البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات ياسين الشيخ سليمان أبو أحمد

 51  52  53  54  55 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
تعليق محمد عمارة على المقالة السابقة    كن أول من يقيّم

 القسم الأول
 
  ألف باء الحوار: تحرير مضامين المصطلحات
 
هل هي مشكلة مفاهيم أم منهج؟ أم أنها تفسير لمعنى المضامين؟.
يثير الكاتب الكثير من التساؤلات حول دقة دعوة الدكتور نصر حامد
أبوزيد لتحديد المبادئ الثلاثة لتكون مقاصد للشريعة، ويفند بعض
الأطروحات ويفتح الباب للنقاش.
 
         عن "المقاصد الكلية للشريعة: قراءة جديدة" نشرت العربي - عدد مايو الماضي - مقالا للدكتور نصر حامد أبو زيد، جديرا بأن يدور حوله حوار موضوعي وهادئ وجاد.
         وفي المقال: "اقتراح مشروع قراءة جديدة للمقاصد الكلية للشريعة"، ذلك أن قراءات القدماء من علماء أصول الفقه قد حددت للشريعة الإسلامية مقاصد خمسة، هي: الحفاظ على النفس، والدين، والعقل، والعرض، والمال.. وما يقترحه الدكتور نصر - بعد قراءته الجديدة للنصوص الدينية- ليس إضافة مقاصد ومبادئ كلية جديدة إلى هذه المقاصد الخمسة - من مثل ما صنعه الشيخ الطاهر بن عاشور، عندما أضاف إليها "مقصد: الحرية" - وإنما هو يقترح إحلال مبادئ كلية ثلاثة - هي: العقل، والحرية، والعدل - باعتبارها   " تمثل منظومة من المفاهيم المتماسكة المترابطة من جهة، وهي تستوعب المقاصد الخمسة التي استنبطها علماء أصول الفقه من جهة أخرى"..لأن هذه المقاصد الخمسة التي حددها الأصوليون- بنظر الدكتور نصر- ليست "مبادئ كلية"، بل هي جزئية، وبعبارته: "فإن الحفاظ على النفس والعقل والدين والعرض والمال تبدو مبادئ جزئية بالنسبة للمبادئ الثلاثة الكلية المقترحة، ويمكن بالتالي أن تندرج فيها".تلك هي مقاصد المقال، بنص كلمات الدكتور نصر.
 
        وإذا كانت أهمية القضية ومحورية موضوع المقال بين موضوعات الفكر الإسلامي، تستدعي إدارة حوار عقلاني مستنير حول قضاياه، فإنني أفضل - لمنهجة الحوار - صياغة أفكاري حوله في عدد من الملاحظات: الأولى: تتعلق بما يثيره هذا المقال - وكتابات كثيرة في حياتنا الفكرية المعاصرة - من حقيقة أننا نعاني من "فوضى في مضامين المصطلحات"، أحدثتها حقبة الاحتكاك بالحضارة الغربية.. في المصطلح - الوعاء - الواحد - وأثناء الحوار بين أهل "الموروث" وأهل "الوافد" - نجد أنفسنا أمام مفاهيم مختلفة، وأحيانا متناقضة، تساق وتقدم في المصطلح - الوعاء - الواحد، الأمر الذي يجعل كثيرا من حواراتنا "حوارات طرشان!".
 
        وعلى سبيل المثال:
 
        1 - يقترح الدكتور نصر مبدأ "العقلانية" ليكون واحدا من المبادئ الكلية الثلاثة لمقاصد الشريعة.. وليس هناك عاقل يعي إسلامه يختلف على ضرورة العقل والعقلانية. والقدماء - الذين ينتقدهم الدكتور نصر- قد جعلوا "الحفاظ على العقل " من الضرورات والمبادئ والمقاصد الكلية للشريعة، قبل أكثر من ألف عام.
 
        لكن.. أي عقل؟.. وأي عقلانية؟.. تلك هي القضية التي تحتاج- كي نتبين مواقعنا وانتماءاتنا - إلى تحرير مضامين ومفاهيم المصطلحات.
 
        هل هو العقل: العضو المادي، الذي تفرز حركته "الفكر"- كما رأى ويرى الماديون، وبعض الوضعيين؟ - هل هو "الجوهر المجرد"، كما قال كثير من الفلاسفة القدماء؟، أم هو الغريزة والملكة واللطيفة الربانية، المتعلقة بالقلب والجوهر واللب الإنساني؟.
 
         فعلى تحديد المراد من "العقل" يتحدد المراد من "العقلانية".. إذ هناك عقلانية التنوير الغربي وشعارها: "لا سلطان على العقل إلا للعقل"، وهي بذلك تنفي وتنكر - بل وتستنكر - سلطان "الوعي" على عقلانية الإنسان، وترى في "العقل" و"التجربة" سبيلي المعرفة المؤتمنين على تحصيل المعارف التي تستحق الاحترام!.
 
        بينما هناك "العقلانية المؤمنة"، التي تبلورت في علم التوحيد - الكلام - الإسلامي، لتقرير الدين، وليس لنقضه، وهي التي تقرأ "النقل" بـ "العقل"، وتحكم "العقل" بـ "النقل"، إيمانا منها بأن العقل هو ملكة إنسان محدود الإدراك.
 
        وهذه "العقلانية المؤمنة" - بعد إضافتها "الوحي" إلى "الكون" في مصادر المعرفة، تجعل سبل المعرفة أربع هدايات، هي: العقل، والنقل، والتجربة الحسية، والوجدان. فلا تقف بسبل المعرفة، فقط، عند العقل، والتجربة- كما صنعت عقلانية التنوير الغربي- الوضعية والمادية.
 
        فعن أي عقل، وعن أية عقلانية يجري الحديث؟ عقلانية استبعاد "الشرع"، و: "لا سلطان على العقل إلا للعقل"؟ أم عقلانية المؤاخاة بين الشريعة والحكمة- بتعبير ابن رشد- تلك التي بلغ الغزالي القمة عندما ميزها وحددها، فقال: "إن أهل السنة قد تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وعرفوا أن من ظن وجوب الجمود على التقليد، واتباع الظواهر، ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر، فميل أولئك إلى التفريط وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط.
 
        فعن أي عقل.. وعن أية عقلانية نتحدث؟.. إن المطلوب أولا هو تحرير مضمون المصطلح حتى نعلم أن هذه العقلانية هي من مقاصد الفلسفات التي قامت على أنقاض الشرائع؟.. أم هي من المقاصد والمبادئ الكلية للشريعة الإسلامية؟!.
 
        2 - ومثل ذلك حديث الدكتور نصر عن "الحرية" - باعتبارها المبدأ الكلي الثاني في مقاصد الشريعة - فليس هناك خلاف على "المبدأ" - بل كما سبقت الإشارة، فلقد أضاف الشيخ الطاهر بن عاشور إلى المقاصد الخمسة "مقصد الحرية" -.. لكن تظل الحاجة قائمة وماسة لتحرير مرادنا بمضمون ومفهوم "الحرية".
 
        وإذا كانت الحرية هي نقيض "العبودية"، فلا بد من تحديد: حرية من؟.. وفي مواجهة العبودية لمن؟.. فالمؤمن يرى في ذل العبودية لله قمة الحرية، وهذه الحرية هي عكس ما يراه الماديون والوضعيون؟! والإنسانية المؤمنة لا ترى في حقوق الله في "العفة" قيودا تنتقص من حريتها، بينما غير المؤمنة ترى في "العفة" استعبادا، فترفع شعار الحرية الجنسية، قائلة - كما في بعض المجتمعات المعاصرة: "هذا جسدي.. أنا حرة فيه!".
 
        وبينما يرى المؤمن في الشهوات والغرائز المحرمة قيودا على الحرية واستعبادا لعقله وروحه، يرى فيها غير المؤمن تحقيقا لألوان من الحريات الإنسانية، يقيم في سبيل الحصول عليها الأحزاب، ويفجر من أجلها الثورات؟!.
 
        فالقضية ليست الاتفاق على تبني مصطلح "الحرية" ورفض مصطلح "العبودية"، وإنما هي- كما رأينا- قضية تحرير وتحديد مضامين المصطلحات، وذلك حتى لا نعيش في وهم "الأمة الواحدة" ذات "الثقافة الواحدة"، بينما نحن- في الحقيقة- "أمتان" و"ثقافتان"!.
 
        والملاحظة الثانية: هي على قول الدكتور نصر: إن "العقل هو مركز المشروع الإسلامي"، والحق أن "العقل" - في المشروع الإسلامي- هو واحد من الهدايات الأربع، التي تمثل سبل المعرفة في الإسلام: العقل، والنقل،  والتجربة، والوجدان، وهذا هو الذي يجعله عقلا مؤمنا، لأنه غير منفرد بتحصيل المعرفة، وإنما هو جزء من كل تتكون منه سبل المعرفة، في نظرية المعرفة الإسلامية.
 
        أما مركز المشروع الإسلامي، فهو:
 
        1 - التوحيد للذات الإلهية.. في الذات، والصفات، والخلق، والأفعال، والتدبير، والرعاية والعناية.
 
        2 - والاستخلاف الإلهي للإنسان في استعمار الأرض.
 
         فهذا هو التصور الإسلامي الجامع لفلسفة "المشروع الإسلامي" في العلاقة بين الله والعالم والإنسان، إله واحد، وعالم مخلوق لله، تحكمه وتسيره أسباب، هي الأخرى مخلوقة لمسبب الأسباب، وإنسان خليفة لله، قد سخرت له ظواهر العالم والطبيعة لتعينه على أداء أمانة الاستخلاف في عمران الأرض، وفق بنود عقد وعهد الاستخلاف، الأمر الذي يعطي كل مفاهيم المصطلحات- ومنها العقلانية، والحرية، والعدالة- خصوصيات إسلامية تميزها عن نظائرها في الفلسفات والأنساق الفكرية الأخرى.
 
القسم الثاني يتبع

23 - يوليو - 2010
ساعة الفجر الحزينة
القسم الثاني    كن أول من يقيّم

        هذا "مركز المشروع الإسلامي"، وجماع التصور الإسلامي، والعقل فيه واحد من الهدايات، وليس هو مركز المشروع!.
 
        أقول هذا، وأنا من أكثر الذين خدموا فكر العقلانية الإسلامية - التراثي منه والمعاصر -.. حتى لقد صرت "متهما" من "النصوصيين - المقلدين" ومن "الظاهرية الجديدة" بآني "رائد التيار العقلاني" - وهو شرف لا أدعيه، و"اتهام" لا أنفيه -؟! لكن الحق أحق بأن يقال، وأجدر بالاتباع!.
 
        والملاحظة الثالثة: هي على قول الدكتور نصر: "إن سنن التاريخ، هي السنن التي تمثل القوانين الكلية التي عبر عنها القرآن الكريم بـ "سنة الله" التي لن تجد لها تبديلا".
 
        وأنا أتساءل: عندما يسمي القرآن الكريم السنن والقوانين بـ "سنن الله"، فلماذا نقول عنها: إنها "سنن التاريخ"؟!.
 
        إنها، في القرآن، مضافة إلى "فاعلها"-  سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا  ،  سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون  ،  فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا  - فلماذا نضيفها إلى "التاريخ"؟، وهل فاعلها هو "التاريخ"، وليس "الله"؟!.
 
        إن التاريخ هو "ظرفها ومحلها وسياقها"، وليس هو الفاعل لهذه السنن والقوانين.
 
        وتلك مشكلة في "التعبير" - الذي قد لا يكون مقصودا - تثير قضية تسرب المفاهيم المادية والوضعية إلى "ثقافتنا المؤمنة"، وذلك من مثل مقولات: "المادة لا تفنى، ولا تستحدث"!.. و"المصريون القدماء أبدعوا التوحيد قبل الديانات"!- مع أن الإيمان يعلمنا أن الإنسانية قد بدأت بالنبوة والتوحيد.
 
        إن الإنسان، في الرؤية الإسلامية، يصنع التاريخ، وفق سنن الله، ولو كانت السنن، التي لا تبديل لها، هي سنن التاريخ، لما كان بمقدور الإنسان صنع هذا التاريخ، لأنه سيكون عبدا لسنن التاريخ، التي لا يستطيع لها تبديلا ولا تحويلا.
 
        والملاحظة الرابعة: هي على قول الدكتور نصر: "إنه لا خوف على عقائدنا وديننا من منهجيات العلوم الإنسانية المتطورة، وإنما الخوف من الجمود والتقليد اللذين يمثلان حصون الدفاع في المؤسسات التقليدية".
 
        والرأي عندي - وأنا الذي قدمت عشرات الكتب في نقد الجمود والتقليد، والدعوة إلى الإحياء والتجديد - أن الخوف يجب أن يكون من شقي التقليد ولونيه ومصدريه:
 
        أ - التقليد لتجارب سلفنا ومناهج قدمائنا، والجمود عليها، والوقوف عندها وحدها.
 
        ب - والتقليد لتجارب الآخر الحضاري، ومناهج العلوم الإنسانية والتصورات الفلسفية، عند هذا الآخر، والجمود عليها، والوقوف عندها.
 
        ونقطة البدء التي لا بد من الاتفاق عليها، أو جلاء الاختلاف فيها مع الحوار حولها هي:
 
        1 - أننا أبناء حضارة متميزة- مع تحديد نطاق التميز، وسماته ومعالمه- أي نطاق ومعالم "الثوابت الحضارية الإسلامية"، الممثلة "للهوية"، التي تحفظ على الحضارة وحدتها وتواصل إسلاميتها عبر الزمان والمكان.
 
        2 - وأن هذا التمييز الحضاري، هو معيار القبول والرفض من موروثنا الفكري، ومن المواريث الفكرية للحضارات الأخرى.
 
        3 - وأن "التجديد" سنة وقانون أبدي- "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها". أن "الاجتهاد" فريضة أبدية، وهما - التجديد والاجتهاد - السبيل لتطوير النسق الفكري الإسلامي المتميز، من داخله، وأن هذا اللون من التجديد- التطور من داخل النسق- مخالف ومختلف عن الجمود على موروثنا والتقليد لسلفنا، ومخالف ومختلف عن "الحداثة"، التي تنكر "الثوابت"، والتي تقيم "قطيعة معرفية" مع الأصول والمنابع والمبادئ والجذور.
 
        أي أن ما نسميه "المعاصرة"، ليس هو "الحداثة الغربية"، والتي إذا استعرناها وأضفناها إلى "أصالتنا"، كنا قد جمعنا الحسنيين، وأمسكنا بطرفي المجد، وبلغنا غاية المراد من رب العباد، وإنما "المعاصرة" هي "تفاعل مع عصرنا نحن"، وإذا كانت لنا "أصالة متميزة" - وهي كذلك - فإن "معاصرتنا" - أي تفاعلنا مع عصرنا- لا بد أن تكون متميزة كذلك.
 
        ويزيد من أهمية هذه الملاحظة، ما حدده الدكتور نصر لأمتنا من مهام، أوجزها في عبارة "اللحاق بركب التقدم والمدنية".. وهو قول يثير تساؤلنا:
 
        - هل مهمتنا - حقا - هي "اللحاق بالركب "؟!..
 
        - أم أنها هي النهوض "لقيادة ركب متميز حضاريا؟".
 
        إن اللحاق بالركب هو أمنية المهزوم نفسيا - اللحاق بركب المنتصر - أما نحن، فإننا نجادل ونماري في أن "الآخر" - المنتصر ماديا - هو "المتقدم"، بالمعنى الحقيقي والمتكامل والمتوازن "للتقدم".
 
        فللتقدم مفاهيم متعددة، وللحضارات فيه مذاهب شتى، ومذهب الإسلام في التقدم، متميز عن "المذهب الباطني"- الذي يسعى إلى "فناء الخلق في الحق"- وعن "المذهب المادي والوضعي"- الذي "يضع الخلق على عرش الحق"- ومن ثم فإن مهمة المشروع الإسلامي ليست "اللحاق بالركب"، وإنما النهوض لقيادة ركب حضاري متميز، يجسد نموذجا حضاريا متميزا- يكون فيه الخلق خلفاء للحق.
 
        وإذا كانت مأساتنا هي الفقر في "الإبداع"، والإفراط في "التقليد"، فإن "الإبداع" سيظل غائبا من حياتنا ما لم نتفق على أننا أصحاب نموذج حضاري متميز، وإلا فما الحاجة للاختراع والإبداع إذا كانت "البضاعة- النموذج" جاهزة، ومعلبة، ومعروضة من قبل الآخرين؟!.
 
        والملاحظة الخامسة: - والأخيرة - هي حول دعوى الدكتور نصر حامد أبوزيد أن المبادئ الثلاثة- التي يقترحها لتكون مقاصد للشريعة - وهي: العقلانية.. والحرية.. والعدالة - هي - برأيه - "المبادئ الكلية".. بينما المبادئ الخمسة - التي حددها القدماء مقاصد للشريعة - والتي بلغت ستة عند الطاهر بن عاشور، وهي: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال، والحرية - هي - برأي الدكتور نصر - "مبادئ جزئية" - وليست "كلية" - وأنها يمكن أن تندرج تحت مبادئ الدكتور نصر.
 
        والسؤال هو: هل هذا صحيح؟ أم أن العكس هو الصحيح؟!.
 
        إننا إذا تأملنا المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، كما استنبطها وحددها الأصوليون - وإذا أعطاها عقلنا المعاصر أبعادها الحقيقية- وهي أبعاد مفتوحة الأبواب والميادين أمام الاجتهاد الإسلامي - فسنجد أنفسنا أمام منظومة جامعة لأركان ومقومات وضرورات "الاجتماع الإنساني"، تلك التي بدونها لا يستقيم "العمران البشري" على صراط الفطرة الإنسانية السوية.
 
        * فالحفاظ على "النفس"، هو التعبير عن "الإنسان": حامل أمانة إقامة العمران، ومكانته السامية في العمران الإنساني.
 
        * والحفاظ على "العقل"، هو التعبير عن جوهر إنسانية الإنسان، الذي تميز به عن سواه من المخلوقات، عندما انفرد "بالتكليف الاختياري"، الذي تأسست عليه "المسئولية، والحساب، والجزاء".
 
        * والحفاظ على "الحرية" - وهو المقصد الذي أضافه الشيخ طاهر بن عاشور - هو المعبر عن الأمانة التي حملها الإنسان في الاستخلاف، بعدما أبت المخلوقات الأخرى حملها، وفي نطاقها وحدودها تتمثل المذهبية الإسلامية التي حددتها نظرية الخلافة والاستخلاف.
 
        * والحفاظ على "العرض والنسب " هو التعبير عن قوام وأساس بناء "الأسرة" أولى لبنات الاجتماع في كيان الشعب والأمة.
 
        * والحفاظ على "المال" هو التعبير عن قوام الرخاء الإنساني، والعدالة الاجتماعية، وزينة الحياة الدنيا بعمران الواقع المادي لهذه الحياة.
 
        * والحفاظ على "الدين" هو التعبير عن ضبط كل مقومات العمران الإنساني بالضوابط الإلهية، التي تحفظ لهذا العمران - مع التطور والارتقاء - الروح الإلهية والصبغة الدينية التي تضمن "التواصل.. والوحدة" في "الهوية"، رغم "متغيرات الزمان والمكان"، وذلك على النحو الذي يجعل هذا العمران الإنساني: عمران "الإنسان: الخليفة لله"، وليس عمران "الإنسان المتمرد على مولاه"!..
 
        .. تلك هي مكانة مقاصد الشريعة من قضية "العمران البشري".. وهي مكانة: المبادئ الكلية الحاكمة، والمقومات.. والضرورات.
 
        وإذا كان التأمل - ببادي الرأي - ومن الكافة، فضلا عن أهل الاختصاص - يقول إن المبادئ الثلاثة، التي يقترحها الدكتور، نصر، هي موجودة بالفعل في الكليات الست التي حددها الأصوليون، فمن الذي يستوعب من؟! وأين الجديد، الذي أثمرته القراءة الجديدة للنصوص الدينية.
 
        إن "العقلانية" - التي يقترحها الدكتور نصر - هي منهاج في النظر، مكانها الطبيعي في المبدأ الكلي - مقصد: "الحفاظ على العقل" - وكذلك "العدالة" - كمنهاج في حل المشكلة الاجتماعية - مندرجة في المبدأ الكلي - نقصد: "الحفاظ على المال" - و"الحرية": مقصد قائم بذاته - أضافه الشيخ الطاهر بن عاشور -.. فليس هناك - كما رأينا - "جديد" تضيفه القراءة "الجديدة" للدكتور نصر في هذا المجال، اللهم إلا إذا كان الجديد هو الحذف والاستبعاد، وليس الإضافة والاستيعاب!.
 
         وإذا كان من غير المتصور أن يدعو الدكتور نصر إلى الحذف والاستبعاد لمبدأ "الحفاظ على النفس" - أي الإنسان والحياة - فإن النتيجة الوحيدة لهذه القراءة "الجديدة" والمقترحات "الجديدة" ستكون استبعاد مبدأي "الحفاظ على العرض" و"الحفاظ على الدين" من مقاصد الشريعة الإسلامية؟!.. وهي نتيجة أستبعد أن يسعى إلى تقريرها وتحقيقها الدكتور نصر حامد أبو زيد، بل وأعيذه من أن تكون هذه هي المقاصد الكلية لقراءته الجديدة للنصوص الدينية؟!.
 
        ثم.. من الذي يقول إن مبدأ "الحفاظ على الدين" هو "مبدأ جزئي"، وليس من "المبادئ الكلية"؟!.. فأين تكون "الكلية" إذا لم تكن في "الإطلاق.. والخلود.. والشمول" الذي يختص به الدين.. والدين الإسلامي على وجه الخصوص؟!.
 
        إن أغلب حواراتنا هي "ضحايا" بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات. وعلينا - كي يفهم كل منا الآخر، ولتحديد مناطق الاتفاق، ومناطق الاختلاف، ولتنظيم حوار موضوعي وجاد وبناء- أن بدأ بتحرير وتحديد مضامين ومفاهيم المصطلحات. والله أعلم.
 
  محمد عمارة 
  

23 - يوليو - 2010
ساعة الفجر الحزينة
رد أبو زيد على محمد عمارة    كن أول من يقيّم

نحو حوار عقلاني متكافيء: نعم لتحرير مضامين المصطلحات
 
سعدت أيما سعادة بالحوار الذي بدأه الدكتور محمد عمارة حول بعض المفاهيم والمصطلحات الأساسية التي استخدمتها في مقالتي عن "المقاصد الكلية للشريعة"، وقبل أن أدخل في حوار معه حول "تحرير مضامين المصطلحات "، أحب أن أبرز نقطة الاختلاف الأساسية التي أخشى أن تجعل من الحوار "حوار طرشان" حسب تعبيره.
 
         نقطة الاختلاف الأساسية تكمن في حقيقة هذه "الازدواجية/ الثنائية" التي يفترض البعض وجودها بين تيارين فكريين يمثلان قطبي النهضة في تاريخ هذه الأمة قديما وحديثا، وانطلاقا من تصور وجود هذه الازدواجية الثنائية يحدث هذا الفصل/ الفجوة فى تصور خطاب كل تيار لخطاب التيار الآخر، إذ يتصور أصحاب "الحل الإسلامي " أن الخطاب الآخر يستبعد "الإسلام " بالضرورة استبعادا كليا من مفهوماته ومن مضامين مصطلحاته، ومن هنا منبع القول بأن هذا الخطاب الآخر "وافد" تماما، هكذا يقسم الدكتور عمارة الخطابات إلى خطاب "أهل الموروث " وخطاب "أهل الوافد"، مع أن هذه القسمة ليست صحيحة على الأقل فيما يتصل بخطاب الدكتور عمارة ولا فيما يتصل بخطابي كما ظهر في المقالة التي يناقشها.
 
         لا أريد أن أطيل في مناقشة نقطة الاختلاف الأساسي تلك، ويكفي أن أشير إلى أنها هي المسئولة عن حالة "التوجس" وتوقع "سوء القصد" إذا تصدى للكتابة عن الإسلام والتراث الإسلامي باحث لا ينتمي بدرجة أو بأخرى إلى تيار " الحل الإسلامي ". كلنا نعيش واقعا تداخلت فيه على المستوى الثقافي والفكري عناصر الوافد والموروث وتفاعلت، بحيث يصبح الكلام عن "أهل الوافد"، و"أهل الموروث " هكذا على الإطلاق مسألة في حاجة إلى مراجعة، والدكتور عمارة نفسه يشكو من أنه صار "متهما" من "النصوصيين" المقلدين ومن "الظاهرية الجديدة" بأنه رائد الاتجاه العقلاني، وفي تقديري أن جزءا من هذا الاتهام نابع من أرضية هذه "الفجوة" التي يحرص البعض على تأكيد وجودها بين "الوافد" و"الموروث"، ويعلم الدكتور عمارة أن بعض الكتابات تعتمد على تصور وجود هذه الفجوة لكي تنفى "الفلسفة الإسلامية" قاطبة من تاريخ "الفكر الإسلامي"، وذلك على أساس أنها فكر تسربت إليه عناصر "وافدة" من التراث السابق على الإسلام، ولا أظن الدكتور عمارة يوافق على هذا الرأي، أو يحبذ مثل هذه الكتابات.
 
         لو أمكننا حسم هذه القضية لأزلنا حالة "التوجس" ودخلنا في حوار حقيقي عقلاني، على أرض الندية والتكافؤ المغايرة لأرضية " الاستبعاد" الحالية على أساس "وافد" و"موروث".
 
         عن المقاصد الكلية الثلاث "العقل- الحرية- العدل" التي اقترحتها في مقالتي يتساءل الدكتور عمارة عن "المضامين" المختبئة داخل كل مصطلح من هذه المصطلحات، والتساؤلات تنبع جميعا من "التوجس" وتصور "سوء القصد" النابعين من تلك الفجوة التي أشرت إليها في تصور الدكتور عمارة للوافد والموروث.
 
         يتساءل الدكتور عمارة عن أى عقل وعن أي عقلانية نتحدث: عقلانية التنوير الغربي أم العقلانية المؤمنة؟! مع أن المقال شرح مفهوم "العقل " و"العقلانية" على أساس أن المقصود بهما " الحلم " الذي يمثل نقيضا للجهل المتمثل في السلوك الجاهلي والقيم الجاهلية التي جاء المشروع الإسلامي مناقضا لها، وهو مفهوم يبدأ من "ضبط " السلوك وفق قوانين "التعقل " و"التسامح "، لا وفق قوانين "العصبية"، لكن تساؤل الدكتور عمارة يتيح لنا الفرصة لمزيد من الشرح والتوضيح لأنه أثار مسالة القيمة المعرفية للعقل. يرى الدكتور عمارة أن "العقلانية المؤمنة" تجعل سبل المعرفة أربع هدايات، هي "العقل، والنقل، والتجربة الحسية، والوجدان " "فلا تقف فقط عند العقل والتجربة كما صنعت عقلانية التنوير الغربي: الوضعية والمادية"، وهو بذلك يجعل "العقل " إحدى وسائل المعرفة، بل ويبالغ إلى حد جعل "النقل " هو الذي يحكم "العقل " بعد أن يكون "النقل " مقروءا به. ومن الواضح فعلا أننا مع الدكتور عمارة إزاء مفهوم للعقل لا يكاد يتجاوز دلالته اللغوية قبل الإسلام، حيث هو "الإمساك " بالمعرفة والقبض عليها، كما يمسك "عقال " الدابة بها في مربطها فلا تنفلت وتكون سائبة، هذا المفهوم النابع من الدلالة اللغوية طوره علماء الكلام فميزوا بين "العقل الضروري " و"العقل النظري " على أساس أن الأول يمثل البديهيات المشتركة بين الناس جميعا، في حين أن الثاني هو النظر في الأدلة للوصول إلى المعرفة انتقالا من المعلوم إلى المجهول، وهذه الأدلة هي "المحسوسات والتجارب والنقل"، التي يجب أن تمر جميعها من خلال "العقل" لكي تتحول إلى معرفة. إن الأدلة وحدها لا تمثل معرفة دون عمليات التحليل والتصنيف والتجريد، التي يقوم بها العقل المفكر، العقل إذن ليس "العضو المادي " وليس " الجوهر المجرد" وليس " الغريزة والملكة اللطيفة "، بل هو "الفعالية" الذهنية التي تحول الأدلة- حسية كانت أم نقلية أم تجارب وجدانية- إلى معرفة تعمق بدورها هذه الفعالية وتمنحها مزيدا من الصقل والصفاء والحدة.
 
         والنص الطويل الذي اقتبسه الدكتور عمارة من "الاقتصاد في الاعتقاد" لأبى حامد الغزالي لا تتضح دلالته إلا في سياق فكر الغزالي الأشعري المختلط بأبعاد إشراقية غنوصية " وافدة "، وكان الأولى بالدكتور عمارة أن يستشهد بمفهوم "المعتزلة"- والقاضى عبدالجبار بصفة خاصة- للعقل، وهو المفهوم الذي يمثل الأساس الكلامي لعقلانية ابن رشد التي يفتخر بها الدكتور عمارة ونحن معه تماما. إن مفهوم الغزالي للعقل يسجنه داخل حدود إجرائية هي إثبات صحة "النقل "، وبعدها (كما يقول في المستصفى من علم الأصول، الجزء الأول، ص 6) "ينتهي تصرف العقل، بل العقل يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله فى الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضا باستحالته، ولا أظن أن أحدا يجادل بأن عملية "فهم " النقل وتحليل مضمونه عملية لا تتم خارج فعالية العقل، إلا إذا زعم زاعم أن عمليات "التفسير" و"التأويل " نشاط لغوي لا علاقة له بفعالية العقل، وذلك زعم لا يتقبله عاقل فضلا عن باحث. وكما فعل الدكتور عمارة مع مصطلح "العقل " يفعل مع مصطلح "الحرية"، أي يناقشه من منطلق "التوجس " وتصور "سوء القصد"، فيتساءل: حرية من؟ وفي مواجهة العبودية لمن؟ ويدخل في مقارنات واستطرادات تقرن الحرية ب "الإباحية" و"الفوضى"، إن مفهوم "الحرية" في المشروع الإسلامي يبدأ من مناهضة مستوى عبودية الإنسان للإنسان على مستوى الامتلاك المادي ويعلو إلى آفاق تحرير الإنسان من وصاية أية قوة إلا أن يختار راضيا بملء إرادته الحرة دينه وعقيدته ونهج حياته.. الإسلام هو الدين الوحيد الذي أطلق للإنسان حرية اختياره ولم يجعل وصاية لأحد على تلك الحرية، وهذا المفهوم الساطع في المشروع الإسلامي لا يستبعد- بداهة- كثيرا من "الضوابط " التي تنظم هذه الحرية حتى لا تتحول إلى فوضى، مسألة "الضوابط " هذه مسألة بديهية، سواء كانت اجتماعية أو فكرية أو سياسية أو دينية، لكن "الضوابط " تلك ليست أزلية وليست بمنأى عن التطور من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى مجتمع والتمييز بين "الثابت " و"المتغير" في القيم والحريات، فضلا عن المفاهيم وأنماط السلوك هو دائما محور "الاختلاف" بل و"الصراع" الذي يفجر الثورات ويحرك التاريخ. وهنا نأتي إلى المماحكة اللغوية التي أحدثها الدكتور عمارة بين قولنا: "سنن التاريخ" ورفضه لهذا التعبير مفضلا عليه "سنن الله" ولا يسعني هنا إلا أن أذكر الدكتور عمارة بمفهوم "الدهر" في التراث الإسلامي الذي يرى أنه لا يجوز للمسلم أن يسب الدهر لأن الدهر هو الله، فالقول بوجود قوانين وسنن تاريخية لا يعني إنكار الوجود الإلهي، نعوذ بالله من الخسران. هذا الخلاف اللغوي على أية حال يجسد مسألة "التوجس" وتصور "سوء القصد"، حتى على مستوى اللغة، وهو من ناحية أخرى يكشف أن كثيرا من أوجه الاختلاف ترجع إلى تمسك البعض بمخاصمة اللغة الفلسفية والعلمية لتوهم أنها لغة تتعارض مع اللغة الدينية أو تحاول أن تنفيها، والدكتور عمارة خير من يعلم أنه لا مشاحة في الاصطلاح أو العبارة إذا اتفقت المعاني والدلالات.  ولكن من المماحكات اللغوية أيضا اعتراض الدكتور عمارة على عبارة "اللحاق بركب الحضارة" لأنه فهم منها "الالتحاق بالمشروع الغربي"، والاندماج فيه، مع أن الدكتور عمارة يعرف الفارق بين مفهوم "الحضارة" ومفهوم "الثقافة"، كما يعرف أن عبارة "الحضارة الغربية" تعكس مفهوما أيديولوجيا يرسخ المركزية الأوربية. والحقيقة أن "الحضارة" سياق إنساني متحرك ساهمت فيه كل المجموعات البشرية، وكل "الثقافات" بها هو جوهري وأصيل وإنساني فيها، والتمايز والخصوصية إنما تكون في "الثقافة" وليس في "الحضارة" خاصة مع تطور وسائل الاتصال وثورة المعلومات التي جعلت العالم "قرية صغيرة" بالفعل وليس على سبيل المجاز، ويعتمد الدكتور عمارة في تأويله لعبارة " اللحاق بركب الحضارة" على التحليل النفسي "الوافد والغربي " قائلا إنها عبارة تمثل "أمنية المهزوم نفسيا"، وأنا أوافق الدكتور عمارة على حالة الهزيمة الملموسة على جميع المستويات والأصعدة في وضعيتنا الراهنة كأمة وثقافة، وهي حالة لا تمكننا من المساهمة في إنتاج الحضارة والمشاركة في صنعها، وتجعلنا نكتفي بموقف المستهلك والتابع، إنها ليست حالة "نفسية" فردية، ولكنها وضع نتفق عليه جميعا، وتجاهله أو التهوين من شأنه يدخل الفكر في دائرة "أحلام اليقظة"، والأماني والرغائب التي مهما تكن عذوبتها تساهم في تكريس الأزمة وتأبيدها. وقبل أن أبين مفهوم الدكتور عمارة لمبدأ "العدل "- ثالث المبادئ الكلية التي اقترحتها- أتوقف عند اختلافنا حول "مركز" المشروع الإسلامي الذي وضعته في "العقل" بالمعنى المشروع، هنا وفي المقال السابق، بينما يحدده الدكتور عمارة في "التوحيد" بمعناه الشامل، وفي "الاستخلاف ". وفي تقديري أن التوحيد والاستخلاف لا يمثلان "مركز" المشروع الإسلامي، وذلك لسبب بسيط هو أنهما جوهر الرسالات السماوية كلها.
 
         لم يتوقف الدكتور عمارة طويلا عند مصطلح "العدل" محررا لمضمونه كما توقف عند "العقل " و"الحرية" لكن وضعه لمفهوم "العدل " داخل مبدأ "الحفاظ على المال "- الذي اعتبره هو التعبير عن قوام الرخاء الإنساني والعدالة الاجتماعية- يجعلنا نستنبط أنه يقصر مفهوم "العدل " على دلالته الاقتصادية.  وإذا كان هذا المفهوم الجزئي للعدل صحيحا- وهو ليس كذلك- فمن حق الدكتور عمارة أن يتساءل عن "الجدة" في القراءة التي نقترحها للمقاصد الكلية للشريعة، إن مفاهيم " العقل " و"الحرية" و"العدل "، مفاهيم كلية تتجاوز حدود المقاصد الجزئية التى صاغها الفقهاء، بمن فيهم الشيخ الطاهر بن عاشور ودلالة جزئيتها واضحة في شرح الدكتور عمارة لها. إن مبدأ "الحفاظ على العقل " لا يستوعب مفهوم العقلانية لأنه يرتبط باستنباط علة تحريم الخمر عند الفقهاء، في حين أن مفهوم "العقلانية" أوسع كثيرا من مفهوم "الوعي" المناقض لحالة "السكر"، وليس المقصود بمبدأ "العدل" ما فهمه الدكتور عمارة فأدرجه في "الحفاظ على المال"، ولم يجد لمبدأ "الحرية" مقابلا في المبادئ الخمسة، فاكتفى بالقول إن الشيخ الطاهر بن عاشور قد أضافه، رغم أنه يعلم أن مفهوم الطاهر بن عاشور للحرية يحتاج لكثير من الإضافات، وإذا كان الدكتور يتقبل اجتهاد الطاهر بن عاشور في الإضافة، فلماذا يتصور ان محاولة اجتهادي تقوم على الحذف والاستبعاد؟! هل المسألة هنا تكمن في الإضافة الكمية التي يعتبرها معيارا للإضافة متجاهلا سياق الاستيعاب "الكيفي "؟! أتمنى ألا تكون الأحكام مصدرها منبع آخر ليس هو "تحرير مضامين المصطلحات "، كأن ذلك لا يمنع إطلاقا أن يستمر الحوار بالعقل وعلى أساس الندية والتكافؤ. وكما اتفقت مع الدكتور عمارة في أهمية "تحرير مضامين المصطلحات" وضرورته، أجدني أتفق معه كل الاتفاق في خاتمة مقالته بعد ان أضيف إليها ما هو موضوع بين قوسين كبيرين، نعم "إن أغلب حواراتنا هي ضحايا بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات "، (وللتوجس المتبادل والبدء من افتراض سوء القصد)، وعلينا كي يفهم كل منا الآخر، ولتحديد مناطق الاتفاق، ومناطق الاختلاف، ولتنظيم حوار موضوعي وجاد وبناء، أن نبدأ بتحرير وتحديد مضامين ومفاهيم المصطلحات (مع استبعاد تلك الثنائية الوهمية بين الوافد والموروث وما ينطوي فيها من إقصاء واستبعاد).
 
         والله من وراء القصد..
 
  نصر حامد أبوزيد  ( 1/8/1994 العدد 429 من مجلة العربي)

23 - يوليو - 2010
ساعة الفجر الحزينة
هل اللفظان صحيحان؟    كن أول من يقيّم

 وعيلكم السلام ورحمة الله، وتحياتي للأستاذ صالح محمد، ولشيخي العزيز،أبي بشار،
" على أمل أن يشاركنا فطاحل اللغة مشكورين "
مما جاء في معجم الغني:
فِطَحْلٌ - ج: فَطَاحِلُ. 1."أَخَذَهُ الْفِطَحْلُ" : السَّيْلُ الْعَظِيمُ. 2."مِنْ فَطَاحِلِ الْعُلَمَاءِ" : مِنْ عُظَمَائِهِمْ، مَنْ كَانَ نَاراً عَلَى عَلَمٍ، أَيْ مَشْهُوراً.أ.هـ
وعليه، فإن صفة الفِطحل تطال، دون شك، سيبويه، والكسائي، وابن جني، ومن لف لفهم من العلماء المشاهير في القديم وفي الحديث؛ ومع ذلك، فإني أجيب بما طالعته في معجم الغني، وبما طالعته من الأشعار في الموسوعة:
 جاء في معجم الغني أيضا:
مُكَرَّرٌ، ةٌ - [ك ر ر]. (مفع. من كَرَّرَ). 1."رَقْمٌ مُكَرَّرٌ": مَكْرورٌ، مُعَادٌ. "فِكْرَةٌ مُكَرَّرَةٌ". 2."نَفْطٌ مُكَرَّرٌ" : مُصَفّىً.
مُكَرِّرٌ، ةٌ - ج: ـون، ـات. [ك ر ر]. (فا. من كَرَّرَ). 1. "مُكَرِّرٌ سُؤَالَهُ" : مُعِيدُهُ مَرَّةً ثَانِيَةً أَوْ أَكْثَرَ. 2. "تِلْمِيذٌ مُكَرِّرٌ" : كَرَّرَ السَّنَةَ الدِّرَاسِيَّةَ.أ.هـ
أبيات شعرية تراثية وردت فيها كلمة:" مكرور":
البيت المار ذكره، في الموضوع، وكرره شيخي يحيى في تعليقه ، لكعب بن زهير(ت26هـ)، ورد ذكره في " العقد الفريد ":
ما نرانا نقول إلا مُعارا= أو مُعادا من قولنا مكرورا
وفي اختيار الموسوعة الشعرية:
ما نرانا نقول إلا رجيعا = ومعادا من قولنا مكرورا
وفيها أيضا:
الطرماح (ت125):
قَليلَ التَواني بَينَ شَرخَي مُرَكَّنٍ         وَأَغبَرَ مَكرورِ المَآسِرِ مُجنَحِ
ابن الرومي( ت283):
يقودك مكرور التجاريب نحوه = وهل تجتوي شهداً تجاريبُ طاعم
البحتري (ت284):
إذا كرّت الآمال فيه تلاحقت = مواهب مكرور الأيادي مُعادها
مهيار الديلمي (ت428):
على كلّ يوم طارفِ الحسن طارفٌ         لها غيرُ مكرورٍ ولا برجيعِ
ولقد بحثت عن كلمة " مكرر" في أشعار الموسوعة من مختلف العصور، فوجدتها وقد بدأ استعمالها في العصر العباسي؛ في الأشعار، وفي كتب الأدب ، وفي كتب التراث الدينية ، ولم أجد كلمة" مكرور" إلا في أبيات الشعر المذكورة آنفا، فما تفسير ذلك؟
أرجو من شيخي، الذي ذهب إلى الضرورة الشعرية في تعليله، أن يبدي رأيه في ما ذكره معجم الغني.

29 - يوليو - 2010
مكرِّر أم مكرور ؟
مشاركة متواضعة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

وعليكم السلام ورحمة الله أيها الأخ الحبيب، وشكرا لك على مودتك إيانا، وشكرا لك على موضوعك الجميل،
كلما اقترب الشهر الكريم، تخطر ببالي فائدة أراها عظيمة القيمة بين فوائد الصوم العديدة. وهذه الفائدة تتلخص في منحة الحرية التي يمنحها لنا شهر الصيام  العظيم. فالعبودية التي نرزح تحت نيرها في شهور الإفطار، وهي عبوديتنا لشهواتنا المادية والنفسية ، وسعينا إلى التكالب عليها و محاولتنا الاستئثار بها ، كل منا لنفسه، تصبح هذه العبودية لدى الصائم الحق لاغية تماما ، حيث تحل  محلها حرية  عصية على كل قيد .
ترى ، لو اننا أحسنا استغلال هذه الحرية في غير رمضان أيضا، ألا يمكن أن تنقلب مسيرة حياتنا رأسا على عقب كما يقال، ونصبح أحرارا؛ ليس  من عبودية الطعام والشراب والشهوات والغرائز المتعددة فحسب، فهذه يمكن أن نتحرر منها غصبا عنا، برغبة أن تبدو أجسامنا بمظهرخادع خلاب ( وسرائرنا ألطف يا لطيف...)، أو بداء عضال لا حيلة لنا برده يهد أجسامنا هدا، أو بهرم لا بد وآت مهما ظنناه بعيدا، إن قدر لنا أن يدركنا الهرم؛ وإنما من عبودية  الجهل والجهالة، والتعصب لغير الحق، وعبودية الحقد والضغينة، وعبودية النفاق الاجتماعي، وعبودية الانقسام والفرقة، وعبودية فرض الرأي على الغير فرضا، وعبودية التفاخر بالأموال والأولاد ، والتسابق على أعراض الدنيا الزائلة مهما كانت سبلنا في التسابق ضالة، وعبودية التفاخر بالنسب والعشيرة والقبيلة.، وعبودية التعصب للعرق.. وعبوديات لا حصر لها ما نزال نرزح تحت ثقلها الرهيب. فبدل أن نكون عبيدا لتلك الشهوات الخسيسة، نكون عبادا لله وحده .
ولن أختم مشاركتي بالقول: ليتنا نحقق ما نصبو إليه من عزة وكرامة، بل أقول: عسى الله، إن علم في قلوبنا خيرا، أن يتولانا برحمته وفضله ، وأن يعيننا على تحصيل ما نصبو إليه، فهو نعم المولى، ونعم المتفضل، ونعم المعين .
 
 

29 - يوليو - 2010
معان صوفية للصوم
الاسم العلم والصفة واللقب    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

تحية طيبة لصاحب هذا الملف المفيد، الأستاذ الفاضل ، محمد جميل، وتحية طيبة لشيخي العزيز يحيى مصري، أبي بشار ؛ شاكرا له مجهوده النافع. وهذا تعليق على المشاركة التي أولها:
السؤال
" أود طرح نقطة حرجة أرقتني و لم أجد لها حلاً، وكلما سألت ذا علم قوبلت بأجوبة، مثل (ملحد، كافر، منافق) ...
حول الاسم العلم، والصفة.
    الذي سأل عن" أحمد" أين هو باعتبار أن سيدنا محمد صلوات الله عليه اسمه محمد، وقع في ظن خاطيء لأنه لم يفرق بين الصفة والاسم العلم. فمحمد اسم علم يدل على النبي بين الناس ، وهو اسم سماه به جده عبد المطلب كما ذكرت المصادر، وقد ذكر في القرءان أربع مرات، وهو كذلك اسم تسمى به عدد من الناس في الجاهلية. أما" أحمد"، فهي صفة منحها الله سيدنا محمدا، تدل على أنه أحمد الناس لله تعالى كما هو معلوم. وللنبي أسماء (صفات) عديدة كما جاء في الآثار؛ منها الأمين، والصادق، والحاشر، والماحي، والعاقب، والبشير، والنذير...الخ.  وكذلك سيدنا عيسى عليه سلام الله، فله صفة وله اسم علم . فالمسيح صفته، وعيسى هو اسمه العلم عليه. ويجوز أن يتقارب اسم العلم مع اسم الصفة في المعنى، مثل "محمد" و" أحمد". فأسماء العلم لا تخلو من معان، ويجوز أن تكون الصفة هي اسم العلم نفسه. فالأسماء في الأصل تدل على صفات أفعال وأخلاق المسمى ، فكيف إذا كان المُسمي هو الله جل وعلا! لقد سمى الله سيدنا يحيى بهذا الاسم، فيحيى اسمه العلم، وهو أيضا اسم صفته عليه السلام، والذي لم يجعل الله له سميا .
   ولكن هناك من أسماء العلم ما لا يطابق معناه صفات صاحبه بطبيعة الحال، فيكون عندها الاسم على غير مسمى. ومن أسماء العلم أيضا أسماء مجهولة المعنى ، مثل " طه" و "يسن" ، وهي من الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرءان، وكذلك "إل ياسين " في الآية من سورة الصافات: " سلام على إل ياسين"، فمن قائل : إنه سيدنا إلياس ( وهذا هو القول المعقول الذي يقتضيه السياق) ، ومن قائل: إن "إل ياسين" هو (إدراسين!!) ، أي إدريس عليه السلام، ومن قائل : إنها، أي الآية: " سلام على آل ياسين" ، وإن ياسين هو النبي محمد، وإن السلام يعود على آله؛ ولذا، فإن العديد منا، وعلى زعم بعضنا أن الأسماء المذكورة هي أسماء للنبي، يتسمّون بها باعتبارها من أسمائه عليه السلام.
ومن الأسماء ألقاب تلقب بها آباؤنا السابقون، واستعملناها نحن أسماء أعلام لا ألقاب في عصرنا، وهي ألقاب تعطي معنى الصفات الحميدة، كما لقب يوسف بن أيوب بصلاح الدين، ومحمود بن زنكي من قبله بنور الدين...الخ، وهي ألقاب كانت في محلها الصحيح بالنسبة إلى هذين الرجلين؛ فنور الدين، وصلاح الدين، أعادا إعادة واقعية، فريضة من أهم فرائض الدين، ألا وهي الجهاد، ضد عدوان الفرنجة الصليبيين المعتدين وغيرهم من الظالمين.
وتوضيحا للسائل الذي سأل، ولمن هو في حكمه، أقول: أسم سيدنا محمد هو: الأحمد، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله ورحمته وبركاته عليه وعلى آله وصحبه الطيبين البررة، كما هو اسم صلاح الدين، يوسف بن أيوب، رحمه الله وغفر له، مع الفارق بين النبي الرسول، وبين صلاح الدين.
الاسم بمعنى الصفة مرة أخرى:
المشركون الذين كانوا يسمون الملائكة تسمية الأنثى ، يعني أنهم كانوا يصفونها بصفات الإناث . وكذلك منحوا الأوثان أسماء (صفات) الألوهيه المؤنثة : ففي سورة النجم : " إن هي إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان..." . وفي سورة الرعد: " وجعلوا لله شركاء قل سموهم" بمعنى هاتوا لي صفاتهم التي تجعلهم آلهة مع الله بزعمكم...
وأسماء الله الحسنى هي صفاته المقدسة، واللذين يلحدون في أسماء الله إنما ينكرون صفات الألوهية، والله هو اسمه العلم جل وعلا . وفي سورة الحج: " ...هو سماكم المسلمين من قبل..." أي أطلق الله عليكم صفة الطاعة والانقياد لأوامره تعالى وميزكم بها، ومن ثم أصبحت الصفة: (المسلمون)، اسما علما على أمة محمد صلوات الله عليه. نسأل الله تعالى أن يصبح الاسم العلم الدال على هذه الأمة مساويا ومعادلا لاسم صفتها التي سماها به ربها.
لقد أطلت في الشرح والتفسير لأمر واضح لا يخفى على الكثيرين؛ ولكن السائل المذكور، على افتراض حسن نيته، دعاني إلى الإطالة، التي أرجو أن لا تسبب للقراء الأعزاء نوعا من الملالة، والسلام عليكم ورحمة الله..
 

29 - يوليو - 2010
مع التحية إلى من أحب وأحترم
تحياتي لشيخي العزيز،    كن أول من يقيّم

الظاهر يا شيخي، أنك لم تطالع "مُذمّم" في المعاجم لترى ما ذكرته عنها، فحكمت على هذه الكلمة بأنها إما فيها خطأ صرفي، أو بأنها ضرورة شعرية؛ اعتمادا على ظنك بأن صياغة اسم المفعول تتم فقط من الفعل المبني للمجهول. 
في لسان العرب: ورجل مُذمّم أي مذموم جدا( وكذلك في الصحاح) . وهذا مكان مُذمّم . محرم له ذمة وحرمة.
  :
مُذَمَّمٌ، ةٌ - [ذ م م]. (مفع. مِنْ ذَمَّمَ). 1."وَلَدٌ مُذَمَّمٌ" : مَذْمُومٌ، مُصَابٌ، مَلُومٌ. 2."مَكَانٌ مُذَمَّمٌ" : ذُو حُرْمَةٍ.
 مَذْمُومٌ، ةٌ - ج: ـون، ـات. [ذ م م]. (مفع. مِنْ ذَمَّ). "رَجُلٌ مَذْمُومٌ" : مَعيبٌ عَلَيْهِ، وَمَلُومٌ.
وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (قرآن).
في ديوان الأدب للفارابي(خال الجوهري صاحب الصحاح):
ورجلٌ مُذَمَّمٌ، أي: مَذْمومٌ جدّاً. وزَمَّمَ الجِمالَ، أي: زمَّها، شُدِّدَ
للكَثْرةِ.
 اشتقاق اسم المفعول:
الذي أعرفه أن اسم المفعول يمكن أن يشتق من المبني للمجهول ومن غير المبني للمجهول. وانقل لحضرتك  من واحد من المنتديات ما يلي:
يقول الأستاذ عباس حسن في المجلد الثالث من النحو الوافي :
" يصاغ - يقصد اسم المفعول - قياسا على وزن " مفعول " من مصدر الماضي الثلاثي المتصرف؛ مثل : " محفوظ" و " مصروع"من " صَرَعَ " و " منسوب " من " نَسَبَ " و" معلوم " من " عَلِمَ" و " مجهول" من " جَهِلَ" و " معروف " من " عَرَف". ومثل " محمود " من "حَمِدَ".
ويصاغ قياسا من مصدر الماضي غير الثلاثي بالإتيان بمضارعه وقلب أوله ميما مضمومة مع فتح ما قبل الآخر.
 
 

30 - يوليو - 2010
مكرِّر أم مكرور ؟
أهلا ومرحبا بأستاذنا العايد    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

أعلن عن بهجتي بانضمام أستاذنا العايد وفقه الله إلى قافلة السراة المباركة، لنفيد من علمه الوفير، وأدبه الجم. هذه القافلة التي يشرف على مسيرتها أستاذنا الغالي زهير ظاظا حفظه الله؛ متمنيا لحضرته طيب الإقامة في الوراق، وحسن العشرة مع جميع الإخوة، أساتذتنا الكرام .
وكنت أود البدء في معركة جدلية أخوية مع أستاذنا العايد تدور رحاها حول الحديث عن الأنساب في الأشعار والافتخار بها ، وهل هذا الافتخار لا يفسد الشعر أو يفسده فعلا؛ إلا أنني آثرت التراجع عن تلك المعركة لما تبينت رغبة الأستاذ في أن نقرأ قصيدته قراءة شعرية نقدية، وانه في انتظار تعليقاتنا على قصيدته بالأشواق.
في المرة القادمة سوف أنشر نقدي بإذن الله .

30 - يوليو - 2010
أميرة في خيالي / من أشعاري
هنيئا للوراق بأساتذتنا الأكابر    كن أول من يقيّم

سبقنا أستاذنا النويهي إلى ما يحيى القلوب، ويلهب المشاعر، ويثري الفكر، فبارك به الله. ثم قدم أستاذانا صادق السعدي ، وزهير ظاظا ما ينعش الفؤاد من قصيدهم الرائع، الذي يلج إلى الوجدان من اوسع أبوابه، ويستميل القلوب لتتعلق بأهدابه، فشكر الله لأساتذتنا صدقهم، وكثر الله من أمثالهم ، وجعلنا من تلاميذهم المخلصين.
والنويهي، والحق يقال، من الذين فتح الله عليهم ما استغلق على غيرهم. فكونه سبقنا ، وله الفضل، في الكلام في ديوان أستاذنا زهير "ضياء نامة"، والذي نعتز به كلنا أيما اعتزاز، فإنه قد أقدم على خطوة وجب أن نقدم عليها من زمان؛ ولكننا، ولشديد الأسف، شغلتنا أعباء الحياة عن القيام بخطوة مهمة كهذه، وشغلتنا تعليقاتنا في الوراق بين الحين والحين الآخر؛ ومع ذلك كنا نقدم يدا تحمل القلم، ونؤخر أخرى تحمل الرهبة والخشية؛ خشية من أن يعترينا الندم إن نحن تكلمنا في ديوان أستاذنا بما لا يصل إلى قريب من مقام هذا الديوان العظيم. ديوان امتزجت في أشعاره العواطف المستفيضة الصادقة ، والعبارات المحكمة المؤثرة، والحكم النافعة، والنابعة من معاناة عاناها أستاذنا عبر مسيرة حياته الكريمة الحافلة بالعبرة والموعظة، وبالنظرة الواعية الثاقبة إلى الحياة والإنسان. ويضاف إلى ذلك ما حفل به الوراق من مشاركات ثمينة، وما نتج عن اللحمة بين سراته من مودة صادقة عظيمة ، مما ولد في مشاعر أستاذنا زهير العديد من القصائد الرائقة الرائعة، الموجهة إلى سريات الوراق وسراته الأكارم ، وكانت قصائد عددها لا يستهان به في ديوانه .
  وليست أشعار أستاذنا زهير، وكذلك أشعار أستاذنا السعدي، إلا حصيلة ما في نفسيهما الكبيرتين من إخلاص للحق ، وبعد عن الرياء بجميع صوره وأشكاله، ولذا، فإننا لا نجد في قصائدهما قولا منمقا، ولا عبارة مزخرفة..أما الصنعة، إن كان في الشعر صنعة تتعلق ببنيته اللغوية أو الوزنية الموسيقية، فأحبب بالشاعرين من صانعين ماهرين حاذقين، لا يشق لهما في صنعتهما غبار، ولا يلحق بهما المتسابقون في هذا المضمار وكل مضمار.
وختاما مباركا لما قدمنا من تقريظ ما قلنا فيه إلا الحق، وما دفعنا إلى قوله إلا الانفعال بأشعار أستاذينا بصدق، نتقدم بقصيدة من قصائد الديوان لها في قلب أستاذنا زهير مكانة خاصة؛ كما نوه حضرته بذكرها، ألا وهي:
 على قمة الأربعين
تـبـاركت أي رب والحمد لك
 
فـمـا  لـي مـدار بهذا الفلك
وقـفـت عـلى قمة iiالأربعين
 
ويـؤسـفـني اليوم أن iiأسألك
ألـيـس مـن العار أن iiأنتهي
 
وألـقـي إلـى ولدي iiمشعلك؟
أأتـركـه  لأكـفِّ iiالـذئـاب
 
وديـعـاً  وأحـرمُـه iiمنهلك؟
وكـيـف  أعـرّفـه iiبـؤسَهم
 
وهـم  يـلـبسون له iiمسبلك؟
تـعـالـى  الغبار فقالوا iiهوى
 
ولـسـتُ الـنبيَّ ولستُ الملك
فـهـل  أتـشظى بهذا الوجود
 
ويـهـلـك نـجميَ فيمن هلك
تـعـالـى الـغبارُ، أجلْ: iiإنه
 
دمـي  وشـبـابي الذي iiمثّلك
وما راعني في صغيري الزمان
 
إذا هـو فـي غـيـبتي iiأمّلك
ولـكـنـه الذعر: أن لا iiيرى
 
حـيـالَ مـداخـلـها iiمدخلك
بُـنـيَّـ:  أبـوك  امرؤ طيبٌ
 
حـريـص على نبل ما iiخوّلك
سـتـقـرأ في صفحات iiالحياة
 
لـمـاذا بـكـى كـلـما قبّلك
فبارك الله لأستاذنا في أولاده الأعزة، وجعل منبتهم حسنا، وكفلهم بعنايته الربانية، وأقر بهم عيون والديهم. وكذلك ندعوالله تعالى لجميع السراة الأفاضل.

4 - أغسطس - 2010
توظيف الرموز فى الشعر العربى الحديث
وداع من بعده لقاء قريب إن شاء الله    كن أول من يقيّم

 
عنوان تعليق شيخي يحيى المحترم: " إلا النحو" ذكرني بـ " إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" التي حفلت بها الشبكة العنكبوتية إبان اعتديَ على شخصية الرسول الأكرم بالرسوم المسيئة، فقلت لنفسي: الرسول يبلغ رسالة من الله إلى الناس، وعلم النحو والصرف والاشتقاق وغيرها من العلوم الإنسانية رسالة من الناس إلى الناس، وتابعت قائلا: شتان* بين إلا وإلا . هذا، وإني أشكر شيخي على فضله، فتعليقاته جعلتني أسرح بناظري وبعقلي على الشبكة؛ أطالع ما تذكره في الاشتقاق اللغوي العربي ، وقد استفدت منها كثيرا، وراجعت معلومات كانت لدي منسية أو شبه منسية.
إن علم النحو نظرية وضعها علماء اللغة؛ معتمدين فيها على الاستقراء والقياس. وما دامت نظرية، فهي محل للأخذ والرد، وعرضة للاتفاق في بعضها والاختلاف في بعضها الآخر بين النحاة، وعرضة لأن تساير هذا العصر وكل عصر، مثلما سايرت عصورا خلت. وهذا أمر طبيعي جدا. فاللغة كائن حي كما قالوا، والخلافات النحوية أمرها مشهور، ومدارس النحو صيتها ذائع ، وكل مدرسة خالفت الأخرى في بعض أمور هذا العلم كما هو معروف لدينا جميعا، بل إن من أصحاب المدرسة الواحدة نفسها من خالف بعضهم بعضا. المهم أن الخلاف في أية نظرية أمر جائز وواقعي، وربما يثري العلومَ الخلافُ فيها . أما اشتقاق اسم المفعول من المصدر، أو من الفعل الماضي المستند إلى المفرد الغائب، أو من الفعل المبني للمجهول كما قال شيخي، فالهدف من الاشتقاق ونتائجه هو ما يهمنا أكثر دون شك.
ولقد بحثت عن " مكرور" بمعنى المُعاد مرة بعد اخرى، في مجالس الوراق، فوجدتها وقد ذكرت مرات ومرات، في التعليقات وفي المشاركات المنقولة، ولم لا؟ ألم يذكرها كعب بن زهير في شعره؟ وذكرها كذلك الطرماح، والبحتري ( والبحتري ممن التزموا عمود الشعر تماما) ذكرها ثلاث مرات، وذكرها مهيار الديلمي ، هذا، غير ما لم تصل إليه معلوماتي المتواضعة. ولا يمكن لأحد أن يدعي أن هذه اللفظة التي وردت عند كعب بن زهير بن أبي سلمى يمكن الحكم ببطلانها؛ قياسا على طرق الاشتقاق التي اختلف فيها ، والتي وضعها علماء اللغة بعد كعب بمئات السنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في"شتان" هذه خلاف بين الأصمعي وأبي زيد النحوي. فقد قيل لأبي زيد النحوي: إن الأصمعي قال: لا يقال: شتان ما بينهما، إنما يقال: شتان ما هما، وأنشد قول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها
فقال: كذب الأصمعي، يقال: شتان ما هما، وشتان ما بينهما، وأنشدني لربيعة الرقي، واحتج به:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى         يزيد سليم والأغر ابن حاتم
وفي استشهاد مثل أبي زيد على دفع مثل قول الأصمعي بشعر ربيعة الرقي، كفاية له في تفضيله.
وذكره عبد الله بن المعتز فقال: كان ربيعة أشعر غزلاً من أبي نواس، لأن في غزل أبي نواس
برداً كثيراً، وغزل هذا سليم سهل عذب.(الأغاني) .
أقول أنا ياسين: فلننظر في الخلاف الذي ذكرناه ففيه تصديق لما قلنا آنفا. ولننظر أيضا قوله: "كذب الأصمعي" بدل أن يقول أخطأ . والظاهر أن المقصود بـ" كذب" هنا، أنه قال ما يخالف الحقيقة؛ مع أن الكذب لا يعني إلا تعمد إخفاء الحقيقة. ففرق كبير بين الخطأ والكذب . والكذب بمعنى الخطأ ورد في كتب التراث كثيرا.
 ولقد كان الأصمعي وأبو زيد النحوي متعاصرين، فهل كان بينهما كراهية وعداء حتى يتهم النحوي الأصمعي بالكذب المتعمد فعلا؟ الله أعلم.

4 - أغسطس - 2010
مكرِّر أم مكرور ؟
 51  52  53  54  55