اللهجات العامية في لبنان وسورية (1) كن أول من يقيّم
استوقفتني في الفقرات التي نشرها الأستاذ زهير من كتاب " أخبار حلب " للمعلم " نعوم بخاش " الكثير من الألفاظ العامية الخاصة بمنطقتنا ، بعضها اندثر ، والبعض الآخر لا زال متداولاً حتى اليوم ، وبعضاً منها غيَّر من دلالته : كلفظة " داكش " مثلاً التي قصد بها " حارب " بينما نستخدمها اليوم بمعنى " بادل " أو " قايض " . ولمحاولة التقرب من هذا الموضوع الشائك للغاية ، لندرة الدراسات حوله ، ولصعوبة تتبعه لمن لا يتكلم اللهجة نفسها ، ساحاول إدراج دراسة صدرت قديماً عن المجمع اللغوي الملكي ( مجمع اللغة العربية في القاهرة حالياً ) كتبها الأستاذ : عيسى إسكندر المعلوف ، عضو المجمع : اللهجة العامية العربية في لبنان وسورية: شرحنا لك بالمقدمة السالف ذكرها حالة اللغة الحاضرة، وما هي عليه لعهدنا وحالة الناطقين بضادها، وما تقلّب عليهم وعليها من العوامل التي غيرتها وبدلتها في عصورها المختلفة، حتى وصلت إلى حالتها الحاضرة؛ فكانت لغة كل قطر العامية تختلف عن الأخرى بألفاظها وأساليبها والتلفظ بها وآدابها الباقية فيها آثارها من أدب ونثر وشعر، وما يندمج في ذلك من المقومات والتصرفات، فتحكم إذن بما يقودك إليه ذوقك السليم على أنني سأشبع الكلام على قدر الطاقة فيما يجب البحث عنه ومالا ندحه فيه عن التقصي في شؤون العامية بما لا يخرج عن حدود الموضوع، ناظرًا إلى معارضتها باللغة الفصحى واللغات التي استعارت منها ألفاظها بالملابسة والمشافهة مما أشار إليه كثير من علمائنا بجمعه، إما لاحتقارهم اللغات العامية وعدّها ميتة لا فائدة لها، وإما لإهمالهم إياها تقصيرًا وتوفيرًا لأوقاتهم التي صرفوها في أغراض أخرى كانت في نظرهم أولى منها بالبحث والتعريف، مع أن العامية هي بقية اللهجات التي تغلبت على اللغة، فتركت آثار القبائل واللغات والعوامل فيها دالة على أصلها. ما اللهجة العربية العامية؟ هي لغة فصيحة موضوعة في عصور مختلفة للتعبير عن الأفكار بقوالب كثيرة، اصطلح عليها أبناؤها في كل قطر وبكل وقت، فلاكتها الألسن وتلاعبت بها التصرفات، فتغيرت أساليبها وتلوَّنت ألفاظها بين فصيحة محرّفة أو مصحفة وأجنبية دخيلة ومرتجلة غريبة، ولحن شائع، وتصرف شائن، حتى بعدت في بعض الوجوه والأساليب عن أصلها الفصيح ومؤداها البليغ، فكادت من هذه الوجوه تكون لغة قائمة بذاتها. ولقد عرفت هذه التطورات من أوائل عهد اللغة فتنبه اللغويون إليها وذكروها في مؤلفاتهم، وفي حوادث الحجاج، والشعبي، والكسائي، وسيبويه، وابنة أبي الأسود الدؤلي، والأعرابي، والإمام عليّ بن أبي طالب، وغير ذلك من المناظرات والمناقشات في عصور مختلفة ما يغني عن التفصيل، فارجع إلى ذلك في كتب اللغة والأدب المتداولة بيننا، وما عقب ذلك إلى يومنا من التطورات والتقلبات التي هي أكبر دليل على بدء ضعف الملكة الفصحى، والذهاب إلى فساد اللغة الصحيحة، وتعدي قوانينها وتجاوز حدود قواعدها، مما دار على الألسنة فأفسدها، وتفشى بين العامة بتوسع وتسرع، حتى أدى إلى هذه الحالة، فوسم اللغة بميسم التقهقر، وكاد يقضي على بلاغتها، ويودي بفصاحتها، ويزري بقدرها؛ فتضاربت الآراء بشأن اعتمادها أو إهمالها، فكان الناس فريقين في شأنها، فمنهم من أراد إبقاءها على علاتها واستعمالها وإهمال أمها الفصحى، ومنهم من خالف ذلك الرأي صادعًا بإماتتها لئلا تكون حجر عثرة في سبيل الفصحى، مما سبقت الإشارة إليه(1). ولعل أول فساد دخل عليها : من مخالطة الأعاجم بطمطمانيتهم، ورطانتهم، ولُكْنَتهم، ولثغتهم، وفشا ذلك الفساد بين القبائل المتجاورة فكثرت لهجاتهم ولغيَّاتهم، واختلفت بعض قواعدهم وتلونت آراؤُهم مما دونته كتب العلوم اللسانية واللغات في المعجمات والأصول والتفاسير والنقد والمناظرات وما ساوق هذه من الفواعل. فكانت لتلك الأسباب تتباعد اللهجات عن أمها اللغة الفصحى، لكثرة ما يتنازعها من التصرف والتبدل، فتتغير قواعدها، وتختلف أساليبها، وتتشوه محاسنها باللحن الذي يعتورها والتصرف الذي يتغلب عليها. ومَنْ عَرَفَ قولَ ابنة أبي الأسود الدؤلي له ذات يوم: ما أحسنُ السماءِ، وهي تريد التعجب من حسنها، فكانت القاعدة فتح النون والهمزة الأخيرة، وقول أحدهم للقاضي: مات أبانا وخلَّف بنون عوض مات أبونا وخلف بنين، أدرك أن الفساد تفشى في تلك الآونة حتى طفح كيله بدليل قول أبي الأسود الدؤلي: فلا أقول لقِدْر القوم قد غَلِيت ولا أقول لباب الدار مغلوق لكن أقول لبابي مغلق وغلت قدري وقابلها دن وإبريـق ـــــــــــــ () في الجزء الأول من مجلة المجمع ( الصفحة 350 ). فوضع الدؤلي قواعد النحو بإشارة الإمام علي بن أبي طالب لتفشي اللحن، وكان حاتم الطائي قد قال قبل ذلك العهد: إلههم ربي وربي إلههم فأقسمت لا أرسو ولا أتمعَّد وأراد بالرسو والتمعّد إبدال الصاد زايًا كقولهم الزقر في الصَّقر، وقول عامتنا الزغير للصغير. وظهر في القرن الثامن للهجرة فن ( المواليا ) وهو الشعر باللغة العامية أو الأناشيد، فكان كل ذلك من الأسباب الداعية إلى إصلاح اللغة العامية التي كانت خطرًا على الفصحى لهذين العاملين الأولين وهما: (1) عدم وجود العلوم اللسانية لضبط اللغة واشتقاقها، وقلة المجتمعات التي تعين على رفع شأن الفصحى، وعدم توافر المعجمات التي تقيد أوابدها وتضبطها فكثرت لهجاتها واستشرى فسادها. (2) اختلاط العرب بأمم متعددة ألسنتها مختلفة قواعدها، وتناول اللغة من السماع واللهجات التي تخالف الفصحى، فكثر الدخيل وفشت العجمة وعم اللحن، وهاك الآن بحوثا في الألفاظ العامية واشتقاقها وفي قواعدها وأساليبها: |