البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات د يحيى مصري

 50  51  52  53  54 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه30    كن أول من يقيّم

وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في شأن ابن عطاء الله الفقيه جد الشيخ تاج الدين: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم ثقيف جاءه ملك الجبال فقال له: ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، قال فكذلك صبرنا لجد هذا الفقيه لأجل هذا الفقيه يعني تاج الدين إلى غير هذا مما يكثر.
فما وقع من الحكاية بعد أن يكون قصد به اقتباس وضرب من المناسبة يكون كل شيء مما مرّ، وإلاّ فهو استطراد للعلم وتذكير بفائدة، وقد يقال على أنه مما مرّ، فأين منزلتك أي هذا المتشبع بما لم يعط من درجات الشيخين المذكورين ونحوهما حتى يصح منك ما صح منهم؟ فنقول: إذا انفصلنا من جانب النبوءة بخير فقد خرجنا عن مضيق الممتنع إلى فضاء لجائز، وهو رحب، ومن تشبّه بقوم فهو منهم كما قيل:
لم أكن للوصال أهلاً ولكن           أنتمُ بالوصال أطعمتموني
لله الأمر من قبل ومن بعد
تقلبات الدهر
 
 
كان الشيخ الصالح أبو محمد الحسين بن أبي بكر رحمه الله ينشدنا كثيراً تحريضاً على جميل الصبر، وتعريفاً بتقلبات الدهر، ونحن إذ ذاك صبيان قول الشاعر:
ثمانية تجري على الناس كلهم              ولا بد للإنسان يلقى الثمانيه
سرور وحزن واجتماع وفرقة               ويسر وعسر ثم سُقْمٌ وعافيه
ونحو قول أبي الطيب:
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة         وميْتٌ ومولـود وقـالٍ ووامـق
فهذه أحوال تعرض لابن آدم على التوارد، لا يسلم منها في الجملة، ولا تنحصر لبقاء العز والذل والقوة والضعف والحركة والسكون، وغير ذلك مما لا يحصى، وكثير منها يصلح رده إلى ما ذكر بضرب من التأويل، ولو اشتغلنا بتفصيل ذلك وشرحه لغة واصطلاحاً لطال واحتاج إلى ديوان وحده أو أكثر، فلنقتصر على الإجمال مع الإلمام.
فالأول وهو السرور والحزن فنقول: هما مترتبان على المحاب والمكاره، ومن المحبوب فوات المكروه ومن المكروه فوات المحبوب، والإنسان لا يخلو من أن يظفر بمحبوب فيسر به أو يفوت فيحزن، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم يوماً في البيت يعمل عملاً فنظرت إلى وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو يتهلل أو كما قالت، فقلت يا رسول الله أنت والله أحق بقول أبي كبير، تعني الهذلي:
ومُبَرَّأٍ من كلِّ غُـبَّـر حـيضة          وفساد مرضعة وداءٍ مُغْـيِلِ
وإذا نظرت إلى أسِرَّة وجهـه                برقت كبرق العارض المتهلل
قالت: طرح ما في يدي وأخذني وقبل ما بين عيني وقال صلى الله عليه وسلم: يا عامر ما سررت بشيء كسروري بك. وقد ذكر القصة في الإحياء، وقال صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر، وقد قدم عليه جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه فعانقه: لا أدري بمَ أُسَرّ أبفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟ وقال صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم: "العَيْنُ تَدْمَع، وَالْقَلْبُ يَحْزَن، وَلا نَقُول إلاّ مَا يُرْضي رَبَّنَا، وإنّا بِفِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزونُونَ".

16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه31    كن أول من يقيّم

ثم الإنسان في أيام دهره لا يكاد يخلو من سوء، فإن الدنيا دار بلاء ومحنة، ولا سيما في حق المؤمن الذي هي في حقه سجن، فقد قال الله تعالى: (وَلْنَبْلُوَنَّكُمْ حتّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ). وقال الله تعالى: (الم، أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلْيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكَاذِبِينَ) وقال تعالى: (وَلْنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَمَرَاتِ) وقال تعالى: (لَتُبْلَونَّ في أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلْتَسْمعُنَّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَذِينَ أَشْركُوا أذى كَثِيراً) إلى غير ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أشَدَّكُمْ بَلاءً الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ".
وقال الشيخ أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه: أصلت لنفسي أصلاً فلا أبالي بعده، وهو أني قدرت أن هذا العالم كله شر، ولا يلقاني منه إلاّ الشر، فإن لقيني الخير فنعمة مستفادة، وإلاّ فالأصل هو الأول.
ومن غريب ما اتفق في هذا المعنى أن بعض الملوك نظر في كتاب الحكمة فإذا فيه: إن الدهر لا يخلو من المصائب، وإنه لا يصفو فيه يوم من كدر فقال: لأكذبن هذا. وأعد ليلة لسروره. وأحضر فيها كل ما يحتاج، وكانت عنده جارية حظية هي مجمع لذته، ومنتهى أنسه، فأحضرها لذلك، وأمر أن تصرف عنه الصوارف وتقطع عنه الأشغال ليتفرغ لمتعته وأنسه، ويقضي الأرب كله من هوى نفسه، فحين أمسى كان أول ما قرب للجارية العنب، فأخذت حبة وجعلتها في فيها فغصت بها، وكان ذلك آخر العهد بها.
فلم يرَ الملك أمرّ من تلك الليلة، ولا مصيبة ولا هما ولا حزناً أفظع مما فيها فسبحان القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
مقام الشكر ومقام الصبر عند الصوفية العارفين.
   هذا ومتى تأمل العبد أحواله، واستقرى عوارضه، وجد لطف الله تعالى أغلب، ونعمته عليه أوسع، قال تعالى: (الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) وقال تعالى: (وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصوهَا)، وفي الخبر: "يَقُولُ الله تَعَالَى: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبي".
ولا يشك العاقل أن أيام البلاء أقل من أيام العافية، وأوقات العسر أقل من أوقات اليسر وهكذا.
وقد قال الله تعالى في قصة آل فرعون: (فَإذَا جَاءتْهُمُ الحَسَنَة قَالُوا لَنَا هَذِهِ) الآية. ثم لا يخلو وقت من لطف، ولذا قال أئمة التصوف رضوان الله عليهم: العارف من عرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية.
ثم المؤمن كما في الحديث كله بخير، إن أصابه الخير شكر الله تعالى فكان له خيراً، وإن أصابه شر صبر فكان خيراً له.
وقال بعض العارفين: الناس كلهم في مقام الشكر، وهم يحسبون أنهم في مقام الصبر. وبيان هذا من أوجه: الأول- أن موجب الشكر وهو النعمة أغلب، والحكم للأغلب.
الثاني- أنه ما من شر وبلاء يصيب العبد إلاّ وفي مقدور الله تعالى من البلاء ما هو أفظع منه قد صرفه الله تعالى، فيجب الشكر على الاقتدار على ما وقع.
الثالث- ما يفيده البلاء من رياضة النفس وتشجيعها للنوائب وإخماد سَوْرَتِها والنجاة من طغيانها وما يجر إليه من البلاء ديناً ودنيا، وتربية العقل بتعريفه تقلبات الدهر وفتح البصيرة في الأمور وهذه الأوجه عامة في المؤمن وغيره.
الرابع- ما يحصل بالبلاء في الدنيا من مزيد المعرفة بالله تعالى وقهره وقوته وبطشه وفي الآخرة من الأجر العظيم.
الخامس- ما يحصل للنفس من الخشوع لخالقها والانفكاك عن المعصية.
السادس- سلامة ثوابه من شوب الرياء وما يفسده إذ لاحظ للنفس فيه فهو خير قد دخل عليها بلا تعمل، فالشكر عليه أحق، إلى غير ذلك من الفوائد التي يطول تعدادها، فمن علم ذلك كان البلاء عنده محل الشكر فصار في مقام الشكر على كل حال.
لله الأمر من قبل ومن بعد .

16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه32    كن أول من يقيّم

الشجرة الخضراء
في المدينة الحالية: سجلماسة
كان بسجلماسة أيام ارتحلنا إليها للقراءة زمان الصبا شجرة يقال لها الشجرة الخضراء مشهورة في تلك البلاد وفي سائر بلاد القبلة، وهي قدر الزيتونة أو السدرة الكبيرة، وورقها يقرب من ورق السدر، وسبب شهرتها أنها غريبة الشكل دائمة الخضرة وغريبة في محلها لأنها في البلد وليست من شجر البلد، وهي منفردة ليس معها شجر أصلاً، وكانت نابتة خارج سور المدينة الخالية بينه وبين النهر قبالة الرصيف الذي يعبر عليه لناحية الزلاميط، ويقال: إن ذلك باب من أبواب تلك المدينة، والله أعلم.
ثم إن الأستاذ الفاضل أبا يزيد عبد الرحمن بن يوسف الشريف بعث إليها جماعة من الطلبة فقطعوها، وكان ذلك يوم الخميس، وكنت جئت من ناحية المراكنة ذلك اليوم قصداً إلى سوق الخميس، فلما بلغت إلى الشجرة وجدت الطلبة حين بلغوا إليها بقصد قطعها فقعدت حولها أنظر، فلما انفصل أهل السافلة من السوق وكانت طريقتهم كان كل من يمر فيراها تقطع يصيح ويتأسف ويقول: ما فعلت لكم المسكينة؟ وكان أهل سجلماسة لما استغربوا أمرها يزورونها، ولا سيما النساء، فيكثرون عليها من تعليق الخيوط ويطرحون الفلوس أسفلها، وربما تغالت النساء في تعظيمها والتنويه بشأنها حتى يسمينها باسم امرأة صالحة كالسيدة فاطمة ونحو ذلك، فلهذا أمر الأستاذ المذكور بقطعها وكأنه يرى أنها صارت ذات أنواط كما قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، فذكرناها نحن للتنبيه على ذلك، فإن عوام الناس أكثروا عليها منذ عقلنا حتى كانوا ينسبون إليها من ترهات الأراجف نحو قولهم: قالت الشجرة الخضراء: هذا زمان السكوت، من قال يموت، فليعلم الناظر أنها إنما هي شجرة لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ومثلها أحق أن يقطع.
ومن هذا نسيت شجرة بيعة الرضوان حتى لم يثبت عليها الصحابة الذين كانوا تحتها فضلاً عن غيرهم، وذلك مخافة أن تعبد.
 وسمعت الفاضل الناسك البكري بن أحمد بن أبي القاسم بن مولود الجاوزي رحمه الله يحدث عن أسلافه أن شيخ المشايخ أبا القاسم الغازي رضي الله عنه ونفعنا به كان يقول لهم: إنه نزلت عليه القطبانية تحت شجرة ببلد أجاوز، فيقولون له: يا سيدنا لِمَ لمْ ترنا تلك الشجرة، فيقول خفت أن تتركوا السبع وتعبدوا النغورة أي مغارته أي يتركونه فلا ينتفعون به ويشتغلون بالشجرة.
وكانت بقرب تاغية مقام الشيخ أبي يعزي شجرة من أحجار يقال له: البقرة، وكل ذلك حقيق بالإزالة، غير أن العالِم سيفُه لسانُه، وما وراء ذلك إنما هو لأهل الأمر، ومن له قدرة على الأمر.
نعم، التبرك بآثار الصالحين مع صحة العقيدة لا بأس به، وله أصل في فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يدير راحلته حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم أدارها ويتحرى الأماكن التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم، وذلك مذكور في الصحيح وفيه قيل:
خليلي هذا ربع عزة فاعقـلا          قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
ولا تيأسا أن يمحو الله عنكمـا               ذنوباً إذا صليتما حيث صلت
ورأيت في بلاد المصامدة وخصوصاً بلاد رجراجة من هذا كثيراً بقي عندهم موروثاً خلفاً عن سلف عندما يدورون على صلحائهم زائرين، ولما حضرت معهم في الدور في هذه السفرة التي بدأت فيها هذه الأوراق، وذلك سنة خمس وتسعين وألف لم أوافقهم في فعل كثير مما يفعلون من ذلك مخافة أن يتخذني العوام حجة فيتغالون في ذلك، ومع ذلك لم أخل نفسي من التبرك بأمور قريبة لا بأس فيها.
وفي بلاد المغرب مواضع اشتهرت بآثار الصالحين ووقع التغالي فيها، منها شالة في رباط سلا، فلا يعرف لها إلاّ أنها مزارة يزورها الناس ويتبركون بمن فيها، ولم يظهر فيها بهذا العهد إلاّ يحيى بن يونس، وهو مشهور عند الناس، ولا تعرف له ترجمة، وملوك بني عبد الحق، وهم معروفون، ولا بأس بهم، وكل ما يذكر فيها مما سوى ذلك ويوجد في بعض الأوراق المجعولة من الأخبار فلا يعرف له أصل ولا يعول عليه.
ومنها ميسرة في بلاد ملوية حيث مدفن الشيخ أبي الطيب بن يحيى الميسوري، ويقال لها تامغروات قد اشتهرت عند الناس، وتوجد فيها أخبار وأحاديث في الأوراق وألسنة الناس، وسألت عن ذلك بعض أولاد الشيخ المذكور وهو الفاضل أبو عبد الله محمد بن أبي طاهر عند نزولنا عليه فقال: ما ثبت عندنا في هذا الموضع إلا أنه كان رابطة لأسلافنا يتعبدون فيه، فقلت له: نعم الوصف هذا، فإن متعبد الصالحين حقيق أن يتبرك به، فهذا أيضاً غاية ما يثبت في الموضع وما وراء ذلك لا يلتفت إليه.

16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 33    كن أول من يقيّم

ومنها رباط شاكر وهو مشهور، وكان مجمعاً للصالحين من قديم، ولا سيما في رمضان، يفدون إليه من كل أوب، حتى حكى صاحب التشوف عن منية الدكالية رضي الله عنها أنها حضرت ذات مرة في رباط شاكر فقالت لبعض من معها: إنه حضر هذا العام في هذا الرباط ألف امرأة من الأولياء، فانظر إلى عدد النساء فكيف بالرجال! فلا شك أن هذا الموضع موضع بركة ومجمع خير، ولكن لم نقف من أمره إلا على ما وقع في التشوف من أن شاكراً ذكر أنه من أصحاب عقبة بن نافع الفهري وأنه هنالك، وأن يعلى بين مصلين الرجراجي بناه، وكان يقاتل كفار برغواطة، وغزاهم مرات، وأن طبله هو الباقي هنالك إلى الآن، والله أعلم. ولم يظهر فيه في العهد من مشاهد الصالحين إلا أبو زكرياء المليجي، والله أعلم.
لله الأمر من قبل ومن بعد
محتالون يظهرون الصلاح ويخدعون الناس
مما وقع بسجلماسة قريباً من هذه القصة أنه شاع في البلد ذات ليلة أنه قد ظهر رجل في المدينة الخالية، فأصبح الناس يهرولون إليه أفواجاً، وخرجنا مع الناس فقائل يقول: ولي من أولياء الله، وآخر يقول: صاحب الوقت، فلما بلغنا المدينة وجدنا الخلق قد اجتمعوا من كل ناحية على ذلك الرجل حتى أن أمير البلد وهو محمد بن الشريف خرج في موكب حتى رآه فلما كثر الناس اشتد الزحام عليه وتعذرت رؤيته، دخل في قبة هناك في المقابر فاخرج كفه من طاق في القبة فجعل الناس يقبلون الكف وينصرفون، وكان كل من قبل الكف اكتفى ورأى أنه قضى الحاجة فقبلناه وانصرفنا، ثم بعد أيام سمعنا أنه ذهب إلى ناحية الغرفة، وأنه سقط في بئر هنالك ومات، فظهر أنه رجل مصاب، وكأنه يشتغل باستخدام الجان ونحو ذلك فهلك.
 
وإنما ذكرنا هذا ليعلم وينتبه لمن هذا حاله، فكم تظاهر بالخير من لا خير فيه من مجنون أو معتوه أو موسوس أو ملبس، فيقع به الاغترار، للجهلة الأغمار.
ما أنت سار غـرّه قـمـر               ورائدٍ أعجبه خضرة الدمَنِ
وقد يشايعه من هو على شاكلته من الحمقى ومن الفجار، وشبه الشيء منجذب إليه.
إن الطيور على أجناسها تقع
فيغتر الأغبياء بذلك إلا من عصمه الله.
وقد صعدت في أعوام الستين وألف إلى جبل من جبال هسكورة فإذا برجل نزل عليهم من ناحية الغرب، واشتهر بالفقر، وبنى خباء له وأقبل الناس عليه بالهدايا والضيافات، وكان من أهل البلد فتى يختلف إليه ويبيت عنده، فاستراب من أمره بعض الطلبة، فتلطف مساء ليلة حتى ولج الخباء، فكمن في زاوية منه فلما عسعس الليل قام المرابط إلى الفتى فاشتغل معه بالفاحشة، نسأل الله العافية، ثم علم أن قد علموا به فهرب، وبلغ الخبر إلى اخوة الفتى فتبعوه، ولم أدر ما كان من أمره، ومثله كثير. ومن أغرب ما وقع من هذا أيضاً بسجلماسة ما حدث به أخونا في الله الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الشريف المعروف بابن علي رضي الله عنه قال: ما لعب بإخواننا يعني أشراف سجلماسة إلاّ رجل جاءهم في البلد واتَّسم باسم الصلاح، ووقع الإقبال عليه، فكان يأتيه الرجل فيعده بأن يبلغه إلى مكة ويحج به طرفة عين، واستمر على ذلك مدة، ثم قام نفر من الأشراف اتفقوا على اختباره، فكمنوا قريباً منه، وتقدم إليه أحدهم وعنده نحو خمسين مثقالاً فقال له: يا سيدي إن هذه الصلاة تثقل علي، فعسى أن ترفعها عني، وأفرغ تلك الدراهم بين يديه، وكأنه هش لذلك، فبادره الآخرون قبل أن يستوفي كلامه وأوجعوه ضرباً وطردوه. ثم بعد مدة سافر بعضهم إلى الغرب فمر بعين ماء هنالك، فإذا الرجل عندها يستقي قربة له منها، وإذا هو يهودي من يهود معروفين هنالك، نسأل الله العافية.
فالحذر مطلوب، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي استولى فيه الفساد على الصلاح، والهوى على الحق، والبدعة على السنّة، إلاّ من خصه الله وقليل ما هم، وفيه قيل:
هذا الزمان الذي كنّـا نـحـاذره               قول كعب وفي قول ابن مسعود
إن دام هذا ولم يحدث لـه غـير              يبك ميت ولم يفرح بمـولـود
بل نقول: ليته يدوم، فإنه لا يأتي بأمان إلاّ والذي بعده شر منه كما في الحديث الكريم.
نعم لا بد للناس من تنفيس، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا تنفيساً نقضي فيه ما بقي من أعمارنا في خير، ونستعتب مما مضى، إنه الكريم المنان.

16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه34    كن أول من يقيّم

هذا، ولا بد مع الحذر من حسن الظن بعباد الله، ولا سيما من ظهر عليه الخير والتغافل عن عيوب الناس.
وفي الخبر: خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله وسوء الظن بالناس، ومن تتبع عيوب الناس تتبع الله عيوبه حتى يفضحه في قعر بيته.
فالاعتراض بلا موجب جناية، واتباع كل ناعق غواية.
وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رَعاعٌ، أتباع كل ناعق. فمن ثبتت استقامته، وصح علمه وورعه وجب اتباعه، ومن اتسم بالخير وجب احترامه على قدره، والتسليم له في حاله، ومن ألقى جلباب الحياء عن وجهه وجب لومه، وإذا ظهرت البدعة وسكت العالم فعليه لعنة الله، ولا بد من مراعاة السلامة.
وهذا باب واسع لا يكفيه إلاّ ديوان وحده، وإنما ذكرنا هذه الإشارة استطراداً.
لله الأمر من قبل ومن بعد
أشعار في الكرم وخدمة الضيف
من الشعر المستملح في باب التكرم قول المقنَّع الكِندي أنشده القالي في النوادر:
يعاتبني في الدَّين قـومـي وإنـمـا             ديونيَ في أشياء تكسبهـم حـمـدا
أسدُّ به ما قـد أخـلّـوا وضـيعـوا             ثغورَ حقوقٍ ما أطاقوا لهـا سـدا
وفي جفنة ما يغلق البـاب دونـهـا           مكللة لـجـمـاً مـدفـقة ثـردا
وفي فرس نهد عتـيق جـعـلـتـه              حجاباً لبيتي ثم أخدمـتـه عـبـدا
وإن الـذي بـينـي وبـين أبـــي                وبين بني عمّي لمخـتـلـف جـدا
فإن يأكلوا لحمي وفرْتُ لحومـهـم           وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجـدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبـهـم         وإن هم هوُوا غيي هويت لهم رُشدا
 
ولا أحمل الحقد القـديم عـلـيهـم             وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لـي غـنـى            وإن قل مالي لم أكلفـهـم رفـدا
وإني لعبد الضـيف مـا دام نـازلاً             وما شيمة لي غيرها تشبه العبـداد
ونحوه قول عروة بن الورد:
أيا بنت عبـد الـلـه وابـنة مـالـك             ويا بنت ذي البردين والفرس الـورد
إذا ما صنعت الزاد فالتـمـسـي لـه           أكيلا فإني لسـت آكـلـه وحـدي
أخاً طارقاً أو جـار بـيت فـإنـنـي             أخاف مذمات الأحاديث من بـعـدي
وكيف يسـيغ الـمـرء زاداً وجـارُهُ           خفيف المِعى بادي الخصاصة والجهد
وللمَـوْتُ خـير مـن زيارة بـاخـل             يلاحظ أطراف الأكيل على عـمـد
وإني لعبـد الـضـيف مـا دام ثـاوياً           وما فيَّ إلاّ تلك من شيمة الـعـبـد
وقول الآخر:
لعمر أبيك الخير إنـي لـخـادم        لضيفي، وإني إن ركبت لفارس
لله الأمر من قبل ومن بعد
أصناف الناس

16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه35    كن أول من يقيّم

قال معاوية رضي الله عنه يوماً لصعصعة بن صوحان وكان من البلغاء: صف لي الناس. فقال: خلق الناس أخيافاً، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء، ويُغلُون السِّعر ويضيقون الطريق. وقال الآخر في نحو هذا:
الناس هم ثـلاثة              فواحد ذو درقه
وذو علوم دارس             كتبـه وَوَرَقَـه
ومنفق في واجب             ذهبَه وَوَرِقـه
ومن سواهم همج            لا وَدَكٌ لا مرقه
وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه لكميل بن زياد: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كا ناعق.
"وقال الآخر:
ما الناس إلاّ العارفون بربهم                وسواهم متطفل في الناس"
وهذا المعنى له تفصيل وتحقيق، والاشتغال به يطيل، ويكفي اللبيب فيه ما مرّ عند ذكر الحسب وتفصيل المزايا في الناس.

16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه36    كن أول من يقيّم

لله الأمر من قبل ومن بعد
أصناف بقاع الأرض
كان شيخنا الأستاذ المشارك الفاضل الناسك أبو بكر بن الحسن التطافي ينشدنا كثيراً في التنويه بالعلم قول القائل:
وما عرَّف الأرجاء إلاّ رجالهـا               وإلاّ فلا فضلٌ لتُرْب على تُرْبِ
والمعنى أن القطر من الأرض وكذا المدينة والقرية تعرف وتشرف بنسبة المعروف إليها كأبي عثمان المغربي وابن عامر الشامي والحسن البصري وأبي الحسن الحرالي وغيرهم.
واعلم أن بقاع الأرض كأفراد الإنسان، هي كلها مشتركة في كونها أرضاً وتربة، ثم تتفاوت في المزايا الاختصاصية، إما من ذاتها بأن يجعلها الله منبتاً للعشب، وهي أفضل من السبخة أو مزرعة، وهي أفضل من الكنود أو سهلة، وهي أفضل من الحزن، وقد ينعكس الأمر، أو معدناً، وتتفاوت بحسب الجواهر المودعة فيها، أو منبعاً للماء، وتتفاوت بحسب المياه، إلى غير ذلك من مختلفات الفواكه والأشجار والأزهار وسائر المنافع، وأما من عارض، كأن يختصها الله تعالى بكونها محلاً لخير إما نبوءة بيته بمكة، فهي أشرف البقاع ما خلا المدينة من ثلاثة أوجه: الأول كونها محلاً لبيته، وقبلة لعباده، والثاني كونها عمارة خليله إبراهيم عليه السلام، الثالث كونها مولد ومبعث أشرف الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، إلى وجوه أخرى ككونها وسط الأرض أو أرفع الأرض أو من تحتها دحيت الأرض، وكونها حراماً وغير ذلك ولبيت المقدس قسط من هذا الفضل لأنها مأوى الأنبياء، وكانت قبله، واختصت المدينة طيبة بكونها مهاجر أشرف الخلق ومدفنه مع أكابر أصحابه رضي الله عنهم فصارت خير البقاع حتى مكة عند علمائنا أما التربة التي تضمنت شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم فلا مثل لها في الأرض ولا في السماء قطعاً.
 وأما نبوءة فتشرف كل بلدة ولد فيها نبي أو بعث أو أقام أو دفن، وتشتهر بذلك وتتعرف كما قال صلى الله عليه وسلم يوم الطائف للغلام وقد قال له: إنه من نينَوى. "قَرْيَةُ أخي يُونُسَ عَلَيْهِ السّلامُ" وإما علم فكل قرية أيضاً أو بلدة كان فيها عالم أو كان منها فهي تشرف بذلك وتتعرف كما في البيت المذكور، وإما زهدٌ أو عبادة أو نحو ذلك أو ملك أو جود أو نجدة أو جمال أو خلق حسن أو غير ذلك حتى رخاء العيش وصحة الهواء، فكل ذلك ونحوه يكون به الشرف والاشتهار كما يكون الاشتهار في النقصان والمذمة بأضداد ذلك. واعلم أن المولى تبارك وتعالى من لطيف حكمته وسابغ منته كما لم يُخْلِ عبْداً من عباده من فضل عاجل أو آجل، ظاهر أو باطن، كثير أو قليل، كذلك لم يُخِل بقعة من بقاع الأرض من فضل، ولم يُعْرِ بلدة من مزية يتعلل بها عُمّارُها حتى لا يتركوها، وقد جعل الله تعالى الأهواء مختلفة، والطباع متفاوتة، وحبب لكل أحد ما اختصه به، ذلك تقدير العزيز العليم الحكيم، فتجد هذا يمدح أرضه بكثرة المياه للاتساع في الشرب والطهارة والنقاوة ونحو ذلك، وهذا يمدح أرضه بالبعد عن كثرة المياه لجودة منابتها، وصحة هوائها، وذهاب الوخم عنها، وهذا يمدح أرضه بالسهولة لوجود المزارع فيها وكثرة ريفها واتساع خيرها، وهذا يمدح أرضه بكونها جبالاً لتمنعها وعزة أهلها، وحسن مائها وهوائها وقناعتها وغير ذلك.

16 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه37    كن أول من يقيّم

 
وللشعراء قديماً وحديثاً في هذا ما يحسن ترداده، ويطول إيراده، فمن ذلك لأبي بكر بن حجة الحموي يتشوق إلى بلده قوله:
بوادي حماةِ الشامِ عن أيمن الشـط          وحقك تطوى شُقّة الهمّ بالبسـط
بلاد إذا ما ذقت كـوثـر مـائِهـا               أهيم كأني قد ثمِلْتُ بإسـفِـنْـطِ
فمن يجتهد في أن في الأرض بقعة          تماثلها قل: أنت مجتهد مـخـط
وصوّبْ حديثَيْ مائِهـا وهـوائِهـا             فإن أحاديث الصحيحين ما تُخطي
وللآخر في تلسمان مثل هذا:
بلد الجدار ما أمـرّ نـواهـا            كلِفَ الفؤاد بحبها وهواهـا
يا عاذلي في حبها كن عاذري               يكفيك منها ماؤها وهواهـا
ولابن حمديس الصقلي في بلده:
ذكرت صقيلية والأسـى               يهيج للنّفسِ تذكـارهـا
فإن كنتَ أخرجت من جنة            فإني أحدِّثَ أخبـارهـا
ولولا ملوحة ماء البـكـا              حسبت دموعي أنهارها
وللأعرابي:
أقول لصاحبي والعيس تخدي                بنا بين المُنيفةِ فالضـمـار
تمتع من شميم عرّار نـجـد           فما بعد العشيّة من عَـرّار
ألا يا حبَّذا نفـحـات نـجـد             وَرَيّا روضه بعد القِطـار
وأهلك إذ يحلّ الحي نـجـداً           وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعـرنـا         بأنصاف لهـنّ ولا سِـرار
وللآخر في تونس:
لَتونِسُ تونسُ من جـاءهـا           وتودعه لوعة حيث سـار
فيغدو ولو حلَّ أرض العراق         يحن إليها حنين الـحُـوار
ويأمل عوداً ويشتـاقـه اش          تياق الفرزدق عَوْد النَّوار
وللآخر في مدينة فاس:
يا فاس حيا الله أرضك من ثـرى             وسقاك من صوب الغمام المسبل
يا جنة الدنيا التي أربـت عـلـى              عَدْن بمنظرها البهيّ الأجـمـل
غُرَفٌ على غُرَفٍ ويجري تحتها             ماء ألذ من الرحيق السلـسـل
وكثيراً ما يقع الحنين إلى المنازل والبلدان، من أجل من فيها من الإخوان والأخدان، كما قال القائل:
أحب الحِمى من أجل من سكن الحِمى               ومن أجل من فيها تحب المـنـازل

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه38    كن أول من يقيّم

وللشعراء قديماً وحديثاً في هذا ما يحسن ترداده، ويطول إيراده، فمن ذلك لأبي بكر بن حجة الحموي يتشوق إلى بلده قوله:
بوادي حماةِ الشامِ عن أيمن الشـط          وحقك تطوى شُقّة الهمّ بالبسـط
بلاد إذا ما ذقت كـوثـر مـائِهـا               أهيم كأني قد ثمِلْتُ بإسـفِـنْـطِ
فمن يجتهد في أن في الأرض بقعة          تماثلها قل: أنت مجتهد مـخـط
وصوّبْ حديثَيْ مائِهـا وهـوائِهـا             فإن أحاديث الصحيحين ما تُخطي
وللآخر في تلسمان مثل هذا:
بلد الجدار ما أمـرّ نـواهـا            كلِفَ الفؤاد بحبها وهواهـا
يا عاذلي في حبها كن عاذري               يكفيك منها ماؤها وهواهـا
ولابن حمديس الصقلي في بلده:
ذكرت صقيلية والأسـى               يهيج للنّفسِ تذكـارهـا
فإن كنتَ أخرجت من جنة            فإني أحدِّثَ أخبـارهـا
ولولا ملوحة ماء البـكـا              حسبت دموعي أنهارها
وللأعرابي:
أقول لصاحبي والعيس تخدي                بنا بين المُنيفةِ فالضـمـار
تمتع من شميم عرّار نـجـد           فما بعد العشيّة من عَـرّار
ألا يا حبَّذا نفـحـات نـجـد             وَرَيّا روضه بعد القِطـار
وأهلك إذ يحلّ الحي نـجـداً           وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعـرنـا         بأنصاف لهـنّ ولا سِـرار
وللآخر في تونس:
لَتونِسُ تونسُ من جـاءهـا           وتودعه لوعة حيث سـار
فيغدو ولو حلَّ أرض العراق         يحن إليها حنين الـحُـوار
ويأمل عوداً ويشتـاقـه اش          تياق الفرزدق عَوْد النَّوار
وللآخر في مدينة فاس:
يا فاس حيا الله أرضك من ثـرى             وسقاك من صوب الغمام المسبل
يا جنة الدنيا التي أربـت عـلـى              عَدْن بمنظرها البهيّ الأجـمـل
غُرَفٌ على غُرَفٍ ويجري تحتها             ماء ألذ من الرحيق السلـسـل
وكثيراً ما يقع الحنين إلى المنازل والبلدان، من أجل من فيها من الإخوان والأخدان، كما قال القائل:
أحب الحِمى من أجل من سكن الحِمى               ومن أجل من فيها تحب المـنـازل
وقال المجنون:
وما حب الديار شغفن قلبـي          ولكن حب من سكن الديارا
وهي خصوصية في البقعة عارضة من سكانها كالذي في البيت، فإن الميل إليها يقتضي فضلها على غيرها بالنسبة إليه، ومن هذا المعنى أكثر العرَب ذكر الحِمى كقوله:
فإن كان لم يغرّض، فإني وناقتي            بحجر إلى أهل الحِمى غَرِضان
تحنّ فتبدي ما بها مـن صـبـابة              وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
الغرض المشتاق، وكقول الآخر:
وإن الكئيب الفرد من جانب الحِمى          إليَّ وإن لـم آتـهِ لـحـبـيب
وكقول الآخر:
وكنت أذود العين أن ترد البكا               فقد وردت ما كنت أذودهـا
خليليّ ما بالعيش عتب لَو أنّنـا              وحدنا لأيام الحِمى من يعيدها
وكقول الآخر: 
ألا أيها الركب المجِدّون هل لـكـم            بساكن أجزاع الحمى بعدنا خُبْـر؟
فقالوا: قطعنـا ذاك لـيلاً وإن يكـن            به بعض من تهوى فما شعر السَّفْر
وكقول الآخر:
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها            عن الغيّ بعد الشيب أسبلتا معا
فليست عشيات الحمى برواجـع             إليك ولكن خِلّ عينيك تدمعـا
إلى غير ذلك.
ويكثرون أيضاً ذكر كقوله:
شيب أيام الفـراق مـفـارقـي          وأنشزن نفسي فوق حيث تكون
وقد لانَ أيام اللوى ثمَّ لـم يكـد               من العيش شيء بعدهنّ يلـين
وكقول جرير:
لولا مراقبة العيون أرَيْنَـنـا           مُقل المها وسوالف الآرام
هل يَنْهَيَنَك أن قتلنَ مرقشـاً          أو ما فعلن بعروة بن حزام
ذُمَّ المنازل بعدَ منزلةِ اللّوى         والعيشَ بعد أولـئك الأيامِ
إلى غير ذلك.
وأما نجد وهو ما ارتفع من الأرض من بلادهم وأكثر من ذلك كلّه كقوله:
سقى الله نجداً والسلام على نجد             ويا حبذا نجد على النأي والبعد
وقول الآخر:
أشـاقـتـك الـبـــوارق والـــجـــنـــوب         ومـن عـلـوي الـرياح لـهــا هـــبـــوب
أتـتـك بـنـفـحة مـــن شـــيح نـــجـــد         تصـوب والـعـرار بــهـــا مـــشـــوب
وشمت البارقات فقلت: جيدَتْ جبال البتر أو مطر القليب         
ومن بستان إبراهيم غنّت            حمـائم بـينـــهـــا فـــنـــن رطـــيب
فقـلـت لــهـــا: وقـــيتِ ســـهـــامَ رامٍ                ورُقْـط الـريش مـطـعـمـهـا الـجــنـــوب
كمـا هـــيجـــت ذا حُـــزْنٍ غـــريبـــاً          علـى أشـجـانـهِ فـبـكـــى الـــغـــريب
ومـا وجـد أعـرابـية قـــذفـــت بـــهـــا               ..................الأبــــــــــــــــيات
وتقدم شيء من ذلك، وهو كثير، وذلك في الغالب لحسنه في نفسه هواء وماء ومنابت ومسارح، والناس كلهم مجمعون على ذكر ديار الأحباب ومعاهد الشباب، ولا خصوصية للعرب، وإن كان لهم مزيد رقة.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 39    كن أول من يقيّم

لله الأمر من قبل ومن بعد
الأريحية
أنشد في النوادر لمحرز العكلي:
يظلّ فؤادي شاخصاً من مكانـه              لذكر الغواني مستهاماً متيّمـا
إذا قلت مات الشوق مني تنسمت           به أرْيحيّاتُ الهوى فتنسـمـا
وفي البيت فائدة، وهي أن لفظ الأريَحِيّة هو بسكون الراء وفتح الياء، ووقع في شعر المولدين أيضاً ما يوافق ذلك.
مما علق بحفظي من أشعار المعاني عند العرب قول الشاعر:
فجنبت الجيوش أبـا زينـب           وجاد على مسارحك السحاب
يحتمل أن يكون دعاء له بالعافية والخصب، ويحتمل أن يكون دعاء عليه بالإفلاس حتى لا تقصده الجيوش، ثم بالخصب مع ذلك لأنه أوجع لقلبه، حيث يرى الرِّعيْ ولا راعية كما قال الراجز:
أمرعت الأرض لوَانَّ مالا
لو أن نوقاً لك أو جمالا
أو ثلة من غنم أمّا لا
أي إن كنت لا تجد غيرها، وقال الآخر:
ستبكي المخاض الجرب أن مات هيثم              وكلّ البواكي غـيرهـنّ جـمـود
أي إنه كان يستحييها بخلاً، ولا ينحرها للضيفان، فهي تبكي عليه، ولا يبكي عليه أحد من الناس إذ لا خير فيه، وهذا هجو، وقد استعمل الجمود في مجرد عدم البكاء، وكأنه لاحظ فيه المبالغة، فإن الناس لعدم اكتراثهم بالهالك أصبحوا في حقه لا يتصور منهم البكاء ولا انحدار دمع كمثل الأحجار ونحوها، ويستعمل الجمود حيث يراد البكاء ولا تسمح العين بالدموع كقوله:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط                عليك بجاري دمعها لجمود
ولذا عيب قول القائل:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا              وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
ومتى اعتبرنا بالمعنى الأول فلا عيب، وقول الآخر هو توبة بن مضرس بن عبد الله التميمي يلقب الخنوت بوزن السنور:
قتيلان لا تبكي المخاض عليهما             إذا شبعت من قرمل وأفـان
وهذا مدح ضد الأول أي إنهما كانا يهلكانها بالنحر، فإذا ماتا استراحت وشبعت فلم تبك عليهما، والقرمل واحده قرملة، وهي شجرة ضعيفة تنفضح إذا وطئت، ومنه قولهم في المثل إذا التجأ الضعيف إلى مثله: ضعيف عاذ بقرملة، والأفاني واحده فانية، وهي شجرة أخرى، وقول الآخر، وهو حميد بن ثور:
ولقد نظرت إلى أغز مشهر          بِكْرٍ توَسَّن بالخميلة عُونـا
متسنم سنماتها مُتبَـجّـسٍ            بالهدر يملأ أنفساً وعيونـا
لقح العجاف له لسابع سبعةٍ         وشَرِبْنَ بعدَ تَحَلُّؤٍ فروينـا
 يصف السحاب وفعله وانتفاع الأرض به على طريق التّمثيل، فقوله: أغر أي سحاب فيه برق "أو" أبيض، وقوله: بكر أي لم يمطر قبل ذلك، وقوله: توسن بالخميلة عوناً أي طرقها ليلاً وقت الوسن أي النعاس، والخميلة رملة لينة ذات شجر، والعون جمع عوان، وهي في النساء التي كان لها زوج، وهنا هي الأرض التي أصابها المطر قبل، على التشبيه، وقوله: متسنم سنماتها أي طالع على الأكام والتلال، وأصله في الجمل يتسنم الناقة أي يعلو عليها، وهي سَنمة أي عظيمة السنام، مرتفعته، قوله: متبجس أي متكبر، بالهدر أي رعده يملأ أنفساً وعيوناً عجباً به أو رعباً منه، قوله: لقح العجاف أي الأرضون المجدبة حملت به الماء فأنبتت العشب، وذلك بعد تحلُّؤٍ أي امتناع من السقي لعدم المطر، فهذا كله تمثيل، وقول الآخر:
حلوا عن الناقة الحمراء أرحـلـكـم           والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إن الذئاب قد اخضرت بـراثـنـهـا             والناس كلهم بـكـر إذا شـبـعـوا
أراد بالناقة الحمراء الدهناء، وبالجمل الأصهب الصمان، كأنه يقول: ارتحلوا عن السهل والجؤوا إلى الجبال مخافة الغارات، والقائل كان أسيراً فكتب إلى قومه ينذرهم، وكانت بكر لهم عدواً فهو يقول: الناس كلهم إذا شبعوا أعداء لكم كبكر حذروهم، وهذا المعنى مذكور في قصة أخرى: يحكى أن رجلاً من بني العنبر كان أسيراً في بكر بن وائل، فسألهم رسولاً إلى قومه فقالوا له: لا ترسل إلاّ بحضرتنا، وكانوا أزمعوا غزو قومه، فتخوفوا أن ينذرهم، وذلك هو ما أراد هو أيضاً، فأتوه بعبد أسود فقال له: أبلغ قومي التحية وقل لهم: ليكرموا فلان، يعني أسيراً من بكر كان عندهم، فإن قومه لي مكرمون، وقل لهم إن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء. وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيساً، واسألوا الحارث عن خبري، فلما أبلغهم العبد الرسالة قالوا: جُنّ الأعورُ، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملاً أصهب، ثم سرّحوا العبد ودعوا الحارث فحدثوه بالحديث فقال: قد أنذركم، أما قوله: العرفج قد أدبى فكناية عن الرجال وأنهم استلأموا أي لبسوا الدروع للغزو، وقوله: شكت النساء أي اتخذن الشكاء للسفر، وهي جمع شكوة، معروفة، والحيس أراد به الأخلاط من الناس المجتمعون للغزو، لأن الحَيْسَ يجمع الأقِطَ والسمن والتمر.

17 - فبراير - 2008
محاضرات العالم العلامة الحبر البحر الفهامة ( اليوسي) رحمة الله عليه وعلى أبويه 1
 50  51  52  53  54