توفي سنة 608 للهجرة كتاب في موشحات الأندلسيين وموشحاته سمَّاه: " دار الطراز " ونجده يهمل الإعراب في موشحاته مرارًا في بعض عباراته، ونذكر من ذلك بعض الشواهد. ففي الموشح السادس: " فرجعت خايب .. حين فر هارب " ويقول في الموشح الثامن عشر : " غزالا فاتر الأجفان فاتن". وفي الموشح الحادي والعشرين: " قولا صحيح ". وفي الموشح الثالث والعشرين " طرفا فاتر .. سيفاً باتر " وفي الموشح الرابع والعشرين: " ما أراني راضي". وفي الموشح الخامس والثلاثين: " لم أكن ذاهل .. لم أكن غافل " وجميع الكلمات الساكنة في هذه الموشحات وهي على الترتيب:" خايب. هارب. فاتن. صحيح. فاتر. باتر. راضي. ذاهل غافل. " ساكنة، وحقها النصب. وفي ذلك ما يدل على أن إهمال الإعراب في العامية أخذ يدخل في الموشحات الفصيحة: عدوى جاءتها من شيوعه في العامية المصرية.
(تابع)

2 - يناير - 2008
أحاديث الوطن والزمن المتحول
العامية فصحى محرفة (3)    كن أول من يقيّم

                                                العامية فصحى محرفة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
 
تحريفات كثيرة في العامية
 
       الكثرة الغالبة في ألفاظ العامية المصرية ألفاظ فصيحة أو ذات أصل فصيح، إذ أغلب ما فيها من أفعال أو أسماء أو حروف أو حركات أصله فصيح وعمت فيه تحريفات سجلها العالم الجليل المرحوم أحمد تيمور في معجمه الكبير وسجلها مؤلفو كتب الألفاظ العامية في مؤلفاتهم، والتحريفات كثيرة. بحيث يمكن أن يقال إن العامية فصحى محرفة ونضرب لذلك بعض الأمثلة:
 
أ- كسر أحرف المضارعة
 
شاع كسر أحرف المضارعة في العاميات العربية وتجاريها العامية المصرية فيما عدا همزة المتكلم، وكأنها استثقلت كسرها لخروجها من الحلق واشتهرت قبيلة بهراء القضاعية التي كانت تنزل شمالي ينبع في الحجاز وتمتد عشائرها إلى خليج العقبة بأنها كانت تكسر أحرف المضارعة، ويسمى اللغويون هذه الظاهرة باسم تَلْتَله بهراء ويبدو أن أكثر القبائل العربية في نجد وغيرها كانت تشرك قبيلة بهراء في هذه الظاهرة، إذ يقول أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " تعليقاً على قراءة ( نعبد نستعين ) في سورة الفاتحة بكسر النون: إن كسر أحرف المضارعة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة، وكأن قبائل كثيرة كانت   تكسر أحرف المضارعة مع بهراء. ويقول سيبويه في الجزء الثاني من كتابه: "إن جميع العرب كانت تكسرها إلا قريشاً وأهل الحجاز". ويعني ذلك أن الفصحى لغة قريش لم تكن تعرفها، وينبغي أن تبرأ منها العامية المصرية وتتمسك مثل الفصحى بفتح أحرف المضارعة فيما عدا المضارع الرباعي فإنه يضم في مثل يُكرم يُنْعم.
 
ب زيادة الباء قبل أحرف المضارعة
 
       تدخل العامية حرف الباء قبل أحرف المضارعة لتأكيد حدوث الفعل في زمن التكلم، وتظل مكسورة في جميع صور المضارع إلا مع همزة المتكلم، فإنها تفتح وتسهَّل همزة المضارع بعدها دائما، فيقال مثلا: " باكتب " للمتكلم بفتح الباء وتسهيل الهمزة، وتقول العامة: "بِنكتب" بكسر الباء، وبالمثل " بتكتب بيكتب بتِكتبوا بحذف النون كما سيأتي ومثلها بيكتبوا مع حذف النون. فالباء فيها جميعا دائما مكسورة.
 
       وليست هذه الباء التي تزيدها العامة في أول المضارع هي الباء الجارة، لأن حروف الجر لا تدخل على الأفعال ، ولم يسمع عن أي قبيلة عربية إدخال أي حرف من حروف الجر على الفعل المضارع. وذكر الدكتور أحمد عيسى في كتابه:
( المحكم في أصول الكلمات العامية ) أن الباء تزاد في أول الأسماء باللغتين السريانية والعبرية مختزلة من كلمة بيت فيقال مثلا بزمار أي بيت زمار. وذكر أيضا أن الفرس يزيدون باء في أول الكلمة للدلالة على معنى "ذو" العربية فيقولون" با اسب أي ذو فرس.
       وإذا سلمنا بأن الباء الداخلة على الفعل المضارع في العامية زائدة، وهي لابد زائدة فلا داعي لأن نذهب بعيدا في تعليلها، لأنها تزاد في العربية مع الصيغ لتأكيد الكلام، تزاد مع المبتدأ في مثل: " بحسبك ما قلت " ومع الخبر في مثل: "ما زيد بفاهم" مع الفاعل في مثل: " كفى بعلي شاهدًا " ومع المفعول به في مثل: " صبَّ بماء " ومع النفس في مثل جاء زيد بنفسه، ومع العين في مثل: " حضر زيد بعينه" وكأن العامية زادت الباء مع المضارع شعورًا منها بأنها تزاد في الصيغ للتأكيد، فزادتها مع المضارع لتأكيد وقوعه في الحال. وهي لحن شديد، وينبغي أن تتخلص منه العامية.
 
جـ إدخال الحاء على المضارع للدلالة على الاستقبال
 
       تزيد العربية في أول المضارع حرفي السين وسوف في مثل: " سأكتب سوف أكتب " . ولا تستعمل العامية أحد الحرفين للدلالة على وقوع المضارع في المستقبل، بل تستعمل مكانهما حرف الحاء، فيقال: حاكتب مع تسهيل همزة المتكلم كما يقال: "حنكتب حتكتب حيكتب" وليست هذه الحاء مبدلة من السين للبعد بين مخرجيهما، ولم يرد هذا الإبدال عن أي قبيلة عربية، وهو خاص بالعامية مثل الباء السالفة. وأكبر الظن أن العامية اختزلت الحاء من كلمة "رايح" إذ يقال فيها:     " راح اكتب" بتسهيل همزة "أكتب" واختزلت العامية كلمة: " راح اكتب " فقالت " ح اكتب " وأصبحت: " حاكتب حيكتب " وهلم جرا.
       وشاع ذلك بين عامة مصر في كل مكان، يقولون: "حنمشي حنكتب حنسافر" إلى غير ذلك. وهو لحن أو تحريف شديد، وينبغي أن تبرأ العامية من دخول الحاء على المضارع وتستخدم معه السين للدلالة على وقوعه في المستقبل.
 
د دخول "ما" على المضارع حثًّا عليه
 
       تدخل العامية " ما " على المضارع للحث عليه، فيقال: " ما تجلس ما تسمع، ما تنصت " إلى غير ذلك من استعمالات للحرف " ما " مع المضارع. و "ما" هذه تحريف لـ "أَمَا" التي تدل على الحث على أداء الفعل والحض عليه وقد حَذَفت منها العامية الهمزة تسهيلا، وحذفها في العامية كثير. وينبغي أن ترد " ما " هذه إلى أصلها: " أما " حتى تصبح تعبيراتها عربية فصيحة، فيقال: " أما تجلس أما تسمع أما تنصت إلى غير ذلك مما تحرفه .
 
(تابع ) 
 

2 - يناير - 2008
أحاديث الوطن والزمن المتحول
العامية فصحى محرفة (4)    كن أول من يقيّم

 العامية فصحى محرفة
 
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
 
هـ حذف نون الرفع في المضارع المقترن بواو الجماعة وياء المخاطبة
 
       حين يقترن الفعل المضارع بواو الجماعة في العربية مثل تجلسون وبياء المخاطبة في مثل تجلسين تظل معه النون، لأنها علامة رفعه إلا إذا دخل عليه جازم أو ناصب فإنها تحذف معهما، فيقال مثلا: " لم لن تجلسوا، وبالمثل لم لن تجلسي " هذه هي قاعدة الفصحى، وقال ابن مالك في كتابه التسهيل: " نَدَرَ حذفها مفردة في الرفع نظما ونثرا" والندرة في رأيي تعني الشذوذ، ويؤكد ذلك أنه لم يعرف لقبيلة عربية حذف هذه النون، ويستشهد النحاة له بقول شاعر:
 
كلٌّ له نيَّةٌ في بغض صاحبه بـنـعمة  الله نَقْليكم وتقلونا
وأصل " تقلونا " تقلوننا فحذف الشاعر نون الرفع دون ناصب أو جازم، وقد يكون حذفها لضرورة الوزن في البيت، وبذلك لا يكون  شاهدًا للنحاة على حذف نون الرفع مع المضارع المقترن بواو الجماعة. واستشهد النحاة لحذف نون الرفع مع المضارع المقترن بياء المخاطبة بقول أحد الشعراء لزوجته:
 
أبـيت أسْرى وتبيتي iiتدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
 
فقد حذف الشاعر النون مع ياء المخاطبة في الفعلين " تبيتي تدلكي ". ويمكن أن يقال إنه صنع ذلك لضرورة الشعر. وبيت واحد شاذ لا ينقض قاعدة، ولا يلغيها.
 
       وروى النحاة حديثًا نبويًّا جاء فيه حذف نون الرفع من المضارع المقترن بواو الجماعة، إذ جاء فيه: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا " وقد حَذف في الحديث مع الفعلين " تدخلوا تؤمنوا " نونُ الرفع دون وجود ناصب أوجازم يقتضي هذا الحذف. والنحاة المتقدمون لا يستشهدون بالحديث في قواعد النحاة، خشيةأن يكون دخله تحريف على ألسنة الرواة ، وكثير منهم كانوا من الأعاجم الذين لا تؤخذ عنهم اللغة. ولا ريب في أن حذف  نون الرفع مع المضارع المقترن بواو الجماعة وياء المخاطبة دون موجب له من ناصب أو جازم يعد لحنا وتحريفا شديدا وينبغي أن تتخلص منه العامية.
 
و لا تلحق العامية بالمضارع ألف التثنية ونون النسوة
 
       العامية لا تلحق ألف التثنية بالمضارع وتستخدم مكانها واو  جماعة الذكور وتعممها مع جماعة الإناث، فتقول عن : " تلميذين وتلميذتين وتلميذات " يجلسوا دون أي تمييز بين الذكور والإناث في حالتي التثنية وجمع الإناث.
 
       وكأن العامية لا تعترف بحالة التثنية، وخاصة في عود الضمير عليهما ذكورا وإناثا، وقد ألغيت التثنية نهائيا في الأفعال جميعا، وقد يقال إن العرب تعامل الاثنين أحيانا معاملة الجمع، كما في قوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) وقوله جل شأنه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)، وأجيب عن ذلك بأن الواحد في الخصمين والواحدة في الطائفتين يتكونان من أفراد، أي أن اللفظين مثنيان في الظاهر، وهما جمعان في الواقع، ولا يقال زيد وعمرو جاءوني، بل يقال جاءاني لوجوب المطابقة بين الضمير وما يعود عليه مفردا ومثنى ومجموعا. والعامية بذلك تضع فاصلا شديدا بينها وبين الفصحى في استخدامها واو الجماعة في التثنية وبالمثل وضعُها في الإناث مكان نون النسوة الملحقة بالمضارع، وينبغي أن ترفع هذا الفاصل نهائيا، فلا تقول في جماعة الإناث "يسمعوا" بل تقول "يسمعن" ولا تقول في تلميذين إنهما  " يقرءوا " بل تقول "يقرآن" وبالمثل الفتاتان "تقرآن"، وبذلك يسقط هذا الفاصل أو الحاجز بين العامية وبين الفصحى.
 
( يتبع )
 

2 - يناير - 2008
أحاديث الوطن والزمن المتحول
العامية فصحى محرفة (5)    كن أول من يقيّم

                                                    العامية فصحى محرفة
 
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
 
ز- إلحاق علامة الجمع بالمضارع مع ذكر الفاعل المجموع
 
 اشتهرت قبيلتا طيِّئ وأزد شنوءة بأنهما تلحقان علامتي التثنية والجمع بالفعل مع ذكر الفاعل، فيقولان: " يجلسان زيد وعمر تحضران هند وزينب يقومون الرجال يحضرن الفتيات ". والفصحى تمنع ذلك منعا باتا فلا تلحق علامة التثنية بالفعل مع   ذكر الفاعل، وضمير التثنية لا يوجد في العامية، وأيضا لا تلحق الفصحى علامة الجمع بالفعل مع ذكر الفاعل المجموع بينما تصنع العامية ذلك أسوة بقبيلتي طيئ وأزد شنوءة، ومما جاء منه قول أُحَيْحة بن الجلاح:
يلومونني في اشتراء النخي لِ  أهـلـي فـكـلهمُ ألوم
 
فقد ألحق أحيحة بالفعل: "يلوم" واو الجماعة، مع ذكر الفاعل المجموع وهو: "أهلي" . وشاعت هذه الصيغة في العامية المصرية لنزول كثير من الطائيين فيها. وينبغي أن تتخلص منها العامية في مصر لمخالفتها الشديدة للفصحى.
 
ح قلب واو الفعل المضارع الناقص ياء
 
       تقلب العامية واو الفعل المضارع الناقص ياء باطراد، آخذة  في ذلك بلهجة طيئ، فتقول في  أدعوه الفصيحة أدعيه، وفي أشكوه: أشكيه، وفي أكسوه: أكسيه، وفي أمحوه: أمحيه، وفي أجلوه: أجليه. وينبغي أن تعود العامية بكل هذه الأفعال إلى نطقها الفصيح بالواو في الأفعال السالفة وما يماثلها. وبذلك تلغى الصورة اليائية في هذه الأفعال وأمثالها وتصبح أفعالا مضارعة واوية.
 
ط إلحاق الشين بالمضارع المنفي
 
       تلحق العامية المصرية بالمضارع المنفي الشين تأكيدا للنفي، فتقول في الأفعال التالية ما يحضر ما يغيب ما يذاكر ما ينتبه هكذا: ما بيحضرش ما بيغيبش ما بيذاكرش ما ينتبهش. بزيادة الباء في أول المضارع لتأكيد حدوث الفعل كما مر بنا. والمظنون أن العامية المصرية اختزلت الشين الملحقة بالأفعال السالفة من كلمة شيء، وكأن أصل " ما بيحضرش " مثلا: ما يحضر شىء. ومع الزمن أصبحت الشين في هذه الأفعال وما يماثلها لا تدل على كلمة شيء وإنما تدل على تأكيد النفي، ومما يدل على ذلك أننا نرى العامية تلحقها بما النافية لتأكيد النفي فيها مع كسر ميمها، فتقول مثلا: " مش كاتب " بحذف ألف " ما " وكسر ميمها، وقد تأتي مع الظرف، فيقال مثلا: " ما عنديش وقت " ومع الجار والمجرور في مثل: " ما ليش حاجة " وإنما عرضت هذه التحريفات الكثيرة في المضارع للعامية، لأصور مدى ما تلحق به أو تدخل عليه من مغايرات لأصله في الفصحى. ولن أستطيع في وقت هذه المحاضرة المحدود أن أعرض بالتفصيل تحريفاتها في الصيغ الأخرى.
       والأسماء المشتقة دَخَلَ صيغها كثير من التحريف، ونكتفي بإيجاز ما حدث لاسم المفعول، من ذلك اشتقاقه من الفعل الثلاثي الأجوف اليائي، إذ نقول:معيوب، مديون.وهما في الفصيح: معيب مدين، ولا يشفع لهذا اللحن كون قبيلة تميم كانت تنطق به ومن ذلك أن العامية تكسر ميم اسم المفعول المشتق من غير الفعل الثلاثي فتقول: محمد مكهرب. وتقول العامية هذا الثوب مباع  والصواب مبيع، وهذا العقد مَلْغِي والصواب مُلْغَى. والمال مودوع والصواب مودع وفرس ملجَّم والصواب مُلْجم، ومنظر مهول والصواب هائل.
   ( تابع )   

3 - يناير - 2008
أحاديث الوطن والزمن المتحول
 52  53  54  55  56