مقال فى العبودية المختارة ....إتين دى لابويسيه (6) كن أول من يقيّم
هناك ثلاثة أصناف من الطغاة : البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب والبعض الآخر بقوة السلاح والبعض الثالث بالوراثة المحصورة فى سلالتهم . فأما من انبنى حقهم على الحرب فنعلم جيدا أنهم يسلكون ،كما نقول ،فى أرض محتلة . وأما من ولدوا ملوكا فهم عادة لا يفضلونهم قط لأنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدور الطغيان يمتصون جبلة الطاغية وهم رضاع وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد ويتصرفون فى شؤون المملكة كما يتصرفون فى ميراثهم ،كل بحسب استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ . أما من ولاه الشعب مقاليد الدولة فينبغى فيما يبدو أن يكون احتماله أهون . ولقد يكون الأمر كذلك على ما أعتقد لولا أنه ما إن يرى نفسه يرتقى مكانا يعلو به الجميع وما إن يستغويه هذا الشىء الغريب المسمى العظمة حتى يعقد النية على ألا يتزاح من مكانه قط . ثم أن هذا الرجل لايلبث أن يشرع عادة فى اسناد القوة التى سلمه الشعب إياها إلى أبنائه . وما أن يتلقف هؤلاء هذه الفكرة حتى نشهد شيئا عجبا : نشهد إلى أى مدى يبزون سائر الطغاة فى جميع أبواب الرذائل بل فى قسوتهم دون أن يروا سبيلا إلى تثبيت دعائم الاستبداد الجديد سوى مضاعفة الاستعباد وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم حتى يعفو عليها النسيان رغم قرب حضورها فى ذاكرتهم . فكلمة الحق هى أنى أرى بعضا من الاختلاف بين الطغاة ولكنى لا أرى اختيارا بينهم لأن الطرق التى يستولون بها على زمام الحكم ليكاد يختلف : فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله ، والغزاة كأنه فريستهم ، والواثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكا طبيعيا . فهب فى هذا الموضع أن الصدفة شاءت أن يولد نمط جديد كل الجدة من البشر ،لا ألفة لهم بالعبودية ولا ولع بالحرية ولا يعلمون ما هذه ولا تلك بل يجهلون حتى اسميهما ، ثم خيروا بين الرق وبين الحياة أحرارا ، فعلام يجمعون ? لا مجال للشك فى أنهم سوف يؤثرون طاعة العقل وحده على خدمة رجل ما – هذا إلا إذا كان هؤلاء هم شعب إسرائيل الذى نصب طاغيا عليه بغير إكراه ولا احتياج : وأنه لشعب لا أقرأ قصته أبدا دون أن يتملكنى حنق عظيم حتى لأكاد أتجرد من الإنسانية فأفرح بجميع ما نزل عليه بعد ئذ من البلايا . ولكن طالما بقى بالإنسان أثر من الإنسان فهو يقينا لاينساق إلى العبودية لا عن حد سبيلين : إما مكرها وإما مخدوعا . مكرها إما بسلاح أجنبى مثل مدينتى أسبرطة وأثينا إذ قهرتهما قوات الإسكندر ، وإما بطائفة من مجتمعه مثلما حدث فى أثينا فى زمن أسبق حين استولى بيسيستراتس على مقاليد الحكم . فأما الخديعة من حيث تؤدى أيضا إلى فقدان الحرية فرجوعها إلى تغرير الغير يقل فى أكثر الأحيان عن رجوعها إلى كون الناس يخدعون أنفسهم بأنفسهم . مثال ذلك شعب سيراقوصة (عاصمة صقلية ) إذ هجم عليه الأعداء من كل جانب ولها فكره عن كل شىء إلا عن الخطر الحاضر فرفع ديونيسسيوس إلى الرياسة دون نظر إلى المستقبل وأسند إليه قيادة الجيش ولم يدرك إلى أى حد قواه إلا حين رجع هذا الداهية منتصرا كأنه غزا مواطنيه لا أعدائهم فتسمى باسم القائد ثم بالملك المطلق . وإنه لأمر يصعب على التصديق ان نرى الشعب متى تم خضوعه يسقط فجأة فى هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد يسلبه لقدرة على الاستيقاظ لاستردادها ويجعله يسرع إلى الخدمة صراحة وطواعية حتى ليهيأ لمن يراه أنه لم يخسر حريته بل كسب عبوديته . صحيح أن الناس لايقبلون على الخدمة فى أول الأمر إلا جبرا وخضوعا للقوة ولكن من يأتون بعدهم يخدمون دون أن يساورهم أسف ويأتون طواعية ما أتاه السابقون اضطرارا . ذلك من ولدوا وهم مغلولوالأعناق ثم اطعموا وتربوا فى ظل الاسترقاق دون نظر إلى أفق أبعد يقنعون بالعيش مثلما ولدوا . ثم أنه لما كان التفكير فى حال مختلفة أو فى حق آخر لايطرأ على بالهم ،فهم يأخذون وضعهم حال مولدهم مأخذ الأمر الطبيعى . ومع هذا فما من وارث إلا نظر أحيانا فى مستندات أبيه ليرى هل يتمتع بحقوق تركته أم أن غبنا قد لأصابه أو اصاب سلفه . لكن لاشك أن العادة مع سيطرتها علينا فى كل مجال لا تظهر قوة تأثيرها مثلما تظهر حين تلققننا العبودية وحين تعلمنا . مثلما قيل عن ميثريدات الذى صار السم عنده شرابا مألوفا ، كيف نجرع سم الاسترقاق دون الشعور بمرارته ??? لاجدال فى أن للطبيعة نصيبا كبيرا فى توجيهنا حيث تشاء وأننا نولد على ما تدخره لنا من فطرة حسنة أو سيئة . ولكن لا مناص من التسليم بأن سلطانها علينا يقل عن سلطان العادة لأن الاستعداد الطبيعى مهما حسن يذهب هباءا إ ذا لم نتعهده . فى حين أن العادة تفرض علينا صوغها أيا كان هذا الاستعداد . |