البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات د يحيى مصري

 51  52  53  54  55 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه40    كن أول من يقيّم

لله الأمر من قبل ومن بعد
فضل العلم
كنت في أعوام الستين وألف مرتحلاً في طلب العلم، فدخلت قرية في أرض دكالة، فرأيت فيها رجلاً مسناً قد لازم المسجد منقطعاً عن الناس، فجلست إليه مستحسناً لحاله، وفي الحديث "إذَا رَأيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْداً في الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَادْنُوا مِنْهُ، فَإنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ".
فلما دنوت منه إذا هو يعظم العلم وأهله تعظيماً بالغاً، فازددت به عجباً، فكنت أجلس بين يديه ويحدثني ويصبرني على الغربة، ويحضني على العلم رحمة الله عليه، وأنشدني في شأن الغربة ملحوناً:
أنا الغريب الـمـتـوح          صابر على كلّ هانـا
إلى نتجرح ما نقـل اح               في قلب من قطعت أنا
وفي نحو هذا يقول الشاعر:
إذا كنت في قوم عِداً لست منـهـم            فكل ما علفت من خبيث وطـيب
وإن حدثتك النّـفـس أنـك قـادر               على ما حوت أيدي الرجال فكذب
وقال الآخر:
لا يعدم المرء كِنّاً يستـقـر بـه                وَبُلغةً بين أهلـيهِ وأحـبـابـه
ومن نأى عنهم قلت مهـابـتـه               كالليث يحقر لما غاب عن غابه
وقال الحريري:
إن الغريب الطويل الذيل ممتهن             فكيف حال غريب ما له قوت
وأنشدني في مدح العلم ملحوناً:
العلم شـمـعـا مـنـيرا          يتـنـاولـه الأكــياس
ما فـوق مـنـو ذخـيراً         يزول عن القلب الإحساس
وفضل العلم وشرفه أمهر أشهر من أن يذكر، وأوضح من أن ينكر، ويكفي في ذلك النظر.
 ومن غريب ما حكي أنه اتفق للفقيه الخليل الإمام ابن عرفة رضي الله عنه وكان قد مرض فأصابه غشي قال: فجاءتني طائفتان: إحداهما عن يميني وجعلوا يرجحون الإسلام، والأخرى عن يساري وجعلوا يرجحون الكفر، عياذاً بالله تعالى. قال: فأخذ هؤلاء يلقون شبه الكفار ويلهمني الله تعالى الجواب عنها بما كنت عرفت من قواعد العقائد، فعلمت أن العلم ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة.
لله الأمر من قبل ومن بعد
الانزعاج عن الوطن
خرجت في أعوام التسعين وألف من حضرة مراكش حرسها الله، وكنت إذ ذاك منزعجاً عن الوطن، مباياٌ للقطين والسكن، فلقيت أعرابياً من هوارة، وهم حي من شبانة، فإذا هو قد انزعج عن وطنه في السوس الأقصى، فحدثني عن أحمد بن عبد الله بن مبارك الوقاوي أنه كان هبت له ريح فحسده قومه وقالوا عنه وهو في غربته حتى خرج عن وطنه إلى وداي السوس، قال: فجئته ذات مرة وهو في غربته، فقال لي: أين العرب وأين القوالون؟ قال: فقلت: هم بحالهم، لم يزالوا يقولون، قال ثم أنشد هو ملحوناً:
إلى برك لي الزمان أركبت علـيه            ولى راد المولى نلقاه عـراضـا
برك لي مركوب فإني ضاري بـه            ما نحسبش أيامي علي مغتاضـا
نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا          
في قوله: مغتاضاً من الغيظ، وأبدل من الظاء "هنا" ضاداً، وكان هذا من عجيب الاتفاق، فإن هذا القول مناسب لأحوالنا معشر الثلاثة، أعني القائل والراوي والسامع، وقوله: "نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا" هذا هو أدب العبد، وهو الصبر لأحكام الله تعالى والسكون تحت مجاري الأقدار، قال تعالى: (وَاصْبِرْ لحُكْمِ رَبّكَ...)، ونحوه من نصوص الكتاب والسنّة وأقوال أئمة الدين لا يحصى.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 41    كن أول من يقيّم

 
واعلم أن الحكم حكمان حكم تكليفي وحكم تصريفي، وكلاهما يجب الإذعان له والتسليم.
أما التكليفي فهو الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة التي وردت بها الشريعة المطهرة.
وأما التصريفي فهو ما قدر على العبد من غير ذلك مما يرد عليه كالغنى والفقر والعز والذل والصحة والمرض والسرور والحزن وغير ذلك. ومورد الأول كلام الله تعالى أمراً ونهياً، ومورد الثاني قدرته تعالى إيجاداً وإعداماً على وفق مشيئته وعلمه؛ وكما لا بد من قبول الأول وامتثاله فعلاً وتركاً وتلقيه بالصبر على ما فيه من المشقة على النفس، وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى والاستلذاذ، كذلك لا بد في الثاني من تلقي محبوبه بالشكر ومكروهه بالصبر؛ وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى.
ثم إن كل شيء قدر على العبد فلا محالة يقدر له وقت يقع فيه لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فمتى حان وقت شيء فهو بارز لا محالة خيراً كان أو شراً لا يمكن أن لا يبرز ولا أن يبرز غيره في موضعه، فالبصير يستكن حتى ينقضي بانقضاء وقته فيجمع بين راحة قلبه والأدب مع ربه، والجاهل يقلق منه أو يروم ظهور غيره دونه فيصير أحمق الحمقاء، ولا يحصل إلا على الشقاء.
وقال صاحب "الحكم العطائية": "ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله فيه" وقالوا: الوقت سيف، وأنشدوا:
وكالسيف إن لاينته لان مسه                وحَدَّاه إن خاشنته خَشِنـان
ولله الأمر من قبل وبعد
النفس والشيطان
وأنشدني أبو البقاسم بن بوعتل الشباني ثم الزراري لبعض الأعراب ملحوناً:
يا رأسـي عـيبـك بــان                والى عيبو ما يصيب ايدسو
قالوا علة ابن آدم شـيطـان           وإنا نقول علة ابن آدم نفسو
قبـل لا يزيغ إبـلـــيس        اش يكـون ابـلـيســو
فانظر إلى هذا الأعرابي كيف غاص على معنى كبير وهو أن نفس الإنسان سبب هلاكه بإذن الله تعالى إلاّ من عصمه الله، وكيف وقع على حجة برهانية وقياس منظوم في النفس، وتقريره أن يقول: لو كان كل زائغ إنما يزيغ بشيطان لكان إبليس حين زاغ بإبليس آخر، والتالي باطل للزوم التسلسل فالمقدم مثله.
  ونحو هذا في الاستدلال ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أبطل العدوى بمعنى أنه لا تأثير فيها لغير الله تعالى فقال له الأعرابي: ما بالنا نرى الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيدخلها جمل أجرب فتجرب كلها، فقال له صلى الله عليه وسلم:"فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ"؟ أي لو كان جمل إنما يأتيه هذا البلاء من آخر قبله لزم التسلسل، وهو باطل، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى بعير يصيبه البلاء من عند الله بلا سبب هذه العدوى فيعلم عند ذلك أن الله تعالى هو الفاعل المختار، يفعل الشيء عند الشيء، وهو قادر أن يفعله بلا شيء ولا عند شيء، سبحانه عما يشركون.
واعلم أن ما ذكره هذا الأعرابي في ملحونه من أن علة الإنسان نفسه صحيح، وعزله الشيطان عن ذلك غير صحيح إن أراد أنه لا مدخل له، وإن أراد أنه غير مستقل بالإضرار لمشاركة النفس له أو أن ضرر النفس هو الأعظم لأنها المباشرة والشيطان متسبب فصحيح، وتقرير هذه الجملة باختصار: إن كلاً من النفس والشيطان مضر بالعبد فهما متظاهران على العبد كما قال "بعضهم" وقد ضم إليهما الدنيا والهوى:
إني بليت بأربـع يرمـينـنـي          بالنبل عن قوس لهـا تـوتـير
إبليس والدنيا ونفسي والـهـوى             يا رب أنت على الخلاص قدير
وسبب ذلك أن الآدمي لما أبدعه الله تعالى بقدرته مؤتلفاً من الأخلاط ذا مزاج جعله سبحانه بباهر حكمته وسابق مشيئته مفتقراً عادة في بقاء وجوده الشخصي إلى القوام وهو الغذاء بالطعام والشراب وفي بقاء وجوده النوعي إلى التوالد بواسطة "النكاح، فطبع فيه عند ذلك شهوة الأكل وشهوة النكاح" و "لو" لم يكن ذلك طبعاً لافتقر إلى داع آخر فيتسلسل، أو يبقى فاتراً عن ذلك فيهلك شخصاً أو نوعاً، فسبحان المدبر الحكيم.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 42    كن أول من يقيّم

لله الأمر من قبل ومن بعد
الحكم التكليفي والحكم التصريفي
واعلم أن الحكم حكمان حكم تكليفي وحكم تصريفي، وكلاهما يجب الإذعان له والتسليم.
أما التكليفي فهو الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة التي وردت بها الشريعة المطهرة.
وأما التصريفي فهو ما قدر على العبد من غير ذلك مما يرد عليه كالغنى والفقر والعز والذل والصحة والمرض والسرور والحزن وغير ذلك. ومورد الأول كلام الله تعالى أمراً ونهياً، ومورد الثاني قدرته تعالى إيجاداً وإعداماً على وفق مشيئته وعلمه؛ وكما لا بد من قبول الأول وامتثاله فعلاً وتركاً وتلقيه بالصبر على ما فيه من المشقة على النفس، وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى والاستلذاذ، كذلك لا بد في الثاني من تلقي محبوبه بالشكر ومكروهه بالصبر؛ وقد تضمحل أيضاً دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى.
ثم إن كل شيء قدر على العبد فلا محالة يقدر له وقت يقع فيه لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فمتى حان وقت شيء فهو بارز لا محالة خيراً كان أو شراً لا يمكن أن لا يبرز ولا أن يبرز غيره في موضعه، فالبصير يستكن حتى ينقضي بانقضاء وقته فيجمع بين راحة قلبه والأدب مع ربه، والجاهل يقلق منه أو يروم ظهور غيره دونه فيصير أحمق الحمقاء، ولا يحصل إلا على الشقاء.
وقال صاحب "الحكم العطائية": "ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله فيه" وقالوا: الوقت سيف، وأنشدوا:
وكالسيف إن لاينته لان مسه                وحَدَّاه إن خاشنته خَشِنـان
ولله الأمر من قبل وبعد
النفس والشيطان
وأنشدني أبو البقاسم بن بوعتل الشباني ثم الزراري لبعض الأعراب ملحوناً:
يا رأسـي عـيبـك بــان                والى عيبو ما يصيب ايدسو
قالوا علة ابن آدم شـيطـان           وإنا نقول علة ابن آدم نفسو
قبـل لا يزيغ إبـلـــيس        اش يكـون ابـلـيســو
فانظر إلى هذا الأعرابي كيف غاص على معنى كبير وهو أن نفس الإنسان سبب هلاكه بإذن الله تعالى إلاّ من عصمه الله، وكيف وقع على حجة برهانية وقياس منظوم في النفس، وتقريره أن يقول: لو كان كل زائغ إنما يزيغ بشيطان لكان إبليس حين زاغ بإبليس آخر، والتالي باطل للزوم التسلسل فالمقدم مثله.
  ونحو هذا في الاستدلال ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أبطل العدوى بمعنى أنه لا تأثير فيها لغير الله تعالى فقال له الأعرابي: ما بالنا نرى الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيدخلها جمل أجرب فتجرب كلها، فقال له صلى الله عليه وسلم:"فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ"؟ أي لو كان جمل إنما يأتيه هذا البلاء من آخر قبله لزم التسلسل، وهو باطل، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى بعير يصيبه البلاء من عند الله بلا سبب هذه العدوى فيعلم عند ذلك أن الله تعالى هو الفاعل المختار، يفعل الشيء عند الشيء، وهو قادر أن يفعله بلا شيء ولا عند شيء، سبحانه عما يشركون.
واعلم أن ما ذكره هذا الأعرابي في ملحونه من أن علة الإنسان نفسه صحيح، وعزله الشيطان عن ذلك غير صحيح إن أراد أنه لا مدخل له، وإن أراد أنه غير مستقل بالإضرار لمشاركة النفس له أو أن ضرر النفس هو الأعظم لأنها المباشرة والشيطان متسبب فصحيح، وتقرير هذه الجملة باختصار: إن كلاً من النفس والشيطان مضر بالعبد فهما متظاهران على العبد كما قال "بعضهم" وقد ضم إليهما الدنيا والهوى:
إني بليت بأربـع يرمـينـنـي          بالنبل عن قوس لهـا تـوتـير
إبليس والدنيا ونفسي والـهـوى             يا رب أنت على الخلاص قدير
وسبب ذلك أن الآدمي لما أبدعه الله تعالى بقدرته مؤتلفاً من الأخلاط ذا مزاج جعله سبحانه بباهر حكمته وسابق مشيئته مفتقراً عادة في بقاء وجوده الشخصي إلى القوام وهو الغذاء بالطعام والشراب وفي بقاء وجوده النوعي إلى التوالد بواسطة "النكاح، فطبع فيه عند ذلك شهوة الأكل وشهوة النكاح" و "لو" لم يكن ذلك طبعاً لافتقر إلى داع آخر فيتسلسل، أو يبقى فاتراً عن ذلك فيهلك شخصاً أو نوعاً، فسبحان المدبر الحكيم.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه43     كن أول من يقيّم

ثم لما كانت الشهوتان أعني الأكل والنكاح لا تحصلان إلا من مادة وهي المال وبه يحصل المأكول، والنساء وبهن يحصل النكاح المؤدي إلى التناسل المذكور، والنساء لا يحصلن إلاّ بالمال أيضاً، طبع الله فيه حب المال وحب النساء وكل ما يستعان به في ذلك الباب من صحة وقدرة وجاه، وذلك هو مجموع الدنيا، فكانت الدنيا محبوبة طبعاً للحكمة المذكورة، وكان ميل النفس إلى سيئ من هذه المحبوبات بمقتضى الشهوتين المذكورتين، وهو المعبر عنه الهوى طبعاً في الإنسان، وكل ذلك في أصله رحمة من الله تعالى للإنسان كما ترى، إذ لولا ذلك لم يستمر له وجود.
ثم جعل الله تعالى العبد متأثراً بالعوارض في بدنه وفي ماله وفي حريمه ونحو ذلك فافتقر إلى احتماء عن ذلك ودفاع فطبع فيه الغضب وهو أيضاً رحمة منه تعالى، إذ لولا هو لم ينتهض للدفع عن نفسه ولا حريمه ولا ماله ولا جاره ولا غير ذلك ولا لتغيير منكر ولا نحو ذلك.
ثم إن النفس لما كان فيها ذلك طبعاً استعدت لأن تتقاضاه من كل وجه "طلباً" لحصول المرام على التمام فتأكل مثلاً وتبالغ ولا تقتصر على القدر المحتاج، ولا تتنزه عن الزائد المضر، وتشرب كذلك وتنكح، ثم لا تبالي من أي وجه حصل ذلك أمن مأذون فيه أم محرم، لأن سعيها طبعي لا شرعي، وكذا في غضبها ودفاعها، فمتى تركت وذلك أضرت بالعبد عاجلاً بحصول الأمراض وإتلاف الأموال في الشهوات وانتهاك الأعراض والمروءات وكثرة اللجاج والعدوان والهلاك والبوار، وآجلاً بالتعريض لطول الحساب، وأليم العقاب، عند وجوب التكليف، وهذه هي المضرة المنسوبة للنفس، فخلق الله تعالى العقل ليكون محتسباً عليها حتى تكون فيما ذكر من الشهوة والغضب تابعة لإشارة العقل أخذاً وتركاً، وأودع الله تعالى في العقل إدراك المصالح والمفاسد والمنافع والمضار حتى يعلم ما يشير به أمراً ونهياً ليجري الأمر على السداد، فلا يقع قصور عن المراد، ولا التعدي إلى ما يوجب الفساد.
ثم لما كان العقل أيضاً معرضاً للخطأ وللقصور عن كثير من المصالح وللجهل بكثير من المدارك ولا سيما المغيبات لأن النقصان شأن المخلوق افتقر هو أيضاً إلى مؤيد إما إلهام من الله تعالى وإما عقل آخر أكمل كما في حال التربية وتلقين الحكمة، وإمّا وحي سماوي وهو أكمل، فأنزلت الأحكام إليها عند أهل الحق لا إلى العقل فصار العقل مؤيداً للشرع ومتأيداً به.
 ثم إن إبليس اللعين عندما وقع له من الخزي والطرد مع صفي الله آدم عليه السلام ما وقع صار عدواً له حسوداً حقوداً وكذا لذريته إلى يوم القيامة، قال تعالى: (يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) وقال تعالى: "(إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) وقال تعالى: (إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)" وقال تعالى: (إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) إلى غير ذلك. فكان دأبه السعي في مضرة الآدمي كما يسعى كل عدو في مضرة عدوه، ولم يجد إلى مضرته سبيلاً أيسر ولا سبباً أنجح من أن يأتيه من قبل النفس وطريق الطبع فيزين له ما طبع من الشهوات، ويسوّل له كل قبيح، قال تعالى: (الشَيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشاءِ) فحصل اتفاق بين النفس والشيطان على مضرة الآدمي، غير أن المقصد مختلف، فإن النفس لم تكن منها المضرة عن قصد وعداوة، كيف ولا أحب إلى كل أحد من نفسه؟ بل جهلاً وغلطاً، وذلك أنها أدركت ما في طبعها من الشهوات الحاضرة فاستحسنته، وظنت أن ذلك هو كمال صاحبها إذا ناله، فجاء الشيطان فأغراها مما استحسنت، وزين لها ما ظنت، فاعتقدته نصيحاً، واتخذته خليلاً، تلبي دعوته، وتجيب رغبته، فأتيَ الإنسان منها، وتمكن منه عدوُّه من طريقها، فصارت من هذه الوجه عدوة بل أكبر الأعداء.
وأما الشيطان لعنه الله فهو يفعل ما يفعل عن عداوة وقصد إضرار، فإنه لما خاب من رحمة الله وطرد عن بابه، نسأل الله العافية، أراد أن يسعى في خيبة الآدمي وبعده عن الله وحرمانه من نعيم الجنة باتباع الدنيا وغرورها والإكباب على شهواتها.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 44    كن أول من يقيّم

واعلم أن الشيطان لشدة عداوته للإنسان ليس له غرض في اتباع الإنسان للشهوات وتمتعه باللذات، بل لو أمكنه أن يسعى في حرمانه دائماً فلا ينال لذة عاجلة ولا آجلة، ولا يحصل على منفعة في الدنيا ولا في الآخرة لكان ذلك هو منيته ورغبته، وهو مقتضى العداوة وثمرة الحسد، إلاّ أنه لما لم يمكنه ذلك لفرضان رحمة الله على عباده وسبوغ نعمه عليهم رأى أن يرتكب به أعظم الضررين فيستزلّه عن أعظم الحظين بل الحظ الذي هو الحظ، وهو الأخروي، ويستهويه إلى الحظ الدنيوي، ورأى أنه إذا خاب عن النفيس الباقي واستبدله بالخسيس الفاني فقد خاب، والأمر كذلك. فإن ما في الدنيا لو كان نفيساً وهو بصدد الانقطاع لم يلتفت إليه، فكيف وهو مع ذلك خسيس "مشوب" متكدر. بل لو كان نعيم الآخرة النفيس ينقطع لوجب أن يلتفت إليه، إذ النفس إنما تجد النعمة ما دامت متناولة لها، فإذا انقطعت عنها تكدرت كالصبي الراضع متى صرف الثدي عن فيه صاح.
وما مثال النفس في ذلك إلاّ مثال المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّهُنَّ يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَإنَّكَ لَوْ أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ". فقد تحصل من هذا أن النفس مضرة بالإنسان من وجهين: أحدهما "أنها" تميل طبعاً إلى الشهوات وتخلد إلى الرعونات، الثاني أنها مسلك الشيطان إلى الإنسان كما مرّ، وإن الشيطان مضر للإنسان أبداً بوسوسته وتزيينه للنفس.
وهذه كلها أسباب جعلية اقتضتها الحكمة، والنافع والضار بالحقيقة هو الله تعالى، وتبين أن النفس تابعة للشيطان في مضرة الإنسان سفهاً منها وغلطاً، لا عداوة، ولسان حالها ينشد قول القائل:
وخلتهم سهاماً صـائبـات             فكانوها ولكن في فؤادي
الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني
ومن أجل ما ذكرنا بين النفس والشيطان من اختلاف الوجه، وتباين المقصد فرق أئمة التصوف رضوان الله عليهم بين الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني بعد اشتراكهما في الحض على السوء في الجملة، وهو أن الخاطر إذا تقاضى معصية مثلاً بعينها فإن أصر على ذلك فهو نفساني، وإن جعل يتحول من معصية إلى أخرى فهو شيطاني، ووجه ذلك أن النفس إنما تطلب المعصية بمقتضى طبعها فيها من حيث أنها شهوة لا غير، فلا تريد أن تنفك عنها حتى تنالها بعينها.
وأما الشيطان فليس طلبه من الإنسان أن ينال شهوة ومتعة من حيث التنعم بها فإنه عدو، بل من حيث إنها معصية موجبة للعقاب، فمتى دعاه إلى واحدة وتعسرت أو تلكأ عليه فيها دعاه إلى أخرى لقيامها مقامها في المقصود، وهو حصول الإثم واستحقاق النار، نعوذ بالله تعالى من شره.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 45    كن أول من يقيّم

  لله الأمر من قبل ومن بعد
الحقيقة والشريعة
خطر لي ذات ليلة بيت للملك الضليل امرئ القيس بن حجر فوجدته قد احتوى على مقتضى الشريعة الظاهرة والباطنة، وتضمن كل ما تحصل عن دواوين أئمة الدين وأقاويل الصوفية، فقضيت العجب من ذلك، وعلمت أن الله تعالى من باهر قدرته وعجيب حكمته يبرز الحكمة على لسان من شاء وإن لم يكن من أهلها، كما قال بعض السلف حين سمع بعض الولاة نطق بحكمة: خذوها من قلب خَرِبٍ، وتبينت إشارة قوله صلى الله عليه وسلم: "الحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤْمِنِ" أي فحقه أن يتلقفها ممن وجدها عنده، وإن لم يكن مرضياً كما يأخذ ضالته من الدنيا كذلك، وتبينت صدق قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً"، وقول الحكماء الأولين: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: على قلوب اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب، والبيت المذكور هو قوله:
الله أنجح ما طلبـت بـه               والبر خير حقيبة الرحل
فالشطر الأول قد احتوى على الحقيقة كلها، وهي باطن الشريعة، فإن معناه أن ما طلبته بالله فأنت منجح فيه. وهو كما قال في "الحكم العطائية": "ما تعسر مطلب أنت طالبه بنفسك" ومعلوم أنك لست تروم ذلك إلاّ وأنت تعرف الله تعالى وأنه حق لا شريك له، وأنه هو الفاعل المدبر النافع الضار، ثم تنفي عن نفسك وعن حولها وقوتها وتدبيرها واختيارها وتبغي بربك. وهذا هو سر العبودية، وهو الكنز الذي يحوم حوله المريدون، ويعنو إليه السالكون، وهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنّةِ"، وهذا هو كلية الأمر، ولا حاجة إلى التطويل. والشطر الثاني قد تضمن الشريعة كلها، وهي ان البر خير ما تحمَّله العبد وادخره، أي والفجور شر ما تحمَّله، ويدخل في البرِّ برُّ العبد مع ربه بطاعته له قولاً وفعلاً واعتقاداً، وكذا مع من أوجب الله تعالى طاعته من نبي وأمير ومالك ووالد ونحوهم، وبره مع الناس بالإحسان فعلاً وقولاً وخلقاً، وهو مجموع ما يطلب شرعاً ولا حاجة إلى التطويل.
لله الأمر من قبل ومن بعد
أبيات الحكمة والتمثيل
واعلم أن البيت قد اشتمل على مثلثين مستقلين كما رأيت، فرأيت أن أستطرد هنا من أبيات الحكمة والتمثيل نبذة صالحة يقع بها الإمتاع، ويحصل الانتفاع، فمن ذلك قول لبيد:
ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطِلُ        وكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحـالَةَ زَائِلُ
واعلم أن هذا البيت مع كونه في غاية الحكمة وكونه قد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك كما ورد في الحديث: "أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشّاعِرُ قَوْلَ لَبِيدٍ: ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا.... البيت"، يسأل عنه فيقال مثلاً في المصراع الأول: إن معرفة الله تعالى وشرعه ودينه وأنبياءه ونحو ذلك داخل فيما جعله باطلاً وليس بباطل، وفي الثاني: إن نعيم الآخرة غير زائل فيلزم انتقاض الكليتين.
والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما أن المراد ما سوى الله تعالى وما انضاف إليه، كما وقع في الحديث: "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُون مَا فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمٌ أوْ مُتَعَلِّمٌ" وهذا واضح، فإن صفات الله تعالى لا تدخل في الباطل لانضيافها إلى الذات وشمول الاسم لها، فكذلك كل مُنضاف.
الثاني أن هذا كلام في الحقائق، ولا شك أن الله تعالى هو قديم واجب الوجود، فهو حق ثابت، والعالم كله محدث، فهو باطل لا ثبوت له من ذاته لكن بإثبات الله تعالى، وهذا الوجه أيضاً واضح لا شبهة فيه، والموجودات كلها متى اعتبرت إضافتها وتعلقها بالله تعالى كانت حقاً به، وهي باطلة بحسب ذاتها ومنها ما هو حق باعتبارين أعني بهذا التعلق وبإثبات الله له شرعاً كما في الوجه الأول، وهو مع ذلك باعتبار ذاته، ولا تنافي في شيء من ذلك، فافهم.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 46    كن أول من يقيّم

والجواب عن الثاني ثلاثة أوجه: الأول أن المراد نعيم الدنيا، لأنه هو المعروف الشاهد، لا سيما في حق هذا القائل، فإنه كان حين قوله ذلك جاهلياً، لا ذكر للآخرة عنده، فإن قيل: من لك بأنه إذ ذاك جاهليّ؟ ولعله قال هذا بعد الإسلام، قلت: قد استفاض في شأنه أنه لم يقل بعد الإسلام إلاّ بيتاً واحداً، وهو قوله:  
        الحمد لله إذ لم يأتنـي أجـلـي         حتى لبست من الإسلام سربالا
على أنه لو كان بعد الإسلام لكان إرادة الدنيوي في غاية الوضوح، إذ المراد تهوين أمر الدنيا والتنفير عنها والتزهيد فيها كما وقع ذلك في كلام كثير من أهل الإسلام. الثاني أن يكون أيضاً كلاماً في الحقائق، فإن النعيم كله ممكن حادث، فهو بصدد الزوال والفناء فعلاً أو قوة، وما بقي منه إنما بقي بإبقاء الله تعالى لا بذاته.
الثالث أن يراد أن كل نعيم ناله العبد وتنعم به فهو زائل عنه قطعاً بالشخص، وإنما تتجدد أمثاله، وهذا قدر مشترك بين الدنيوي والأخروي، قال النبي صلى الله عليه وسلم في متاع الدنيا: "وَإنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أوْ لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ، أوْ تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ". وقال تعالى في نعيم الآخرة: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ). وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جـوازيه             لا يذهب العُرْفُ بين الله والناس
وقول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً              ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وكان صلى الله عليه وسلم ينشده أحياناً استحساناً فيقول: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار، ويقول: "هُمَا سَوَاءٌ" أي التركيبان، يعني في المعنى، فيقول أبو بكر رضي الله عنه: أشهد أنك رسول الله، قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) وقول النابغة:
ولست بمستبـقٍ أخـاً لا تَـلُـمُّـهُ               على شعثٍ، أي الرجالِ المهذب ؟
وقول امرئ القيس:
وإنك لم يفخر عليكَ كفـاخـر          ضعيف ولم يغلبْك مثل مغلَّبِ
"وأخذه أبو تمام فقال:
وضعيفة فإذا أصابت قـدرة           قتلت، كذلك قدرة الضعفاء
البيت من قصيدته التي مطلعها:
قدك اتئب أربيت في الغلواء         كم تعذلون وأنتم سجرائي
والبيت شحره التبريزي بقوله: يقول: "الخمر على شدتها ضعيفة ليس لها بطش، فإذا أكثرت منها قتلت". وقوله: "كذلك قدرة الضعفاء يعني أن الضعيف يعمل الشيء بفرق فهو لا يبقي مخافة أن يعطف عليه فلا يكون له فضل في المقاومة".
وقول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه              يَفِرْهُ ومن لا يتق الشـتـم يشـتـم
وأخوات هذا البيت في ميميته مثله، وهي مشهورة لا نطيل بها.
غيره:
لذي الحلم قبْلَ ما تُقرَعُ العصا               وما عُلَّمَ الإنْسانُ إلاّ ليعلمـا
وقوله:
قليلُ المال تصلحهُ فيبقـى            ولا يبقى الكثير مع الفساد
غيره:
العبد يقرع بالعـصـا           والحرّ تكفيه الملامه
وقول عبد الله بن معاوية:
فعين الرضا عن كل عيب كلـيلةٌ             ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقول القُطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجتـه               وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقوله:
والناس من يلق خيراً قائلون لـه            ما يشتهي، ولأمِّ المخطئ الهَبَلُ
وسبقه إلى الأول عدي بن زيد في قوله:
قد يدرك المبطئ مـن حـظـه          والخير قد يسبق جهد الحريص

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 47    كن أول من يقيّم

وقول عمرو بن براقة:
فما هداك إلى أرضٍ كعالمها         ولا أعانك في عزم كعزام
وقول عبد الله بن همام:
وساع مع السلطان ليس بحارس            ومحترس من مثله وهو حارس
وقول عبيد بن الأبرص:
الخير يبقى وإن طال الزمان بـه             والشر أخبث ما أوعيت في زاد
وقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ربّ حلم أضاعه عدم المـا            ل وجهل غطى عليه النعيم
وزعموا أن حسان بينما هو في أُطُمِه، وذلك في الجاهلية، إذ قام في جوف الليل فصاح: يا للخزرج فجاءوا وقد فزعوا، فقالوا: ما لك يا ابن الفريعة فقال: بيت قلته فخفت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة، خذوه عني، فقالوا: وما قلت؟ فأنشد البيت المذكور.
وقول أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها           وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقول زهير:
وهل ينبت الخطِّيُّ إلاّ وشيجه                وتغرس إلاّ في منابتها النخل
غيره:
أرى كل عود نابتاً في أرومةٍ                أبى منبت العيدان أن يتغيّرا
وقول بشار:
تأتي المقيمَ وما سعى حـاجـاتُـه             عددَ الحصا ويخيب سعي الطالب
غيره:  
 متى ما تقد بالباطل الحقّ يَأبَـهُ             وإن قدت بالحقِّ الرواسي تنقد
وقول عبيد:
من يسأل الناس يحرموه             وسائل اللهِ لا يخـيب
غيره:
يفرّ جبان القوم عن أُمِّ نـفـسـهِ              ويحمي شجاع القومِ من لا يناسبه
"ويرزق معروف الجـواد عـدُّوه             ويُحرَمُ معروفَ البخيلِ أقاربُـه"
فهذا كله ونحوه مشتمل على مثلين كبيت امرئ القيس، وقد يكون مثلاً واحداً لقول طرفة:
رأيت القوافي يتَّلِجْنَ موالجـاً        تضايق عنها أن توالجها الإبر
"وهو معنى قول الأخطل: والقول ينفذُ ما لا تنفذ الإبر".
وقول علقمة:
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله            فليس له في ودهن نـصـيب
وهو لامرئ القيس في قوله:
أراهن لا يحببن من قل مـالـه                ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
ومنه قول الأعشى:
وأرى الغواني لا يواصلن امرءاً            فقد الشباب وقد يصلن الأمردا
وقول أبي تمام:
أشهى الرجال من النّساء مواقعاً            من كان أشبههم بهنّ خـدودا
وقول علقمة بن عبدة:
وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا              عديدهم بأثافي الدهر مرجوم
وكل حصن وإن طالت سلامته               على دعائمه لا بدّ مـهـدوم
وقول الآخر:
"وما رزق الإنسان مـثـل مـنـية             أراحت من الدنيا ولم تُخزِ في القبر"

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 48    كن أول من يقيّم

وقول ابن حازم:
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها          من الشباب بيوم واحد بدل
ومثله قول منصور النمري:
ما كنت أوفي شبابي حق غرته              حتى مضى فإذا الدنيا له تبـع
وقول امرئ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لـسـانـه            فليس شيء سواهُ بخزّان ونحـوه:
إذا ضاق صدر المرء عن كتم سره          فصدر الذي يُستودعُ السر أضـيق
وقوله:
إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّـه           يبثُّ وإفشاء الحديث قمين
وقد قيل: الاثنان هنا الشفتان، وقول طرفة:
وإن لسان المرء ما لم يكن له               حَصَاةٌ على عوراته لدلـيل
الحصاة: العقل وهو إشارة إلى قول الحكماء: لسان العاقل من وراء عقله، ولسان الأحمق على العكس، وقول الخنساء رحمها الله:
ولولا كثرة الباكين حولـي            على إخوانهم لقتلت نفسي
وقول الآخر:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد               إليه بوجه آخر الدهـر تُـقْـبِـل
وغيره:
وظلم ذوي القربى أشد مـضـاضة           على المرء من وقع الحسام المهند
غيره:
إذا لم تعرض عن الجهل والخنا             أصبت حليماً أو اصابك جاهل
غيره:
كل امرئ راجع يوماً لشيمته                وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
ونحوه:
ومن يبتدع ما ليس من سُوس نفسه        يدعْه ويغلبْه على النفس خِيمُهـا
السوس والخيم: الطبيعة.
ونحوه:
إنّ التخلّق يأتي دونه الخُلُقُ
وقد يكون المثل جزءاً لبيت كهذا، ونحوه للنابغة:
حلفت فلم أترك لنفسـك ريبة         وليس وراء الله للمرء مطلب
وقوله:
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
وقول دريد:
متبذلاً تبدو مـحـاسـنـه               يضع الهِناءَ مواضع النقبِ
وقول الصَّلَتان العَبْدي:
نروح ونغدو لـحـاجـاتـنـا             وحاجات من عاش لا تنقضي
وقول الآخر:
تدس إلى العطار سلـعة بـيتـهـا              وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وقول زهير:
لهم في الذاهبين أروم صدق         وكان لكل ذي حسب أروم
وقوله:
كذلك خيمهم ولكل قـوم              إذا مستهم الضراء خِيم
وقول الآخر:
تسائل عن حصين كلّ ركب          وعند جُهَيْنَةَ الخبرَ اليقين
وهذه الأنواع لا يأتي عليها الحصر، وإنما أردنا بعضاً من مختار ذلك ومشهوره، وما تركناه أكثر، وقد يشتمل البيت على ثلاثة أمثال أو أربعة، وهو قليل بالنسبة إلى غيره، فمن غير ذلك قول زهير:
وفي الحلم إذعان وفي العـفـو دُربة         وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق
غيره:
العلم يجلو العمى، والجهل مهلكة           واللاعب الرفل الأذيال مكذوب
وقول صالح:
كل آت لا بد آت وذو الجـه           ل معنى والهم والغم فضل
وقولي من قصيدة:
فلا تهتبل للحادثـات ولا تـثـق                بما وهبت يوماً فموهوبها معرى
 مقربها مقصى ومرفوعها لقىً             ومنهلها مظما ومكسوها معرى
وقولي فيها:
وإن أبصروا بالمملق اهـتـزأوا بـه          ومدوا إليه طرفهم نـظـراً شـزرا
وقالوا بغيض إن نـأى ومـتـى دنـا           يقولون ثقيل مبرم "أدبر الـفـقـرا"

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 49    كن أول من يقيّم

فإن غاب لم يفقد، وإن عـلّ لـم يعـد         وإن مات لم يشهد، وإن ضاف لم يقرا
وهذا الباب لا ينحصر، وقد أودعنا منه "كتاب الأمثال والحكم" قدراً صالحاً، ولنقتصر على هذا القدر هنا خوفاً من الملل.
لله الأمر من قبل ومن بعد
روايات المؤلف عن محمد الحاج الدلائي
حدثني الرئيس الأجلّ أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر الدلائي رحمه الله قال: لما نزلنا في طلعتنا إلى الحجاز بمصر المحروسة خرج للقائنا الفقيه النبيه أبو العباس أحمد بن محمد المقري قال: وكنت أعرفه عند والدي لم يشب، فوجدته قد شاب، فقلت له: شبت يا سيدي فاستضحك ثم قال:
شيبتني غرنـدل ويحـار               وبحار فيها اللبيب يحار
قال: وحدث أنهم كانوا ركبوا بحر سويس فهال بهم مدة من نحو ستة أشهر، وهم يدورون دوراناً، وأنه ألف في تلك المدة موضوعاً في علم الهيئة وسارت به البركان، فلما خرج من البحر وتصفحه وجد فيه الخطأ الفاحش، وقد فات تداركه، وذلك مما وقع له من الهول. قال: وإذا هو قد خرج معه برجل ضرير البصر فقال: هذا الضرير من أعاجيب الزمان في بديهة الشعرِ، فألقِ عليه أي بيت شئت يأت عليه ارتجالاً بما شئت من الشعر، ثم عهْدُه به أن يقوله فلا يبقى شيء منه في حفظه، فأتيتكم به لتشاهدوا من عجائب هذه البلاد ونوادرها وتذهبوا بخبر ذلك إلى بلادكم قال: فاقترحوا مني بيتاً يقول عليه، فحضر في لساني بيت ابن الفارض:
سائقَ الأظعان يطـوي الـبِـيدَ         مسرعاً عرِّج على كثبان طيْ
قال: فذكرته فاندفع على هذا الروي مع صعوبته حتى أتى بنحو مائة بيت ارتجالاً.
قلت وهذا غريب، فإن هذا القدر كله يعز وقوعه من العرب المطبوعين فكيف بالمولدين؟ فكيف بآخر الزمان الذي غلبت فيه العجمة على الألسن؟ ولكن رب الأولين والآخرين واحد، تبارك الله أحسن الخالقين! وحدثني أن الفقيه أبا العباس المذكور كان أيام مقامه بمصر قد اتخذ رجلاً عنده بنفقته وكسوته وما يحتاج على أن يكون كلما أصبح ذهب يقتري البلد أسواقاً ومساجد ورحاباً وأزقة، وكل ما رأى من أمر واقع أو سمع يُريحُه عليه بالليل فيقصه عليه.
قلت: وهذا اعتناء الأخبار والنوادر والتواريخ.
وقد كان نحو هذا لشيخ مشايخنا أبي عبد الله محمد العربي ابن أبي المحاسن يوسف الفاسي، فكان من دأبه أنه متى لقي إنساناً يسأله من أي بلد هو؟ فإذا أخبره قال: من عندكم من أهل العلم؟ من عندكم من أهل الصلاح؟ ومن الأعيان؟ فإذا أخبره بشيء من ذلك كله سجله، وهذا الاعتناء بالأخبار والوقائع والمساند ضعيف جداً في المغاربة، فغلب عليهم في باب العلم الاعتناء بالدراية دون الرواية، وفيما سوى ذلك لا همة لهم.
وكان أبو عبد الله المذكور يذكر في كتابه "مرآة المحاسن" أنه كم في المغرب من فاضل ضاع من قلة اعتنائهم، وهو كذلك.
وقد سألت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله ابن ناصر رحمه الله ورضي عنه يوماً عن السند في بعض ما كنت آخذه عنه فقال لي: إنا لم تكن لنا رواية في هذا، وما كنا نعتني بذلك. قال: وقد قضيت العجب من المشارقة واعتنائهم أمثال هذا حتى إني لما دخلت مصر كان كل من يأخذ عني عهد الشاذلية يكتب الورد والرواية والزمان والمكان الذي وقع فيه ذلك.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
 51  52  53  54  55