البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات عبدالرؤوف النويهى الحرية أولا وأخيرا

 49  50  51  52  53 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
الخوف من الحرية.....(1)    كن أول من يقيّم

الخوف من الحرية*
 
جاد الكريم الجباعي
"في عام 1942 كان هتلر في القمة ... بذروته السادية – المازوخية، وكانت لذته في القوة والهيمنة هرباً من العجز واللاجدوى؛ ... وكانت الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى مطحونة من جهة، ومتطلعة من جهة أخرى، فهربت من عجزها إلى هتلر ... واليوم ليس هنالك هتلر، ولكن هل زالت الهتلرية، وهل زال الهروب من العجز واللاجدوى إلى السلطة المجهولة المعالم?[1]. بهذه الكلمات، (مع بعض تصرف)، قدم مجاهد عبد المنعم مجاهد لكتاب أريك فروم "الخوف من الحرية" الذي اقتبست عنوانه عنواناً لهذا الفصل. وقد غدت الهتلرية عَلَماً على نموذج لنظام سياسي يطلق عليه اسم النظام التوتاليتاري، الشمولي، أو التسلطي. ولعل النظام التسلطي ألصق بنموذج دولة الحزب الواحد أو الحزب القائد في العالم العربي.
الخوف من الحرية عندنا اليوم هو هروب من الحرية، التي انفتحت مسالكها في مرحلة نزع الاستعمار وتصفية الإقطاع مادياً فقط، وبداية تحلل البنى والعلاقات ما قبل الوطنية، إلى سلطة شمولية، هي سلطة الحزب الشمولي، ثم سلطة الدولة الشمولية، والتنظيمات "الرديفة" أو الأطر، التي أقامها الحزب الشمولي، والتي أقامتها السلطة الشمولية. أساس هذا الهروب هو حاجة الإنسان، الفرد، إلى الانتماء وحاجته إلى أن يؤسس نفسه في العالم وخوفه من العزلة والضياع. فإن بداية تحلل البنى والعلاقات ما قبل الوطنية، التي كانت ملجأ الفرد وملاذه والحبل السري الذي يربطه بالعالم، وضعت الفرد عندنا أمام مفترق: إما أن يمضي قدماً في طريق الحرية ويتحمل تبعاتها، ويعيد تعريف ذاته كائناً إنسانياً حراً وفريداً يتحمل مسؤولية أفكاره وأعماله، وإما أن يبحث عن ملجأ وملاذ، ولو كان وهمياً، يجنبه ما يفرضه مطلب الحرية من مكابدة ومعاناة، فكان انتماء معظم النخبة، في بداية الأمر، إلى الحزب الأيديولوجي الشمولي، ثم انتماء كتلة المجتمع، التي قادتها النخبة، إلى السلطة الشمولية، منذ نهاية خمسينات  القرن الماضي تعبيراً عن هذا الهروب. وقد تمخض ذلك عن انتماء سلبي، هو انتماء تبعية وخضوع وإذعان، إلى أي من هذه الأطر، التي تنتج الطمع والخوف. فكان من ثم ضرباً من نكوص إلى غريزة بدائية في الإنسان. لذلك رأينا سائر التنظيمات الشمولية تقوم على استثارة الغرائز وإثارتها، فتنتج ما يسمى "الحالة القطيعية" التي تجسدها الظاهرة الجماهيرية الفاشية في مختلف البلدان العربية، ولا سيما تلك التي ابتليت بحكم الحزب الواحد أو الحزب القائد من تلك الأحزاب الأيديولوجية ذاتها.
ولعل الباعث على تحرير هذا الفصل وإضافته إلى الكتاب، بعد أن ظننت أنه شارف على الانتهاء، هو إلقاء بعض الضوء على ظاهرات الخضوع والإذعان والعزوف عن الشأن العام والتماهي بالمستبد التي شهدتها بلادنا، منذ أكثر من أربعة عقود، ومن أبرز تجلياتها الانضواء في تنظيمات السلطة التوتاليتارية، ولا سيما في الحزب الحاكم، خوفاً من الحرية وهرباً من تحمل تبعاتها، وعبادة الفرد، القائد الفذ والزعيم الملهم، ومقايضة الحرية والكرامة الإنسانية بأمن وهمي وببعض مكاسب لا ضمانة لها. والتي أدت إلى انحلال عرى العقد الاجتماعي، منذ أخذت الدولة تتحول من دولة وطنية ذات ملامح ليبرالية هي جنين دولة المجتمع، إلى دولة تسلطية قتلت جنين المجتمع المدني الذي كان آخذاً في التشكل والنمو، وامتصت قوة المجتمع الأهلي وهمشته وأمعنت في تفكيكه وتفتيته، وبسطت سيطرتها المتوحشة على جميع مجالات حياته، حتى بدا أنه ليس هناك سوى مجال واحد، هو مجال السلطة. ومن ثم فإن سلسلة العمليات القسرية التي قتلت جنين المجتمع المدني، يمكن أن تشير، ولو بالسلب، إلى حقيقة أن السلطات التي قتلت جنين المجتمع المدني إنما قتلت الدولة الوطنية. وقد حرصت على إبراز العلاقة الضرورية منطقياً وتاريخياً بين المجتمع المدني والدولة الوطنية، وتعرية الخطاب التدليسي الذي يجمع بين الجهل والرياء أو يصدر عن أحدهما، فيضع المجتمع المدني في معارضة الدولة الوطنية، أويضع الدولة الوطنية القائمة، بحسب افتراضه، في معارضة المجتمع المدني.
وما زلت أعتقد أن تحت كل مستوى فكري مستوى نفسي أو روحي، وأن العوامل الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تحدد علاقات الفرد، وتوجه سلوكه هذه الوجهة أو تلك، لا تنفصل عن العوامل النفسية؛ ووجدت في بحوث فروم ما يعين على تفسير ظاهرة خضوع كتلة المجتمع خضوعاً غير مسبوق للسلطات الشمولية، أو للاستبداد المحدث، ويلقي ضوءاً على وظيفة الأيديولوجية المتضامنة مع الاحتكار والقمع والإرهاب في الدول الشمولية، هذه الوظيفة التي يمكن تلخيصها بإنتاج الخوف من الحرية، لدى الفئات الوسطى التي لا تزال تؤلف أكثرية الشعب عندنا. الفئات الوسطى في الوطن العربي حملت مشروع النهوض القومي، وكانت من أشد أنصار الحرية، على صعيد الشعار السياسي، ثم صارت من ألد أعدائها؛ ولذلك لم تحتف بلادنا بالحرية إلا في يوم دفنها.
انطلق أريك فروم في دراسة التفاعل بين العوامل النفسية والعوامل الاجتماعية التي يُستدل بها على الحرية من فرضية تقول: "إن الذاتية الأساسية للعملية الاجتماعية هي الفرد ورغباته ومخاوفه وأهواؤه وعقله ونزعاته نحو الخير والشر. وإذا أردنا أن نفهم ديناميات العملية الاجتماعية علينا أن نفهم ديناميات العمليات السيكولوجية العاملة داخل الفرد، على نحو ما إذا أردنا أن نفهم الفرد فإنه يتوجب علينا أن نراه في سياق الحضارة التي تشكله"[2]. وفي ضوء هذه الفرضية وضع أطروحته التي تقول: "إن الإنسان الحديث الذي تحرر من قيود المجتمع السابق على المرحلة الفردانية، ذلك المجتمع الذي أعطاه الأمان وحدده، لم يحرز الحرية، بالمعنى الإيجابي الخاص بتحقق ذاته الفردية، والتعبير عن إمكاناته العقلية والانفعالية والحسية. ومع أن الحرية قد جلبت له الاستقلال، فإن العقلانية قد عزلته وجعلته من ثم قلقاً وعاجزاً؛ وهذه العزلة شيء لا يطاق؛ والبدائل التي أمامه هي إما الهرب من حمل الحرية إلى تبعيات جديدة وخضوع جديد، أو التقدم إلى التحقق الكامل للحرية الإيجابية القائمة على تفرُّدية الإنسان وفرديته". ولعل القارئ العربي الذي قد يبادر إلى القول إن أطروحة فروم خاصة بالمجتمعات الغربية الحديثة التي توفرت على شيء من الحرية وشيء من العقلانية على تناسب بينهما في النوع والدرجة، يتنبه إلى أن جذر الأطروحة أو الإشكالية يكمن في مصائر الفئات أو الطبقات الوسطى التي تحررت من ربقة المجتمع التقليدي لتجد نفسها في فضاء اجتماعي فسيح وغريب لا يوفر لها الحماية والأمن اللذين كان يوفرهما المجتمع التقليدي فهربت من الحرية والعقلانية والفردانية إلى السلطة حيث التبعية والخضوع، وأعادت بناءها على تلك الصورة "الهتلرية"، فأنتجت التسلط والشمولية. ولعل القارئ العربي يقر بمشروعية السؤال: لم أشاحت الفئات الوسطى عندنا عن الليبرالية، وقطعت جميع الروابط والصلات التي كان يفترض أن تصلها بفكر النهضة والتنوير، وبتجارب الإصلاح الديني خاصة? ولم كانت المرحلة الليبرالية قصيرة قصراً لافتاً  في بلادنا? فإذا كان السؤال مشروعاً فإن الإشكالية تخص المجتمعات العربية بقدر ما تخص المجتمعات الغربية. فلا تزال المسألة في بلادنا، كما كانت في البلدان المتقدمة، مسألة تيارين: تيار استكمال الحرية والاستعداد لتحمل تبعاتها، وتيار الخوف من الحرية، الذي شكل الأساس النفسي والأخلاقي للسلطات الشمولية.
فقد انشغل الفكر العربي المعاصر، بوجه عام، والفكر السياسي، بوجه خاص، عن قضية الحرية بقضية (التحرر من): التحرر من الاستعمار ومن الهيمنة الإمبريالية، ومن الاحتلال الاستيطاني الصهيوني ومن السيطرة الطبقية؛ وعلق قضية الحرية، ولا سيما حرية الفرد وحقوق الإنسان على إنجاز معركة التحرر[3] القومي. ولا يخفى ما كان من أثر لهذا الانشغال في تعزيز فكرة "الخصوصية" التي تكاد تكون السمة الأبرز لفكرنا المعاصر لولا بعض الاستثناءات التي لا تزال على هامش الفكر السياسي. ولذلك عجز الفكر العربي المعاصر، ولا يزال عاجزاً عن الارتقاء إلى الكلية الكونية. ولا تزال الحرية، في نظره، هي "خطيئة الإنسان الأصلية" التي ينبغي التكفير عنها. ولا يزال التكفير، بكل المعاني، شغلنا الشاغل؛ ولذلك لم نتحرر من، ولم نعرف الحرية. وقد تحولت النزعة القومية إلى موقف نرجسي مرضوض ومريض بالفصام، وتحولت الحركة القومية من ثم إلى حركة توتاليتارية، "جماهيرية" قادت شعوب الأمة العربية إلى ما هي فيه اليوم من فقر وبؤس ومهانة وذل وعبودية لأنظمة حكم تسلطية هي الاحتكار والعسف والحقارة والنذالة والوغدنة وما شئت من هذه الصفات وقد صارت أنظمة حكم.
ثمة فارق نوعي بين الحرية والتحرر من، ولعل مفهوم الحرية الإيجابية الذي يستعمله فروم يعين على تحديد هذا الفارق، فالتحرر السياسي كان ولا يزال يعني الاستقلال الوطني إزاء الخارج، أو التحرر من الاستعمار، أو من التبعية والهيمنة الخارجية، وهو ما عبرت عنه الثورات الوطنية في بلادنا. والتحرر الاجتماعي، الذي لا تزال الثورة البورجوازية في غربي أوربة وشماليها أنموذجه الكلاسيكي، كان يعني إلغاء امتيازات النبلاء والتحرر من قيود النظام الإقطاعي. أما الحرية فلا تزال هدفاً تسعى البشرية إليه، بما فيها المجتمعات والأمم المتقدمة، على الرغم من الإنجاز الذي حققته هذه الأمم والمجتمعات على هذا الصعيد، وهذا الإنجاز هو المستقبل الذي تتطلع إليه المجتمعات المتأخرة. وليس من ضير في أن يكون ماضي الأمم المتقدمة هو مستقبل الأمم المتأخرة، من دون أن يساورنا أي وهم في إمكان استنساخ هذا النموذج، أو أي من تجاربه.
استقلت الأقطار العربية أو تحررت تباعاً من الاستعمار المباشر، وقام بعضها بتحقيق "إصلاح زراعي" نَزَعَ من الإقطاعيين سلاحهم المادي فقط، وخبر بعضها شيئاً من الليبرالية سمح بنمو الدولة "الحديثة"، دولة القانون، التي أرسيت أسسها في المرحلة الكولونيالية. وما لبث ذلك النمو التدريجي أن انقطع، وقامت في أكثر من مكان "ثورات قومية واشتراكية" انتهت جميعها إلى كوارث ليس آخرها سقوط بغداد (9/4/2003). ومن البديهي أن تطرح هذه النهاية المأساوية أسئلة كثيرة على الذهن العربي، حاولت أن أطرح بعضها في هذا الكتاب.
وما من شك في أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية محلية وعالمية أدت إلى تحول هذه الدولة الحديثة العهد إلى دولة تسلطية، ولكن وراء هذه العوامل مشكلة إنسانية جعلت النظام السياسي الذي لم يكن يستجيب، في الجوهر، للقوى العقلانية يولد الخضوع الأعمى بصفته رغبة غريزية. فإن نظاماً لا يستجيب سوى للقوى الغريزية لا بد أن يولد أو لأن يبعث في الأفراد والجماعات قوى غريزية أقلها الخضوع، وأكثرها وحشية "القتل على الهوية"، ناهيك عن السلب والتدمير. وإذا علمنا أن الخوف والقلق والعجز كانت في أساس الإيمان الديني الذي نميزه من الإيمان العقلي، يمكننا أن نفهم لماذا تتجلبب القوى المتسلطة بجلباب الدين أو الأيديولوجية المرفوعة إلى منزلة الدين، فتجعل من المتسلط شيئاً أقرب إلى كائن خرافي كإله إسرائيل، ومن المحكوم عبداً خانعاً وعاجزاً ومتواكلاً لا يحسن سوى الطاعة والامتثال.
فحين تقاتل طبقة من الطبقات من أجل تحررها من السيطرة تعتقد بأنها تقاتل من أجل المجتمع كله، أو تدعي ذلك على الأقل، بل تدعي أنها تقاتل من أجل الحرية الإنسانية، بوصفها حرية إنسانية، ومن ثم تكون قادرة على الاستجابة لمثال الحرية، أو لشوق للحرية مزروع في جميع المضطهدين. بيد أن الطبقات التي قاتلت ضد الاضطهاد في مرحلة من المراحل، راحت تتآزر مع أعداء الحرية، بعد أن أحرزت النصر، وباتت ذات امتيازات جديدة تقتضي الدفاع عنها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التاريخ لم يحكم لمصلحة تصور كارل ماركس القائل إن تحرر الطبقة العاملة يؤدي بالضرورة إلى تحرر المجتمع كله. وهو ما يستدعي مرة أخرى نقد أفلاطون وغيره قديماً وحديثاً لـ "الدولة الشعبية"، واستطراداً للديمقراطية الشعبية السيئة الصيت. ومع ذلك فإن للمراحل التي مهدت للثورات الاجتماعية الكبرى في التاريخ قيمة عظيمة، ففيها أُنتجت الأفكار والمبادئ والمناهج ذات الطابع الكوني العام التي ما زالت البشرية تعيد إنتاجها وفق شروط حياتها الجديدة. أشير، على سبيل المثال، إلى عصر النهضة والإصلاح والتنوير الذي مهد للثورة الديمقراطية البورجوازية التي طبعت العالم بطابعها. وأشير مرة أخرى إلى أهمية الطابع الكوني لفكر النهضة والتنوير وثقافتهما، وإلى أن الطابع الكوني للفكر والثقافة شرط ضروري من شروط النهضة التي ننشد.
رفعت الفئات الوسطى في الوطن العربي شعار الحرية، وقاتلت في سبيل التحرر من السيطرة، ولكنها ما لبثت أن تحولت إلى ألد أعداء الحرية، وهذا التحول هو ما يحتاج إلى مزيد من البحث والتقصي للكشف عن الأسباب والعوامل التي أدت إليه، ولا سيما الإنسانية منها. وأعتقد أن دراسة التجارب الفاشية والنازية وتجربة الدولة الشمولية في الاتحاد السوفييتي السابق، وفي الدول التي كانت تدور في فلكه يمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة، ولا سيما أن هذه التجارب جميعاً كانت ذات نزعة "اشتراكية وطنية". ولعل "الاختراق الإمبريالي للوطن العربي"[4] قد جعل من مشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية نوعاً من صدى لهذه المشكلات ذاتها في المراكز الإمبريالية، وما زلت أعتقد أن مشكلات النظام الرأسمالي العالمي وأزماته وعيوبه واختلالاته تظهر في أطراف النظام وهوامشه على نحو أشد وطأة وأكثر كارثية مما تكون عليه في المركز. ومن ثم فإن الدولة التسلطية عندنا فرع من ظاهرة عالمية. "فالثورات الديمقراطية الحديثة التي بدا معها العالم متألقاً وآمناً، وبدا أن الحروب وويلاتها باتت من مخلفات العصور القديمة المظلمة، وأن الإنسان لم يعد يحتاج سوى إلى حرب واحدة أخيرة على الحرب، كما يقول أريك فروم، وأن الأزمات الاقتصادية غدت نوعاً من حوادث عرضية يمكن التغلب عليها بوسائل سلمية، وإن كانت لا تزال تتكرر بانتظام معين، الثورات الديمقراطية الحديثة لم تف بوعودها، ولا سيما على صعيد الحرية؛ فما زالت الحرب هي الحرب، وانفجرت "الهتلرية" مرضاً خبيثاً في القومية الحديثة، وفي الاشتراكية الوطنية أو القومية، ولا فرق؛ وما زالت العلاقات الدولية والعلاقات الاجتماعية في كل دولة على حدة يحددها منطق القوة والغلبة، لا الإرادة الإنسانية الحرة. والسبب الرئيس في ذلك هو التعارض المقيم بين عمومية الدولة والمجتمع وكليتهما وخصوصية الطبقة التي تملك الثروة ووسائل الإنتاج وتسيطر على السلطة التي ليست بعد سوى سلطة الملكية الخاصة، أو سلطة القوة والقسر والإكراه، على تفاوت بين المجتمعات والدول. والسبب الآخر الذي لا يقل أهمية هو التهميش المطرد لقوى المجتمع المدني، في غير مكان من العالم، وتحول الشعب إلى نوع من "شعب الدولة" بدلاً من أن تكون الدولة دولة الشعب. لذلك بات من العبث أن نبحث عن إمكانات تحقق الحرية سوى في العلاقة بين الفرد من جهة وبين المجتمع والدولة من جهة أخرى. فإن "أشد التضمينات جمالاً وأكثرها قبحاً في الإنسان ليست جزءاً من طبيعة إنسانية معطاة بيولوجياً على نحو ثابت، بل هي نتيجة العملية الاجتماعية التي تشكِّل الإنسان"[5]. ولكن المجتمع والدولة هما الإنسان ذاته وقد غداً مموضعاً في العالم وفي التاريخ؛ ومن ثم فإن مشكلة الحرية تكمن هنا: في العلاقة بين الفرد الذي ينتج ذاته في المجتمع والدولة على أنهما عالمه، وبين المجتمع والدولة اللذين يشكِّلان الفرد ويقيدان حريته إلى هذا الحد أو ذاك. هذه العملية الجدلية التي لا تنقطع هي التي جعلت للإنسان تاريخاً، بل جعلت من التاريخ كله تاريخ الإنسان. ومن ثم فإن الإنسان ابن تاريخه الخاص وصانع تاريخه، وإن الفرد ابن المجتمع والدولة اللذين ينتمي إليهما، وأبوهما في الوقت نفسه. وإذا سأل سائل عن الأم، فهي الطبيعة.

27 - مارس - 2007
الحرية
الخوف من الحرية ...(2)    كن أول من يقيّم

ثمة، من البداية، حاجة ملازمة للإنسان، ومشتركة بين جميع أفراد النوع، ينبغي إشباعها في جميع الأحوال، هي الحاجة إلى الحفاظ على الذات، أو الحاجة إلى حفظ النوع، التي تشكل الدوافع الأولى للسلوك الإنساني. ومقولة السلوك لا تستبعد مقولة الوعي، بل تفرضها. بيد أن هناك حاجات أخرى تتصل بقطاعات أخرى من النفس الإنسانية أكثر طواعية وقدرة على التكيف، كالحاجة إلى الانتماء، تختلف من شخص إلى آخر، وترتبط بأنواع العمل المختلفة التي يتطلب كل منها معالم مختلفة للشخصية، ويشكل أنواعاً مختلفة من العلاقات. ولذلك فإن نمط الحياة الاجتماعية يغدو العامل الأول في تحديد شخصية الفرد الكلية، إذ تتكيف شخصيته مع هذا النمط الذي يصادفه من الطفولة في الأسرة التي "تمثل جميع الملامح والخصائص النمطية لمجتمع معين أو لطبقة معينة"[6]، وذلك بحكم حاجته الملحة للحفاظ على ذاته. وهذا لا يعني أن الفرد محكوم كلياً بهذا النوع من التكيف السلبي، بل بوسعه أن يعمل مع الآخرين في سبيل تحسين شروط حياته، وإحداث تغييرات اقتصادية أو سياسية معينة في مجتمعه.
ولا يستنفد الإنسان في الدوافع والخصائص التي تولدها الحاجة إلى الحفاظ على الذات؛ بل إن خصائصه النوعية تتجلى في الحاجة إلى التعلق بالعالم خارج النفس، الحاجة إلى تجنب الوحدة والعزلة اللتين تفضيان إلى الموت. الوحدة التي يعالجها فروم[7] ليست الوحدة الفيزيائية، بل الوحدة الخلقية، أي التعلق بالقيم والرموز والأنماط، وهذه الوحدة الخلقية لا يمكن احتمالها، شأنها في ذلك شأن الوحدة الفيزيائية، بل إن الوحدة الفيزيائية يمكن احتمالها إذا تضمنت الوحدة الخلقية؛ فالتعلق الروحي بالعالم يمكن أن يتخذ أشكالاً عدة: منها حالة الكاهن في صومعته، والسجين السياسي في زنزانته الانفرادية. وإن وعي الفرد بذاته يجعل الحاجة إلى الانتماء أكثر عمقاً وأشد ضغطاً على وجدانه، لأن الانتماء إلى قيم ورموز معينة أو إلى نمط معين هو ما يمنح حياة الفرد معنى واتجاهاً.
وبرغم الحاجة إلى الانتماء، وإلى ملجأ وملاذ، ثمة نزوع الفرد إلى الاستقلال والحرية وإلى التعبير عن شخصيته المميزة، وإلى أن يعطي لحياته معنى آخر واتجاهاً آخر غير اللذين حددتهما روابطه الأولية، وإلى أن يكون هو هو، لا ما يمليه عليه النمط الذي ينتمي إليه. وكل نمط أو نسق هو جملة من القوى الجاذبة التي تشد الفرد إلى الدوران في فلكه. وفي كل فرد نزوع أصيل إلى الحرية هو أشبه بالقوة النابذة التي تدفعه بعيداً كي يدور حول شمسه الخاصة. وهذا التعارض هو الذي يجعل الفرد ميالاً إما إلى الخضوع والامتثال، وإما إلى تحقيق استقلاله وحريته الإيجابية. والحرية الإيجابية هي التي تميز الوجود الإنساني، ويتغير معناها بحسب درجة وعي الإنسان وتصوره لنفسه كائناً مستقلاً ومنفصلاً[8].
وما لم يقطع الفرد الحبل السري الذي يربطه بالعالم الخارجي، أي بالنمط الاجتماعي الذي ينتمي إليه، كما فعل الإنسان حين قطع الحبل السري الذي كان يربطة بالطبيعة، يظل في حالة التبعية والانقياد والخضوع، مع أن هذا النمط، والحديث هنا عن النمط التقليدي الذي لا تعدو الروابط الاجتماعية فيه كونها "روابط أولية"، أسرية وعشائرية ومذهبية ومحلوية، يمنحه الأمان وشعوراً ما بالانتماء، وبأنه مؤسس في مكان ما. وإذا فعل، أي إذا تحرر من الروابط الأولية التي لا تعترف بفرديته واستقلال شخصيته يغدو أمام "مهمة جديدة هي أن يوجه نفسه ويغرسها في العالم، وأن يجد الأمان بطرق أخرى غير تلك التي كانت تميز وجوده السابق على الفردانية"؛ ويغدو للحرية معنى مختلفاً عن ذاك الذي كان لها قبل بلوغ هذه المرحلة[9].
أشرنا إلى اقتران الحرية بالوعي، لا وعي الضرورة فحسب، بل وعي الذات أساساً؛ فإن بزوغ الإنسان من الوحدة المباشرة والسلبية مع الطبيعة، ومع الأفراد الآخرين وصيرورته "فرداً" مستقلاً يدفعان به إلى إعادة إنتاج هذه الوحدة مع عالمه، الطبيعي والاجتماعي، من موقع الاستقلال والتفرد، بتوسط الحب والعمل المنتج والخلاق، وبالسعي إلى الاكتمال بالآخر، فتغدو وحدته مع العالم وحدة موَّسطة وإيجابية تتضمن عنصر الاختيار. إن نمو الفردية هو في الوقت ذاته نمو الوعي والاهتداء بأحكام العقل والانفتاح على الثقافات العالمية من جهة، ونمو الشعور بالوحدة والعزلة من جهة أخرى. وفي الوقت الذي تجري فيه عملية الاصطباغ بالصبغة الفردية على نحو آلي يتعرقل نمو الوعي، لأسباب فردية واجتماعية، وتؤدي الهوة بين هذين التيارين إلى شعور لا يطاق بالعزلة والعجز. ولا سيما أن الوعي التقليدي بوجه عام، والعقائد الدينية ذات الجذر الأسطوري بوجه خاص، لا ترى في الحرية سوى "خطيئة الإنسان الأولى" التي جرت عليه ضروب المكابدة والمعاناة. والحرية هي المعرفة، معرفة الخير والشر، بحسب هذه العقائد أيضاً. المجتمع التقليدي لا يحرم الفرد من حريته؛ لأن الفرد لم يوجد بعد، ولأن وعي الفرد بذاتيته واستقلاله لم ينمُ بعد. وقد وصف يعقوب بوركهارت هذه الحالة بقوله: "في العصور الوسطى كان كلا جانبي الوعي الإنساني، الذي كان يرتد إلى الداخل، وذاك الذي كان يلتفت إلى الخارج، مستلقيين في حالة حلم، أو في حالة نصف وعي، تحت نقاب مشترك. لقد كان هذا النقاب منسوجاً من الإيمان والوهم والتحيز الطفولي، وكان العالم والتاريخ ينظران إليهما من خلال هذا النقاب مكسوين بألوان غريبة. لم يكن الإنسان يدرك نفسه إلا كعضو في جنس بشري أو في قوم أو في حزب أو في أسرة أو في اتحاد، لم يكن يدرك نفسه  إلا من خلال مقولة عامة (10)

27 - مارس - 2007
الحرية
الخوف من الحرية ...(3)    كن أول من يقيّم

حررت الرأسمالية الفرد من النمط الإقطاعي الذي لم يكن يعترف بفرديته، وأتاحت له أن يقف على قدميه ويجرب حظه، فصار سيد قدره، وقدره هو المخاطرة والربح؛ فالجهد الفردي يمكن أن يفضي به إلى النجاح والاستقلال الاقتصادي؛ وألقت هذه الحرية السلبية بكتل بشرية كبرى في خضم السوق التي تقوم على مبدأ ربح أكثر وتكلفة أقل، تحت الشعار الليبرالي الشهير: دعه يعمل دعه يمر. وما لبثت الرأسمالية حتى تحولت إلى نمط عالمي، لا بفعل قوانين السوق ويدها الخفية فحسب، بل بفعل النشاط الاستعماري للدول القومية المرسملة، والحروب التي خاضتها هذه الدول فيما بينها ومع الدول الضعيفة النمو، وبفعل الاحتكارات الكبرى التي تطبع عالم اليوم بطابعها، وانقسم العالم إلى مركز وأطراف تدور في فلك المركز، وتتكثف فيها تناقضات النظام الرأسمالي العالمي وعيوبه الأصلية وأزماته، وتتردد فيه، مع ذلك أصداء الحرية، جنباً إلى جنب مع تشييء الإنسان أو تسليعه (من السلعة) ومع تتجير (من التجارة) العلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ وبموازاة "صنمية السلعة" نشأت "صنمية السلطة"، وبلغ اغتراب الإنسان عن ناتج عمله وعن عالمه وعن ذاته ذروة لم يعد ممكناً معها سوى الكفاح من أجل حذف الاغتراب، وقيام البشرية العاقلة بشن حرب أخيرة على الحرب التي كانت ولا تزال تحدد العلاقات الدولية والعلاقات الاجتماعية والسياسية في كل دولة على حدة.
النمط الرأسمالي الحديث حرر الفرد من الروابط الأولية التي كانت توفر له الحماية والأمن وتمنح حياته معنى واتجاهاً، وألقى به في خضم عالم فسيح وغريب قوامه التنافس والتنازع والصراع، فملأه شعور بالوحدة والعزلة والقلق والشك والعجز والحنين إلى "الفردوس المفقود"؛ ولكنه منحه حرية اختيار مهنته وحرية الفكر والرأي والعقيدة، وبات عليه أن يحقق حريته الإيجابية مع الآخرين. ولكن معنى الحرية وأساليب ممارستها أو الهروب منها تختلف بحسب انتماء الفرد إلى إحدى فئات المجتمع أو طبقاته الدنيا أو الوسطى أو العليا في الهرم الاجتماعي الذي بات تقسيمه الطبقي صارماً ونهائياً إلى حد كبير. وإذا كانت الحرية الإيجابية لا تزال مقصورة على أفراد الطبقة العليا المالكة للثروة والسلطة ووسائل الإنتاج، فإن الحرية السلبية (التحرر من) هي ما حصلت عليه الطبقات الأخرى، فغدا معنى الحرية لدى الطبقات الدنيا، ولا سيما الطبقة العاملة، هو العمل في سبيل تغيير النظام القائم، أما الطبقة الوسطى، وهي أكثرية المجتمع، فهي التي تتجلى فيها تناقضات النظام، إذ تميل إلى المحافظة على النظام القائم من جهة، وتحتج على التفاوت الاجتماعي الذي ينمو باطراد من جهة أخرى، ولذلك تتكثف لديها مظاهر الخوف من الحرية والهروب منها.
الرأسمالية، في المركز والأطراف، وضعت الفرد الذي حررته من الروابط الأولية إلى غير رجعة، إذ بات من غير الممكن استعادة تلك الروابط إلا بصورة وهمية، وضعته أمام أحد خيارين: إما التقدم نحو الحرية الإيجابية والتصالح مع العالم ومع نفسه، بالحب والعمل والإبداع، والتعبير الأصيل عن قدراته العاطفية والحسية والعقلية، وإما الهروب من الحرية إلى التبعية والخضوع. ويتناسب هذان الخياران مع تيارين متناقضين في النظام الرأسمالي ذاته، التيار الديمقراطي والتيار الفاشي أو الهتلري، على اختلاف تفريعاته ومظاهره. وإن كان عالم الأطراف والهوامش أكثر عرضة للتسلط والاستبداد والدكتاتورية. وهذان التياران كلاهما متجذران ومؤثلان في النظام الرأسمالي العالمي، في مركزه وأطرافه على السواء؛ إذ يقترن أولهما بالتناقس، ويقترن الثاني بالاحتكار، والتنافس والاحتكار تياران أساسيان في النظام الرأسمالي العالمي. وإذا كان التيار الهتلري نوعاً من مرض خبيث يصيب القومية، أعني التعصب والاستعلاء القوميين، والشعور الوهمي بالتفوق القومي أو العرقي، فإنه لا يستنفد في هذه الصفة التي ترجع هي ذاتها إلى عوامل اجتماعية اقتصادية وسياسية وثقافية تتعلق بالفئات الوسطى بصورة أساسية، وبالحالة "الجماهيرية" التي تنتجها هذه الفئات التي تجلت لديها النزعات التسلطية والتدميرية والنمطية الآلية، في غير مكان من عالمنا المعاصر.

27 - مارس - 2007
الحرية
الخوف من الحرية ...(4)    كن أول من يقيّم

تحت كل مستوى فكري سياسي ثمة مستوى نفسي / روحي وأخلاقي، هذان المستويان يختلفان في المجتمعات الديمقراطية عنها في المجتمعات التي تعاني من نزعات تسلطية، ويختلفان أيضاً لدى الطبقات التي تتوفر على مستوى ما من الحرية الإيجابية، عنها لدى الطبقات الأخرى التي لم تتمتع بعد بهذه الحرية، ولا تزال في مستوى معين من مستويات الحرية السلبية، أو "التحرر من ..."، كالتحرر من الاستعمار المباشر أو من النظام الإقطاعي إلى هذه الدرجة أو تلك.
والنزعة التسلطية، على الصعيد النفسي لدى الفرد والجماعة، وعلى الصعيد الحضاري العام، ترجع إلى الخوف من الحرية والهروب منها. والخوف من الحرية والهروب منها تعبيران عن الرغبات المازوخية والسادية التي تساور جميع الأفراد، ولا سيما في الدول الشمولية والتسلطية، بدرجات متفاوتة لدى الأسوياء، وتبلغ لدى المرضى حالة العصاب. وأبرز مظاهرها التخلي عن استقلال الذات الفردية ودمجها في شخص آخر أو في حزب شمولي أو حركة توتاليتارية، أي في سلطة ما، وخضوعها خضوعاً مطلقاً لهذه السلطة، حتى لتبدو هذ السلطة قوام الذات وكيانها وماهيتها. وأساس هذه النزعة هو الهروب من العجز الفعلي إلى القوة الوهمية، ومحاولة فرض الأوهام الذاتية على الواقع الموضوعي. ووجها هذه العملية المتناقضان والمتكاملان هما الرغبة في الهيمنة والرغبة في الخضوع.
الرغبة في الهيمنة والرغبة في الخضوع تسمان العلاقات الاجتماعية والسياسية في النظام الشمولي، الهيمنة على الأضعف والخضوع للأقوى؛ الهيمنة على الأضعف تتخذ صيغة ممارسة سادية إزاء الآخر، كثيراً ما تكون عارية، (كالتعذيب الجسدي والنفسي في السجون والمعتقلات، وضرب الأولاد والزوجات ... إلخ)؛ ترافقها وتبطنها في الوقت ذاته ممارسة مازوخية صريحة حيناً وضمنية أحياناً إزاء الذات الفلقة الباحثة عن ملجأ وملاذ. والملجأ والملاذ قوة وهمية: قوة الروابط الأولية التي يحاول الفرد استعادتها والانغماس فيها من جهة، وقوة الزعيم أو الحزب أو الحركة التوتاليتارية التي يتماهى بها، ويضفي عليها صفات العصمة والقداسة والكمال، من جهة أخرى. وكلما بدا له أن استعادة الروابط الأولية مستحيلة، يحاول إعادة إنتاجها في صيغة "روابط ثانوية" بديلة، في الحزب الشمولي وفي الحركة التوتاليتارية وفي صورة الزعيم التي تكثف السلطة والقوة الرمزيتين. وليس أمراً بلا دلالة اهتمام "الكائنات التوتاليتارية" بصور الزعيم وتمائيله، وبترديد أقواله والإعجاب غير المتناهي بأفعاله، وإن كانت هذه الأخيرة من نوع الجرائم الموصوفة التي يدهش الإعجاب بها العالم المتمدن. ولذلك تتحول الأحزاب السياسية في البلدان التابعة والمتأخرة، التي لم يكن تطورها الرأسمالي كافياً للإجهاز على الروابط الأولية، إلى "بنى موازية" لبنى المجتمع التقليدي، أو لكسوره الاجتماعية، العشائرية والمذهبية والإثنية والمحلوية. ودراسة آليات الانشقاق في الأحزاب السياسية العربية تؤكد ذلك.
الكائن التوتاليتاري لا يستطيع أن يحب الآخرين وأن يقدرهم حق قدرهم، لأنه لا يعرف كيف يحب نفسه ويحترمها ويقدرها حق قدرها. إنه بالأحرى كائن أناني أنانيته جشعة مفتوحة على هوة لا قرار لها، فلا يمكن إشباعها. والأنانية هي "نقص التوكيد للنفس الحقيقية ومحبتها، أي للوجود الإنساني العيني بكل إمكانياته"[11] فهي لا تتطابق مع محبة النفس، بل مع عكسها. ومن ثم فالأناني غير قادر على الحب، وهو إلى ذلك يكره العمل بصفته فاعلية ذاتية ذات محتوى اجتماعي وإنساني. ولذلك تراه ميالاً إلى تنفيذ الأوامر وإلى العمل التكراري، الروتيني، وإلى تنفيذ المهمات بحذافيرها من دون أي هامش للمبادرة الذاتية. وإذا كانت هذه المشكلة هي مشكلة الإنسان الحديث في المجتمع الرأسمالي، فإنها مدفوعة إلى حدها الأقصى في البلدان التابعة والهامشية. ولما كانت العلاقات الاجتماعية والإنسانية قد تحولت إلى علاقات بين أشياء تخلو من أي اكتراث بالعنصر الإنساني، وغدت محكومة بمنطق السوق، يمكننا القول إن الكائن التوتاليتاري إنسان باع نفسه، وضحى بكرامته الوطنية والإنسانية على مذبح القوة الوهمية، في سبيل الغنيمة والعشيرة والعقيدة.
رفعت الحركة التوتاليتارية، حركة الفئات الوسطى، التي كان ذات يوم أحزاباً سياسية تتنافس في المجتمع المدني وتحت قبة البرلمان، شعارات الحرية والمساواة والعدالة، والوحدة القومية أو الوحدة الإسلامية أو الأممية البروليتارية، بغض النظر عن التباس مفهومي الحرية والتحرر لديها، وكثفت هذه الشعارات في شعار "تحرير الأرض والإنسان"، والإنسان عندها مقلص إلى عضو الحركة التوتاليتارية، فاستمالت إليها كتلة شعبية واسعة من المتعطشين لمضمون هذه الشعارات، بحكم تقارب مستويات الوعي وبحكم قوة الأيديولوجية. وفور استيلائها على الحكم، بقوة الجيش، كما حدث في عدد من البلدان العربية، قامت بحملات تطهير في الجيش والشرطة وأجهزة الأمن السرية، وفي الإدارة العامة، ثم ما لبثت أن قامت بتأطير هذه الكتلة الشعبية في تنظيمات توتاليتارية، ولم تستثن النقابات، بل أعادت صوغها على شاكلة التنظيمات التوتاليتارية ذاتها فتتقلصت الفروق العملية بين نقابة المحامين أو نقابة الأطباء أو نقابة المهندسين وبين اتحاد الفلاحين واتحاد الكتاب واتحاد الشبيبة وغيرها. عمليات التطهير والتأطير المتواصلة وضعت الأفراد الذين تحرروا للتو من الروابط الأولية أمام أحد خيارين: أولهما، أن يتخلى كل منهم عن حريته واستقلاله وفرديته، فنينضوي، ويضوي، في أحد تنظيمات السلطة التي لا توفر له الأمن والحماية فقط، بل تمنحه بعض الامتيازات أيضاً، بصفته مناضلاً باع نفسه [12]، في سبيل "الأهداف النبيلة". وتتناسب الامتيازات طرداً، لا مع الولاء الشخصي فحسب، بل مع درجة الضراوة في محاربة أعداء الحركة الفعليين والمحتملين. وهؤلاء الأعداء المحتملون قد يكونون بعض رفاقه، فضلاً عن الآخرين من أفراد الشعب، وهذا ما يقتضي من المناضل أو الرفيق، أو الأخ، المجاهد، وهي صفات تطمس سائر صفات الفرد الأخرى أو تلغيها، مزيداً من اليقظة والحذر ومزيداً من الحماسة والحمية في الدفاع عن "الثورة" وعن قيادتها الحكيمة وعن القائد الذي تنسب إليه لا جميع صفات الأنبياء فقط بل صفات الألوهية، حتى حين يكون الزعيم "أميراً للمؤمنين"، أي قائداً لحركة إسلامية يفترض أن يردعه إيمانه الديني عن مثل هذه الوثنية المبتذلة.
وإن مجرد احتمال أن يكون في إطار الحركة، ولا سيما في قلبها، أعداء مندسون أو رفاق داخلهم الشك فزعزع أيمانهم، وينبغي كشفهم والإجهاز عليهم، يجعل كل واحد من أعضاء الحركة موضع ريبة وشك من الآخرين ورقيباً عليهم في الوقت ذاته. وتغدو الريبة والشك والحذر والخوف من أبرز صفات المناضل والمجاهد. وتزداد وتيرة الشك طرداً مع ترقية أعضاء الحركة في مراتب القيادة واقترابهم من مركز القرار الذي يضيق تدريجياً بسبب الشك والخوف معاً حتى ينحصر في شخص الزعيم الذي يشك في الجميع ويخاف منهم بالقدر ذاته. ومن البديهي وهذه الحال أن تغدو السادية والمازوخية معاً بطانة العلاقات السياسية وبطانة السلوك السياسي الذي يرتدي بالضرورة طابعاً أمنياً. والمازوخية والسادية كلاهما تعبيران نفسيان عن الخوف من الحرية والهرب من تحمل تبعاتها وأعبائها ودفع تكاليفها.

27 - مارس - 2007
الحرية
الخوف من الحرية....(5)    كن أول من يقيّم

في نطاق هذه الوضعية المرعبة التي لم يعد يكفي معها الخضوع والطاعة والامتثال وتوكيد الولاء بجميع الوسائل والأساليب الممكنة، وفي مقدمها الوشاية و"النقد الذاتي"[13]، يفقد عضو الحركة نفسه الشعور بالأمن والاستقرار، على الرغم من جميع مظاهر القوة والعظمة والأبهة والجاه، ويسكنه الحنين إلى "الفردوس المفقود"، أي إلى الروابط الأولية التي لا يزال قريب العهد بها، فيأخذ في إعادة إنتاجها في إطار الحركة ذاتها، ولكن بصورة وهمية هذه المرة. ولا تلبث الروابط الأولية أن تظهر في هيئة روابط بديلة، عشائرية ومذهبية وجهوية ومحلوية تشبع الرغبة في الخضوع لدى جميع أعضاء الحركة. ولا عجب وهذه هي الحال أن تنقسم الأحزاب السياسية عندنا، وكلها تنويعات علىالحركة التوتاليتارية أو استطالات لها أو انشقاقات عنها، بحسب الانتماءات ما قبل الوطنية؛ فالانشقاق يكشف ما كان خافياً ومستوراً.
 والثاني، أن يختار حريته واستقلاله وذاتيته، ويبحث عن طريق أخرى يؤسس بها نفسه في العالم الجديد، وهذا الخيار مقرون في بلادنا وفي سائر المجتمعات المتأخرة، بالمكابدة والعناء، ويحتاج إلى كثير من الثبات والصبر. وكثيراً ما يكون ثمنه باهظاً، ما لم يستعد المجتمع المدني قدرته على حماية الأفراد التي توفرها لهم مؤسساته الطوعية أو الإرادية، كالنقابات والجمعيات والنوادي والأحزاب السياسية، فضلاً عن المؤسسة الدينية، ويكفلها القانون.
القاسم المشترك بين جميع المستبدين الذين ارتكبوا جرائم إبادة جماعية هو الشك المفرط أو الريبة المجنونة في كل من يتولى منصباً رفيعاً في "دولتهم"، وبكل من لا يواليهم موالاة تامة من الشعب؛ حتى موالاة الموالين ذاتها تغدو موضع ريبة وشك. ومن البديهي أن يكون من لديه كل هذا الشك وهذه الريبة مسكوناً بالخوف وهذا الخوف هو ما يحاول الإرهاب التوتاليتاري أن يخفيه بمزيد من الإرهاب الذي يغدو علامة القوة الوحيدة والأخيرة. ولما كان من غير الممكن التأكد من ولاء الشعب، فإنه يتحول إلى عدو موضوعي، أو إلى خزان ضخم للعداوة، يأتي منه الخطر الوحيد على النظام، لذلك كان عسف الأنظمة التسلطية يزداد ويتوالى بعد الإجهاز على أي معارضة منظمة، ويزداد كذلك كلما أنس المستبد في نفسه قوة تعصمه من الخوف، فيأخذ في مراكمة السلطة التي يقتضي الدفاع عنها مزيداً من الإرهاب. ثمة علاقة منطقية وواقعية، أي علاقة ضرورية بين الخوف ومراكمة السلطة، ومن ثم بين مراكمة السلطة والإرهاب.
"جماهير" الحركة التوتاليتارية هم غالباً من غير المبالين الذين لم ينتسبوا إلى حزب أو جمعية أو ناد، ولم يشاركوا في الانتخابات ولم يعرف عنهم اهتمام بالشأن العام. هؤلاء هم القاعدة الاجتماعية للنظام التسلطي يقتصر دورهم على التأييد السلبي، وهو تقليد قديم مستقر في الحياة العربية، ويقابله الرفض السلبي أو المعارضة السلبية. وما يدفع الجماهير إلى ذلك الخوف والطمع فحسب، ولذلك لا يلبثون أن ينفضوا عن النظام، وينسونه بسرعة لافتة بعد زواله، بل ينقلبون عليه ويتنافسون في إظهار مثالبه وعيوبه. ولعل موقف الجماهير من سقوط نظام صدام حسين في العراق خير شاهد على هذا، ومثله موقف الجماهير في الاتحاد السوفييتي السابق وفي دول أوربة الشرقية بعد سقوط الأنظمة الشمولية. بل إن هذا الموقف لا يقتصر على الجماهير، بل يتعداه إلى نسبة غير قليلة من أعضاء الحركة التوتاليتارية أنفسهم. فالملايين التي تؤلف قوام هذه الحركة لا تنهض للدفاع عنها حين يوافيها الأجل المحتوم. في حين كان إيمانهم بها لا يتزعزع، ولم يكن ليهتز قيد شعرة حين كانت ترتكب الجرائم في حق الأبرياء الذين لا ينتمون إلى الحركة، أو الذين كانوا من معارضيها، حتى حين يكون هؤلاء من أقاربهم أو من أصدقائهم أو من زملائهم في العمل. والأدعى إلى العجب والذهول أن إيمانهم لم يكن يتزعزع أيضاً حين كان الغول يشرع في افتراس أولادهم، أو حين يصيرون هم أنفسهم ضحايا الاضطهاد فيطردون من الحزب أو يساقون إلى الأشغال الشاقة أو إلى المعتقلات. بل كانوا مستعدين لإعانة متهميهم في نقد أنفسهم، بشرط ألا تمس مواقعهم في الحركة[14]. ذلك لأن المتعصبين للحركة يتماهون بها حتى لتصير في ظنهم قوام حياتهم.
وباستحواذها على الجماهير، أو على قوة العدد والتنظيم لا تبالي الحركة التوتاليتارية بنقد نقادها واعتراضات المعترضين على سياساتها، ولا تأبه لحججهم، وذلك لعلمها أنها لو فعلت ذلك، ولو رضيت بالمنافسة الحرة مع غيرها من الأحزاب لانتهت إلى الضعف ما دامت لا تعتد بأناس لديهم ما يكفي من الأسباب لمعارضة تلك الأحزاب أو مناهضتها. ولذلك تخشى الانتخابات الحرة، وتخشى كل ما يمت إلى الحرية بسبب. وما دامت تخاف من الحرية على هذا النحو المرضي، فليس بوسعها سوى إنتاج الخوف في المجتمع وإعادة إنتاجه باطراد. الحكم التوتاليتاري هو حكم الخائفين على الخائفين. والمساواة الوحيدة المقبولة هي المساواة في الخوف.
ولعل العامل الأهم في إشاعة الخوف من الحرية وتسويغ الهروب منها هو الاستيلاء على ثروة المجتمع وعلى وسائل الإنتاج والسيطرة التامة على الاقتصاد، وصيرورة السلطة رب العمل الوحيد في كل ما يتعدى الأعمال الخاصة التي لا تحتاج إدارتها والقيام بأعبائها إلى أكثر من أفراد الأسرة أو عدد قليل جداً من العمال. بهذا "التحويل الاشتراكي" يتحول المجتمع إلى نوع من "مجتمع بلا طبقات"، وتحويل ما كان طبقات اجتماعية إلى جماهير، وإلغاء كل نوع من أنواع التضامن والتكافل بين الجماعات وبين أعضاء الجماعة الواحدة، وهذان التحويل والإلغاء يسيران معاً في خطين متوازيين، وهما الشرطان الرئيسان للاستبداد الكلي. ومن البديهي أن يلجأ الناس إلى السلطة حين لا يبقى لديهم من فرصة للعمل وتوفير مقومات العيش سوى في مؤسساتها الإنتاجية والخدمية والإدارية. ومن ثم
 يمكن القول إن إفقار الجماهير والتمتع برؤيتها تزحف على بطونها هو أحد أبرز مظاهر السادية، وأحد أهم الشروط التي تضمن ولاءها. وليس غريباً والحال هذه أن تلجأ السلطة إلى منح الجماهير بعض الهبات والعطايا، وأن تمن عليها ببعض المكرمات.
ترى حنة أرندت أن النظام التوتاليتاري ليس أحادي البنية قط، بل هو نظام قائم، عن سابق وعي وتصميم، على وظائف تتقاطع أو تتوازى وتتضاعف، وأن هذه البنية العديمة الشكل على نحو منفر تظل صامدة بفضل المبدأ الذي التزمه "الفوهرر" "عبادة الشخصية"[15]. فذراع النظام الرئيسة ليس الحزب، بل البوليس السري الذي يقوم بعملياته خارج نطاق الحزب، وعلى نحو لا يستطيع معه الحزب أن يضبطها". بل إن الحزب نفسه لا ينجو من سطوة هذا الجهاز الذي يغدو محور "الحياة السياسية"، إذا جاز أن نسميها كذلك. ومع أن الجيش هو الذي قام بالثورة، ويفترض أنه قوتها الضاربة، فإنه لا يلبث أن يخضع لسلطة جهاز الأمن السري بالمفرد والجمع. ولعل أهم وظيفة من وظائف هذا الجهاز هي تعزيز عبادة الشخص، وهي الوظيفة التي تحدد جميع وظائفه الأخرى، وتسوغ جميع أعماله. وشيئاً فشيئاً يتحول جهاز الأمن السري إلى نوع من جهاز عصبي يعصِّب جميع مؤسسات السلطة وتنظيماتها التي تشمل جميع فئات المجتمع، فتكتمل عملية "اختراق المجتمع وتنسيق بناه"[16] والسيطرة على جميع مقدراته. وتتسع دائرة اختصاصاته حتى تشمل جميع وظائف السلطة التشريعية والتنفيذية، والسلطة القضائية أيضاً، فتغدو الوزارات والإدارات والمدارس والجامعات والهيئات الثقافية والعلمية والإعلامية والإنتاجية والخدمية في قبضته، مما يقتضي زيادة أعداد العاملين فيه باطراد، ورفده بجيش من المخبرين المأجورين والمتطوعين، فتكف الوشاية عن كونها عيباً أخلاقياً لتغدو عملاً وطنياً هدفه القضاء على "الأعداء الموضوعيين"، وهؤلاء هم الآخرون، فتنتكس العلاقة بين الأنا والآخر إلى أصلها الطبيعي، الغريزي، ما قبل الاجتماعي. والنتيجة الحتمية لذلك هي تفكيك عرى التضامن في جميع المستويات، وصيرورة الشك والريبة والخوف مضمون العلاقات الاجتماعية والسياسية، ويكتسي التنافس الطبيعي بين الأفراد في سبيل توفير مقومات الحياة وتحسينها شكلاً جديداً هو المبالغة في إظهار الولاء، وبذل الغالي والنفيس في سبيل توكيده.
ولعل ظاهرة الفساد والإفساد التي لم يعالجها علم الاجتماع السياسي هي الصيغة الأخلاقية للنظام التسلطي، وهي المعادل الأخلاقي لاختراق المجتمع المدني وتنسيق بناه. فإذا كانت العلاقات بين الأفراد قد انتكست إلى مستوى العلاقات الطبيعية التي قوامها الخوف والطمع، أو المنفعة الشخصية الخالصة، المجردة من أي بعد اجتماعي وسياسي وأخلاقي، فإن الحفاظ على النظام مرهون بإعادة إنتاج هذه العلاقات على كل صعيد. وبذلك تنقطع علاقة الفرد بالمجتمع المدني الذي لم يعد قائماً إلا بصفته مجالاً للسلطة وموضوعاً لها، أو تغدو هامشية وغير ذات نفع؛ وتحل محلها علاقة مباشرة بين الفرد والسلطة الفعلية التي لم تعد سوى أجهزة الأمن السرية، وهي علاقة مرعبة وصفها جورج أورويل في روايته الأهم على هذا الصعيد، عنوانها "1984". والوشاية والمراقبة والمعاقبة هي محور منظومة الفساد التي لم تقتصر آثارها الكارثية على العلاقات الاجتماعية والسياسية وعلى الثقافة والأخلاق، بل تعدتها إلى دائرة الاقتصاد الوطني.
يقوم النظام التوتاليتاري، بوصفه ملاذ الكائنات التوتاليتارية الخائفة من الحرية والهاربة منها، كما شخصته حنة أرندت، على ثلاثة أركان هي "الأيديولوجية والإعلام والإرهاب" والأيديولوجية هنا، قومية كانت أو اشتراكية أو إسلامية، لا بد أن تتصف بالتشدد والتطرف، فضلاً عن سائر الصفات الأخرى، كالتمامية والكمال واحتكار الحقيقة والخصوصية أو الحصرية والانغلاق على الذات. وهي، أي الأيديولوجية، مصدر مشروعية النظام، أو "ذروة المشروعية العليا" التي يتسنمها، وهي أيديولوجية كفاح ودفاع تبريري وتبجيلي بصفة عامة، بتعبير محمد أركون[17]. ويحتل فيها "التراث" القومي أو الإسلامي أو الاشتراكي، بحسب المتكلم، موقع الصدارة. وحين يتشظى المجتمع، وينفرط العقد الاجتماعي، تقوم الأيديولوجية بوظيفة الملاط الرابط. وبقدر ما تكون متشددة وتعبوية وتتضمن العنف والقوة تنقاد إليها الجماهير لأسباب ديماغوجية محضة؛ إذ ليس هناك أي علاقة بين هذه الأيديولوجية في ذاتها وبين مصالح الأفراد المخصوصة واتجاهاتهم. وتسهم المنازعات الإعلامية أو العسكرية مع دول الجوار الجغرافي أو مع دول عربية مارقة: رجعية أو متخاذلة أو ما شئت من الصفات في تركيز التشدد والديماغوجية وتيسير التعبئة.
ويقوم الإعلام بإعادة أنتاج جميع فروع المعرفة والثقافة بدلالة الأيديولوجية، فيحولها إلى نوع من "ثقافة جماهيرية"[18] نمطية محورها مبدأ النظام نفسه، أي عبادة الشخصية. والإعلام التوتاليتاري بوجه عام إعلام موجه، ومن ثم فهو كاذب وناقص بالضرورة، فضلاً عن كونه تلفيقياً وتأويلياً ومدلساً، لا يتحرى الحقيقة الموضوعية ولا يعبأ بالوقائع، ولا يعترف بالواقع، فضلاً عن طابعه الاحتكاري.
بيد أن عبادة الشخصية لا تأتي من فراغ، وليست وليدة كاريزمية الزعيم فقط، بل تتأتى واقعياً من الإلمام التفصيلي بجميع تشابكات سيور نقل الحركة بين أجهزة النظام ومراتبه، ومن ثم في النظام كله، وهو ما يعادل السلطة العليا التي يغدو بيدها توجيه هذه الحركة وتحديد وتائرها، واتخاذ القرارات المناسبة، وهذه السلطة العليا لا يجوز أن تكون غير الزعيم نفسه. هذه الوضعية لا توفر احتكاراً مطلقاً للسلطة فحسب، بل تخلق ثقة في أن الأوامر يجب أن تنفذ، وهذا هو مصدر فعالية النظام.
* فصل من كتاب "المجتمع المدني هوية الاختلاف"

 
[1] - من مقدمة مجاهد عبد المنعم مجاهد لكتاب أريك فروم "الخوف من الحرية"
[2] - أريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1972، ص10
[3] - راجع دراسة الكاتب "حقوق الإنسان في الفكر العربي المعاصر"، في "قضايا النهضة" ، دار علاء الدين، دمشق، 2003
[4] - للتوسع في هذا الموضو، راجع، خلدون حسن النقيب في "الدولة التسلطية في المشرق العربي" مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت
[5] - أريك فروم، مصدر سابق، ص 19
[6] - راجع المصدر نفسه، ص 23
[7] - راجع المصدر السابق، ص 24 وما بعدها
[8] - راجع المصدر السابق، ص 27
[9] - راجع المصدر السابق، ص 28
[10] - عن أريك فروم، مصدر سابق، ص 42
[11] - راجع المصدر نفسه، ص 98 و 99
[12] - ليس عبثاً أن يسمى الاستفتاء على رئاسة الجمهورية بيعة، والبيعة الكبرى تلك التي حصل بها صدام حسين عل جميع أصوات الناخبين أو المبايعين. ووما له دلالة بالغة، لدى الأنتروبولوجيين على الأقل، المبايعة بالدم وشعار الافتداء بالوح والدم.
[13] - هناك سيل من الوقائع والوثائق حول "النقد الذاتي" الذي كان يفرض على أعضاء الحركة التوتاليتارية عندنا، لم يكشف عنها النقاب بعد، كما كشف النقاب عن مثيلاتها في عهد ستالين في الاتحاد السوفييتي السابق. ولعل النقد الذاتي الذي فرض على فرج الله الحلو، العضو القيادي البارز في الحزب الشيوعي السوري في عهد خالد بكداش، يقدم نموذجاً عن ذلك.
[14] - حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، 1993، ص 33
[15] - حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، 1993، ص18
[16] - للتوسع في هذا الموضوع، راجع: خلدون حسن النقيب في "الدولة التسلطية في المشرق العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت . وهو دراسة غير مسبوقة في علم الاجتماع السياسي العربي، في هذا الموضوع.
[17] - للتوسع في هذا الموضوع، راجع: محمد أركون في: "تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1، 1986
[18]- راجع خلدون حسن النقيب، المرجع السابق، وإدغار موران في "مقدمات للخروج من القرن العشرين، ترجمة أنطون حمصي، وزارة الثقافة، د

27 - مارس - 2007
الحرية
مقال فى العبودية المختارة ...إتين دى لابويسيه(7)    كن أول من يقيّم

فالبذور التى تنثرها فينا  يد الطبيعة  ضئيلة واهية إلى حد لا يجعلها تحتمل أقل غذاء منافر لها ،فرعايتها لاتتم بمثل السهولة التى تتبدد بها وتفنى ،شأنها شان أشجار الفاكهة ؛ كل شجرة منها لها طبيعتها وتؤتى ثمارا غريبة غير ثمارها إذا طعمتها .
 
كذلك الأعشاب : كل عشب له خاصيته وطبيعته وتفرده ولكن البرد والجو ثم التربة  ويد البستانى تعين نموه كثيرا  أو تعوقه كثيرا حتى أن النبات الذى نراه فى قطر  لانكاد نعرفه فى قطر آخر .
 
تخيل رجلا رأى أهل مدينة البندقية – وهم قلة من الناس  يعيشون أحرارا  حتى ليأبى أقلهم جاها أن يتوج ملكا على جميعهم ، ولدوا ونشأوا على ألا يعرف أى منهم مطمعا إلا الإدلاء بأحسن النصح  من أجل الحفاظ على الحرية  والسهر عليها ،تربوا منذ المهد وتشكلوا على ألا يمدوا أيديهم إلى سائر نعم الأرض مجتمعة  عوضا عن ذرة من حريتهم – أقول تخيل  رجلا رأى هؤلاء القوم ثم ذهب بعد أن غادرهم إلى أرض ينشر عليها سلطانه من لقبناه بملك الزمان ، أراض يرى أناسا لايولدون إلا لخدمته ولايعيشون إلا لدوام قوته ،ترى  هل يظن أن هؤلاء وأولئك من عجينة واحدة  أم أن الأرجح أنه سوف يعتقد أنه ترك مدينة آدمية  ودخل حظيرة للدواب ?
 
يحكى أن ليكورج (مشرع اسبرطة ) قد ربى كلبين خرجا من بطن واحد ورضعا ذات الثدى ، فجعل أحدهما  يسمن فى المطبخ  وترك الآخر يجرى فى الحقول وراء أبواق الصيد . فلما أراد أن يبين لشعب لاسيدومونيا  أن الناس هم ما تصنع بهم  تربيتهم  جاء بالكلبين  وسط السوق  ووضع بينهم  حساء وأرنبا ، فإذا أحدهما يجرى إلى الطبق والآخر وراء الأرنب .
فقال ليكورج : ومع هذا فهما أخوان !
هكذا نجح بفضل قوانينه ودستوره فى أن ينشىء سكان لاسيدومنيا تنشئة  جعلت كلا منهم يفضل الموت ألف ميتة على أن يختار لنفسه سيدا آخر سوى القانون والعقل.

28 - مارس - 2007
لما ذا لايوجد لدينا فلاسفة وهل عقمت الأمة العربية ?أم أننا خارج التاريخ ?
مقال فى العبودية المختارة ...إتين دى لابويسيه (8)    كن أول من يقيّم

ويطيب لى  هنا  أن أتذكر حديثا جرى فى قديم الزمان  بين أحد المقربين إلى أكسركس ملك الفرس  الأعظم  وبين رجلين من لاسيدمونيا . أخذ اكسركس ، وهو يعد جيشه الضخم لغزو اليونان  ، يبعث رسله إلى المدن اليونانية  يطلبون إليها الماء والتراب  وهو تعبير كان يستخدمه الفرس إشارة إلى أنهم  يأمرون المدن بالاستسلام . إلا أثينا واسبرطة ،فقد تجنب أن يرسل إليهما أحدا ، ذلك أن الأثينين والاسبرطيين كان قد سبق لهم أن أمسكوا بسفراء  أبيه داريوس  فزجوا بعضهم فى الحفر والبعض الآخر فى الآبار  قائلين : خذوا ما تريدون من الماء والتراب ! كانوا قوما لايطيقون  ولو كلمة واحدة تمس حريتهم . غير أن الاسبرطيين بعد أن صنعوا هذا الصنيع أدركوا أنهم قد جروا على أنفسهم غضب الآلهة  وغضب تالثيبيوس ، إله الرسل، بنوع خاص ، فقرروا أن يرسلوا إلى اكسركس  مواطنين من بينهم ليمثلا بين يديه وليصنع بهم ما يشاء انتقاما لمن قتل من رسل أبيه . فتطوع رجلان  ليدفعا هذا الثمن  ، اسم أحدهما سبرثيوس  واسم الآخر بولس . وبينما هما فى الطريق  صادفا قصرا يملكه رجل فارسى اسمه هندران  ،كان الملك قد عينه واليا على جميع المدن الواقعة  على الساحل ،فرحب  بهما أكرم ترحيب  وأطعمهما بغير حساب  ثم سألهما  بعد أن أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث لما يرفضان إلى هذا الحد صداقة الملك ?
قال : "أنظرا إلىً أيها الاسبرطيان واتخذا منى مثلا منه  كيف يعرف الملك تشريف من استحق وتذكرا أنكما لو صرتما من اتباعه  لرأيتما  من صنيعه ما رأيت  وأنكما  لو دنتما  له بالطاعة وعرف أمركما  لما خرج كلاكما عن أن يكون أميرا لمدينة  من مدن اليونان " .
فأجابه محدثاه : "لهذا ياهندران  لأمر لا تملك فيه إسداء النصح إلينا لأنك جربت النعمة التى تعدنا بها  ولكنك لا تعلم شيئا عن نعمتنا ؛ لقد ذقت حظوة الملك وأما الحرية  فلست تعرف ما مذاقها ولامدى عذوبته ،ولو فعلت لنصحتنا بالدفاع عنها لا بالرمح والدرع بل بالأسنان والأظافر " .
 
هذا الجواب وحده  هو الصدق ، ومع هذا فلاشك أن ثلاثتهم تحدثوا  وفاقا لنشأتهم ، فما كان للفارسى أن يستشعر الأسف على الحرية  وهو لم ينلها  قط  ولا للاسبرطى أن يحتمل التبعية بعد أن ذاق الحرية .
 

30 - مارس - 2007
لما ذا لايوجد لدينا فلاسفة وهل عقمت الأمة العربية ?أم أننا خارج التاريخ ?
مقال فى العبودية المختارة ...إتين دى لابويسيه (9)    كن أول من يقيّم

وكان كاتو الأوتيكى وهو بعد طفل تحت الوصاية كثير التردد على منزل الدكتاتور سيلا ، يروح ويجىء متى شاء  لايصد الباب فى وجهه أبدا لكرم محتده  ولما كان  بينه وبين سيلا  من أواصر القرابة . وكان معلمه  يصحبه فى كل زيارة  على ما جرت به العادة إذ ذاك  مع أبناء الأسر العريقة . ولم يلبث أن تبين له أن مصائر الناس  تحسم بتلك الدار  بمحضر من سيلا نفسه أو بأمره : البعض يسجن  والبعض يدان ، هذا ينفى  وهذا يشنق  ، هذا يطالب بمصادرة أملاك أحد المواطنين  وذاك يطلب رأسه . تبين له بالاختصار أن الأمور لاتجرى على ما ينبغى لدى مسئول أعملته المدينة  بل لدى طاغية  استبد بالشعب  وأن المكان لم يكن ساحة للعدل  بل مصنع للطغيان .
 
عند ئذ قال الفتى لمعلمه : " أنى لى بخنجر أدسه تحت ردائى  فإنى كثيرا ما أرى سيلا فى حجرته قبل أن يستيقظ  وأن بساعدى لقوة تكفى خلاص المدينة منه ".
 
هذه حقا كلمة تليق برجل من معدن كاتو ، وهكذابدأت حياة هذا البطل الذى مات كريما بعد أن عاش كريما . ومع هذا هب أنك لم تذكر الاسم ولاالبلد مكتفيا بذكر الواقعة كما هى : لاشك أن الواقعة سوف تتحدث عندئذ عن نفسها بنفسها ، ولسوف يستدل السامع منا أن قائل هذا القول رومانى  ولد بأحضان روما  حين كانت روما مدينة حرة .
لما أقول ذلك ? طبعا لا لأنى أظن أن البلد أو الأرض يضيفان إلى الشىء ما ليس فيه .
 
فالعبودية مرة  بكل قطر وجو والحرية عزيزة ،ولكن لأنى أرى أن من سبق النير مولدهم  جديرون بالرثاء ، فواجبنا عذرهم أو الصفح إذا كانوا لايرون ضرا فى عبوديتهم  ما داموا لو يروا ظل الحرية ولا سمعوا عنها قط . فلو كان ثمة بلد كبلد السمريين ،فيما يقول هوميروس ، بلد لاتشرق عليه الشمس شروقها المألوف علينا وإنما تفيض عليهم بنورها ستة أشهر  متوالية  تتركهم نياما فى الحلكة خلال النصف الآخر من السنة : من  ولدوا فى غياهب هذا الليل الطويل  إذا كانوا لم يسمعوا البتة أحدا يتحدث عن الضوء ، هل تعجب لو أنهم ألفوا الظلمات التى ولدوا فيها دون أن يستشعروا الرغبة فى النور ? إنا لانفتقد مالم نحصل عليه قط  وإنما يأتى الأسف فى أعقاب المسرة  ودوما تأتى ذكرى الفرح المنقضى مع خبرة الألم .أجل أن طبيعة الإنسان أن يكون حرا  وأن يريد كونه كذلك  ولكن من طبيعته أيضا يتطبع بما نشأ عليه.
 
لنقل إذن أن  مادرج الإنسان عليه وتعوده يجرى عنده بمثابة الشىء الطبيعى ، فلا شىء ينتسب إلى فطرته سوى طبيعته الخالصة التى لم يمسسها التغير . ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة ؛ كشأن الجياد الشوامس تعض الحكمة  بالنواجذ فى البدء ثم تلهو بها أخيرا  وبعد أن كانت ترجم ولا تكاد تستقر تحت السرج إذا هى الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء  وهى تتبختر فى دروزها . تقول أنها كانت منذ البدء ملكا لمالكها  وأن آباءها عاشت كذلك  وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الإلزام  وبمر الزمن تدعم هى نفسها امتلاك طغاتها إياها .ولكن الحقيقة هى أن السنين لا تجعل أبدا من الغبن حقا  وإنما تزيد الإساءة  استفحالا .
آجلا وعاجلا يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن يشعرون بوطأة الغل ولا يتمالكون عن هزه هزا  ولايرضون أنفسهم أبدا على التبعية  والخضوع بل هم مثلهم كمثل أوليس وهو يجتاب الأرض والبحر  عساه يرى الدخان الذى يصعد من داره ولايمسكون قط عن التفكير فى حقوقهم الطبيعية  وعن تذكر من تقدموهم وتذكر وضعهم الأول .
 
أولئك هم الذين إذ ملكوا فهما نافذا ورأيا بصيرا  وانصقلت عقولهم  لم يكتفوا كما يفعل العامة  بالنظر لمواطىء أقدامهم  دون التفات إلى أن ما أمامهم  وما وراءهم  ودون أن يتذكروا  وقائع الماضى ليسترشدوا بها فى الحكم على المستقبل وسبر الحاضر .
 
 أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطيعتها فزادوها  بالدراسة والمعرفة  تهذيبا .
 
 أولئك لو أن الحرية أمحت على وجه الأرض وتركتها كلها  لتخيلوها واحسوا بها فى عقولهم  وتذوقوها ولم يجدوا للعبودية طعما مهما تبرقعت .

30 - مارس - 2007
لما ذا لايوجد لدينا فلاسفة وهل عقمت الأمة العربية ?أم أننا خارج التاريخ ?
مقال فى العبودية المختارة ...إتين دى لابويسيه(10)    كن أول من يقيّم

لقد أدرك قراقوش الترك(السلطان العثمانى )  هذا الأمر أحسن إدراك ، أدرك أن الكتب والثقافة الصحيحة تزود الناس أكثرمن أى شىء آخر بالحس والفهم اللذين يتيحان لهم التعارف والاجتماع على كراهية الطغيان ، دليل ذلك خلو أرضه من العلماء وبعده عن طلبهم .
 
وفى سائر الأرض بوجه عام  تظل حماسة من أخلصوا قلوبهم للحرية وتظل محبتهم دون أن يكون لهما أثر مهما كثر عددهم لانقطاع التواصل بينهم ؛ فالطاغية يسلبهم كل حرية ؛ حرية العمل وحرية الكلام ولو أمكن فحرية الفكر . فإذا هم منفردون منعزلون كل فى تخيله .
 
وعليه فمابالغ الآله الساخرموموس  فى سخريته إذ شهد الإنسان الذى صنعه فولكان فنصحه أن يضع أيضا بقلب صنيعه نافذة صغيرة لكى تتسنى رؤية أفكاره من خلالها . ولقد قيل أن بروتوس وكاسيوس  حين شرعا فى تحرير روما أو بالأصدق فى تحرير العالم أجمع أبيا أن يشركا شيشرون وهو المدافع المنقطع النظير عن المصلحة العامة  فيما عقدا العزم عليه  إذ كان من رأيهما أن قلبه أضعف من يثبت فى هذا الموقف العصيب ، كانا يثقان فى صدق إرادته دون أن يضمنا شجاعته .
 
وإن لفى وسع من أراد استقراء وقائع الماضى وسجلات التاريخ  أن يتحقق أن من رأوا بلدهم تساء سياسته وتستحوذ عليه أياد جانية فعقدوا العزم على تحريره بنية صادقة مستقيمة لا تردد فيها  قل ألا يحالفهم النجاح وأن الحرية تساندهم فى الدفاع عن قضيتها .
 
أنظر هارموديوس وأرسطجيتون وثراسيبول  وبروتوس  الأقدم وفالريوس وديون : لقد كان عملهم ناجحا مثلما كان فكرهم  فاضلا  لأن الحظ لا يكاد يتخلى أبدا فى مثل هذه القضية عن مناصرة الإرادة  الطيبة .
كذلك نجح بروتوس الأصغر وكاسيوس فى رفع العبودية وإن كانا إذ استرجعا الجمهورية  قد خسرا الحياة خسارة لاتحط من شأنهما ( فأى سبة هذه أن تنسب الحطة إلى أمثال هؤلاء القوم سواء فى الحياة أو الممات )  بل خسارة عانت منها الجمهورية أكبر الضرر وعانت البؤس أبد الدهر واندثرت اندثارا  كأنها قد دفنت بدفنهما . فأما ما تلا ذلك من الحركات الموجهة ضد الأباطرة الرومانيين فلم تكن إلا مؤامرات حاكها قوم طامحون لا يستحقون الرثاء على سوء مآلهم فقد كان من الواضح أن مطلبهم لم يكن تقويض العرش بل زحزحة التاج .مدعين طرد الطاغية مع الإبقاء على الطغيان .
هؤلاء قوم ماكنت نفسى أود لهم نجاحا  وأنه ليسرنى أنهم قد ضربوا بأنفسهم المثل على أن اسم الحرية المقدس لا يجوز استخدامه مع اعوجاج القصد .
 
ولكنى لكى أعود إلى موضوعنا الذى كاد يغيب عن نظرى  أقول إن السبب الأول الذى يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد هو كونهم يولدون رقيقا وينشأون كذلك .إلى هذا السبب يضاف سبب آخر ؛ أن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين .
إنى أشكر أبا الطب هيبوقراط إذ فطن إلى ذلك وعبر عنه أحسن تعبير فى كتابه المعنى عن الأمراض . لقد كان هذا الرجل يملك يقينا فى جميع أحواله قلبا يزخر بالمروءة ،أبدى ذلك حين أراد ملك الفرس اجتذابه بالعطايا والهدايا الفخمة  فأجابه صراحة  أنه لن يسلم من وخز الضمير إذا هو اشتغل بعلاج الأجانب الذين يريدون موت الأغريق  وراح يخدمه بفنه بينما هو يريد اخضاع بلادهم .
ولايزال خطابه المرسل إلى ملك الفرس ماثلا إلى يومنا هذا بين سائر كتاباته ، يشهد مدى الدهر على قلبه الطيب وطبيعته النبيلة .
 
من المحقق إذن ، أن الحرية تزول بزوالها الشهامة .فالقوم التابعون لا همة لهم فى القتال ولاجلد ، إنهم يذهبون إلى الخطر كأنهم يشدون إليه شدا ، أشبه بنيام يؤدون واجبا  فرض عليهم ، لا يشعرون بلهب الحرية يحترق فى قلوبهم ، هذا اللهب الذى يجعل المرء يزدرى المخاطر  ويود لو اكتسب بروعة موته الشرف والمجد  بين أقرانه .إن الأحرار يتنافسون كل من أجل الجماعة  ومن أجل نفسه  وينتظرون جميعا نصيبهم المشترك من ألم الانكسار أو فرحة الانتصار ، أما المستعبدون فهم عدا هذه الشجاعة فى القتال  يفقدون أيضا الهمة فى كل موقف وتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال ، وهذا أمر يعلمه الطغاة جيدا ، فهم ما إن يروا الناس فى هذا المنعطف إلا عاونوهم على المضى فيه حتى يزيدوا استنعاجا .
 

30 - مارس - 2007
لما ذا لايوجد لدينا فلاسفة وهل عقمت الأمة العربية ?أم أننا خارج التاريخ ?
مختارات من كتاب (النبى ) لجبران خليل جبران (1)    كن أول من يقيّم

الصداقة والمحبة والزواج والأولاد
 
جبران خليل جبران
 
1. الصداقة...
ثم قال له شاب: هات حدثناعن الصداقة.
فأجاب و قال:
إن صديقك هو كفاية حاجاتك.
هو حقك الذي تزرعه بالمحبة و تحصده بالشكر.
هو مائدتك و موقدك.
لأنك تأتي إليه جائعا, وتسعى وراءه مستدفئا.
***
فإذا أوضح لك صديقك فكره فلا تخش أن تصرح بما في فكرك من النفي, أو أن تحتفظ بما في ذهنك من الإيجاب.
وإذا صمت صديقك ولم يتكلم, فلا ينقطع قلبك عن الإصغاء إلى صوت قلبه;
لأن الصداقة لا تحتاج إلى الألفاظ والعبارات في إنماء جميع الأفكار والرغبات والتمنيات التي يشترك الأصدقاء بفرح عظيم في قطف ثمارها اليانعات.
وإن فارقت صديقك فلا تحزن على فراقه;
لأن ما تتعشقه فيه, أكثر من كل شيء سواه, قد يكون في حين غيابه أوضح في عيني محبتك منه في حين حضوره.
لأن الجبل يبدو لمن ينظر إليه من السهل أكثر وضوحا مما يظهر لمن يتسلقه.
ولا يكن لكم في الصداقة من غاية ترجونها غير أن تزيدوا في عمق نفوسكم.
لأن المحبة, التي لا رجاء لها سوى كشف الغطاء عن أسرارها ليست محبة بل هي شبكة تلقى في بحر الحياة ولا تمسك غير النافع.
وليكن أفضل ما عندك لصديقك.
فإن كان يجدر به أن يعرف جزر حياتك.
فالأجدر بك أيضاً أن تظهر له مدها.
وما قيمة صديقك الذي لا تطلبه إلا لتقضي معه ما تريد أن تقتله من وقتك? فاسع بالأحرى إلى الصديق الذي يحيي أيامك ولياليك,
لأن له وحده قد أعطي أن يكمل حاجاتك, لا لفراغك ويبوستك.
وليكن ملاك الأفراح واللذات المتبادلة مرفرفاً فوق حلاوة الصداقة.
لأن القلب يجد صباحه في الندى العالق بالأشياء الصغيرة, فينتعش ويستعيد قوته.
2. المحبة...
حينئذٍ قالت المطرة: حدثنا عن المحبة.
فقال:
إذا المحبة أومت إليكم فاتبعوها,
وإن كانت مسالكها صعبة متحدرة.
إذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها,
وإن جرحكم السييف المستور بين ريشها.
إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها,
وإن عطل صوتها أحلامكم وبددها كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعاً صفصفاً.
***
لأنه كما أن المحبة تكللكم, فهي أيضا تصلبكم.
وكما تعمل على نموكم, هكذا تعلمكم وتستأصل الفاسد منكم.
وكما ترتفع إلى أعلى شجرة حياتكم فتعانق أغصانها اللطيفة المرتعشة أمام وجه الشمس,
هكذا تنحدر إلى جذورها الملتصقة بالتراب وتهزها في سكينة الليل.
***
المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار حنطة.
المحبة على بيادرها تدرسكم لتظهر عريكم.
المحبة تغربلكم لتحرركم من قشوركم.
المحبة تطحنكم فتجعلكم كالثلج أنقياء.
المحبة تعجنكم بدموعها حتى تلينوا,
ثم تعدكم لنارها المقدسة, لكي تصيروا خبزاً مقدساً يقرّب على مائدة الرب المقدسة.
كل هذا تصنعه بكم لكي تدركوا أسرار قلوبكم, فتصبحوا بهذا الإدراك جزءاً من قلب الحياة.
غير أنكم إذا خفتم, وقصرتم سعيكم على الطمأنينة واللذة في المحبة.
فالأجدر بكم أن تستروا عريكم وتخرجوا من بيدر المحبة إلى العالم البعيد حيثما تضحكون, ولكن ليس كل ضحككم; وتبكون, ولكن ليس كل ما في ما فيكم من الدموع.
المحبة لا تعطي إلا ذاتها, المحبة لا تأخذ إلا من ذاتها.
لا تملك المحبة شيئاً, ولا تريد أن أحد يملكها.
لأن المحبة مكتفية بالمحبة.
***
أما أنت إذا أحببت فلا تقل: "أن الله في قلبي", بل قل بالأحرى: "أنا في قلب الله".
ولا يخطر لك البتة أنك تستطيع أن تتسلط على مسالك المحبة, لأن المحبة إن رأت فيك استحقاقاً لنعمتها, تتسلط هي على مسالكك.
والمحبة لا رغبة لها إلا في أن تكمل نفسها.
ولكن, إذا أحببت, وكان لا بد من أن تكون لك رغبات خاصة بك, فلتكن هذه رغباتك:
أن تذوب وتكون كجدول متدفق يشنف آذان الليل بأنغامه.
أن تخبر الآلام التي في العطف المتناهي.
أن يجرحك إدراكك الحقيقي للمحبة في حبة قلبك, وأن تنزف دماؤك وأنت راض مغتبط.
أن تنهض عند الفجر بقلب مجنح خفوق, فتؤدي واجب الشكر ملتمساً يوم محبة آخر.
أن تستريح عند الظهيرة وتناخي نفسك بوجد المحبة.
أن تعود إلى منزلك عند المساء شاكراً:
فتنام حينئذ والصلاة لأجل من أحببت تتردد في قلبك, وأنشودة الحمد والثناء مرتمسة على شفتيك.

30 - مارس - 2007
الحب الصادق
 49  50  51  52  53