اللقاء الأول مع نابليون ( 13 ) كن أول من يقيّم
مقابلة مع بونابرت بعد أن صادق المجلس التشريعي على معاهدة التطبيع (1) Le Concordat في العام 1802 ، أقام لوسيان (2) ، وكان وزيراً للداخلية ، حفلاً على شرف أخيه دُعيتُ إليه بصفة أنني عملت على حشد القوى المسيحية وأعادتها إلى موقع المشاركة في المسؤولية . كنت في الصالة الكبرى عندما دخل نابليون وربت على كتفي بتحبب . حتى ذلك الحين ، لم أكن قد لمحته سوى من بعيد . كانت بسمته رقيقة وساحرة وفي نظرته الكثير من الغواية خصوصاً بالطريقة التي يعلوها جبينه وهي من تحته محاطة بالحاجبين (3) . حتى ذلك الحين ، لم يكن لديه بعد أي خبث ظاهر في عينيه أو شيء من الحقد أو الادعاء . " عبقرية المسيحية " (4) الذي كان قد أثار من حوله الكثير من الضجة في حينها ، كان قد أثر على نابليون . ذلك السياسي البارد كانت تحركه مخيلة خارقة ولولا وجود هذه الملهمة لديه لما استطاع أن يكون ما هو عليه ، فالعقل يحقق ما لدى الشاعر من أفكار . كل هؤلاء الرجال العظام يوجد لديهم مركب من طبيعتين لأنه يتوجب عليهم امتلاك القدرة على الابتكار ، والقدرة على العمل . الأولى تخلق الخطط ، والثانية تنفذها . لا أعلم كيف لمحني بونابرت وتعرف إلي ، وعندما توجه نحوي لم يكن من الواضح معرفة الشخص الذي كان يبحث عنه ، فكانت الصفوف تفسح الطريق من أمامه ، وكل واحد من الحضور كان يتمنى لو أن القنصل الأول يتوقف عنده بينما كان يبدو على نابليون التأفف من هذه المراعاة لشخصه التي كان يحظى بها . كنت أحاول الإختفاء خلف من هم بجواري حين علا بصوته قائلاً : " سيد شاتوبريان ! " فبقيت وحدي عندها في المقدمة بينما تحلق الجمع من حولنا بما يشبه الدائرة . كان بونابرت يتكلم ببساطة شديدة ودون مجاملة ، ودون أن يطرح علي أسئلة فضولية . وبدون مقدمات ، حدثني رأساً عن العرب والمصريين ، كما لو أننا كنا معرفة قديمة ، وكما لو انه يكمل معي حديثاً كنا قد بدأناه سابقاً : " لشدة ما كان يثير عجبي رؤية " المشايخ " وهم يخرون ساجدين في وسط الصحراء ، وجوههم متجهة صوب الشرق ، وجباههم تلامس التراب ، فما هو هذا المجهول الذي كانوا يعبدونه لجهة الشرق ? " . يقاطع بونابرت نفسه وينتقل بدون أي تمهيد إلى فكرة أخرى : " المسيحية ! ألم يشأ الإيديولوجيون أن يجعلوا منها منظومة فلكية ? وحتى لو فعلوا فهل يظنون بأنهم سيقنعونني بأن المسيحية هي بالشيء القليل ? لو كانت المسيحية هي تأويل لحركة الدوائر ، فإن هندسة الفلك ، وأصحاب العقول الفذة قد احسنوا صنعاً ، فرغماً عنهم ، بقي الكثير من العظمة لهذا " الشيء الشائن " (5 ) . بكل سلاسة يبتعد ، كأنه " أيوب " قد مرَّ في ليل وحشتي ، كأن شبحاً قد مرَّ من امامي فاقشعر له بدني : لقد وقف هنا ، ولم أعد أذكر وجهه ، لكن صوته أتاني وكانه من نفح الروح . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) Le Concordat هي معاهدة وقعها نابليون ( القنصل الأول ) في العام 1802 مع الكنيسة الكاثوليكية ممثلة بالبابا بي السابع ، وتنص على أن الديانة المسيحية الكاثوليكية هي دين الغالبية الساحقة من الفرنسيين مقابل أن تعترف الكنيسة بالجمهورية الفرنسية . (2) Lucien Bonaparte شقيق القنصل الأول ووزير الداخلية آنذاك (3 ) كانت ابتسامة نابليون الساحرة ونظرة عيونه الشديدة الزرقة بلونها الداكن قد أثارت إعجاب جميع معاصريه . (4) عبقرية المسيحية Génie du Christianisme كتاب ألفه شاتوبريان وعمل صديقه فونتان على نشره في نفس الفترة التي تم فيها التوقيع على المعاهدة مع الفاتيكان وكان ذلك التخطيط قد تم من نابليون نفسه بما يخدم مصلحته السياسية . (5 ) في هذه الجملة إشارة غير مباشرة للدور الذي لعبه شاتوبريان وكتابه في عبقرية المسيحية بالرد على " الإيديولوجيين " ( الذين كانوا ينادون بحرية الفكر وهي حركة فكرية بدأت مع فولتير وأشهر من يمثلها لوك وكوندياك ... ) . |