البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات ضياء العلي

 42  43  44  45  46 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
كل رمضان وأنتم بخير    كن أول من يقيّم

 
صباح الخير إخوتي وأخواتي ومبروك علينا وعليكم قدوم الشهر الكريم .
 
تحيتي بدايتها للأستاذ يحي المصري صاحب الكناشة لأنه كان الأسبق في تقديم التهاني وله الفضل في هذا ، وأؤكد لك يا أستاذ يحي بأن ضميري لا يرتاح كل يوم حتى أقرأ كناشتك فأشعر بأنني أديت فرض اللغة العربية . وتحية خاصة للأستاذ السعدي الذي أسعدنا حضوره وتمنياتنا له ولعائلته الكريمة برمضان مبارك . وتحيتي لراعي موقع الوراق وصانعه الأستاذ محمد السويدي والإخوة والأخوات في الإدارة وشكري لهم على الثقة التي منحوني إياها من بعيد ، وشكري وتحياتي للأستاذ زهير ظاظا وعائلته الكريمة وتمنياتي لهم جميعاً بشهر مبارك ، وتهاني بالشهر الكريم لكل الإخوة والأخوات الأساتذة والدكاترة الذين ذكرهم الأستاذ زهير فرداً فرداً وأنا أتساءل فعلاً عن سبب غياب سراة المغرب العربي ، ولو كنا على علم بمشكلة مولانا بنلفقيه المتعلقة بشبكة الأنترنت في منطقته ، وهذه المشاكل التقنية المتعلقة بضعف الشبكة أو عدم وجودها أحياناً أظنها تتسبب بفقدان الكثير من الأصدقاء لأنني عانيت منها عندما كنت في لبنان ، ونعلم سبب انشغال الأستاذ طه المراكشي وفقه الله إنما يقلقنا غياب الأستاذ سعيد والأستاذ عبد الحفيظ وبقية السراة المغاربة ?? وهي فرصة لتوجيه التحية إلى الأستاذ جميل لحام ولنبارك له بزواج أخته الكريمة ، وفرصة لتوجيه التحية إلى الأستاذ يوسف الزيات والأستاذ إبراهيم عبيد والبحار الغواص ، وفرصة للترحيب بعودة الأستاذ النويهي وفي جعبته الكثير من المقالات والمواضيع الهامة التي يطرحها للنقاش ، وفرصة لتحية الأستاذ زياد عبد الدايم والأستاذ هشام الأرغا والأستاذ ثائر صالح ، وفرصة للترحيب بالأصدقاء الجدد وأخص منهم الشاعرة والأديبة النجيبة لمياء بن غربية ، وفرصة لكي يحتج علينا كل من نسينا اسمه ولم نذكره . وكل رمضان وأنتم بخير .
 

13 - سبتمبر - 2007
رمضان كريم
شاتوبريان وأستاذ الرقص ( 4 )    كن أول من يقيّم

 
نعم أستاذ عبد الرؤوف ، كتب شاتوبريان الكثير في وصف رحلاته إلى العالم الجديد وكان يظن أحياناً بانه كريستوف كولمبوس وهذه التجربة هي من أقوى التجارب التي عاشها وأثرت على تكوينه لأن أميركا كانت بالنسبة له : المنفى ، والرحلة ، والطبيعة البدائية ، وكانت العالم الجديد . وكلنا يعلم شدة تعلق شاتوبريان بالطبيعة وتأثره الكبير بجان جاك روسو . ومن طرائف مذكرات ما وراء اللحد ما ذكره في الكتاب السابع في فقرة بعنوان : " أستاذ للرقص عند الإيروكوا " ( من قبائل الهنود الحمر الأميركيين ) بعد أن عاد من بلتيمور متوجهاً إلى فيلادلفيا ، وبعد أن زار نيويورك وبوسطن ، إتجه نحو شلالات النياغارا ليصف هناك الطبيعة الوحشية للمكان ، ويعلن سعادته البالغة لوجوده في هذا الموقع البديع حيث " لا طرقات ، لا مدن ، لا ملكية ، ولا جمهورية ، لا رئيس ولا ملك ، حيث لا أنسان ..... " لكن سعادته الغامرة تلك تصطدم سريعاً بعنبر لمجموعة من البدائيين الذين كانوا يسكنون تلك الغابة التي ظن للوهلة الأولى بأنها عذراء ولم تطرقها رجل إنسان بعد ، ويجد معهم فرنسياً يعزف على الكمان ألحاناً فرنسية شعبية ويعلم هؤلاء " المتوحشين " الرقص ويتقاضى على ذلك أجره مدفوعاً على شكل فراء قندس أو لحم دب مقددة .
 
" أليست هي تجربة دامغة لمن كان مثلي تلميذاً لروسو أن تكون بداية معرفته بالطبيعة البدائية حفل راقص يقيمه الطباخ السابق ( هو نفسه عازف الكمان ) للجنرال روشمبو على شرف الإيروكوا ? كان لدي رغبة عارمة بالضحك لكنني شعرت بخيبة قاسية  " يقول شاتوبريان .
 
وكل هذه التجارب التي عاشها سوف تولد لديه إحساساً مضاعفاً بالغربة يتجلى من خلال موقفه النقدي الصارم حيال عصره مما نراه واضحاً في مذكراته وهو الموضوع الذي سأحاول الخوض فيه في مقالتي اللاحقة .
 

14 - سبتمبر - 2007
أحاديث الوطن والزمن المتحول
رأي في مسابقة المتسابقين    كن أول من يقيّم

 
" أميــر الشعــراء " وتلفزيــون الواقــع

لا يريد برنار نويل الشاعر الفرنسي ان يمزج قراءة الشعر بالموسيقى، لا يريد للشعر ان يستقوي بأي عامل آخر او ينخلط بنكهة ثانية. يعرف نويل ان الشعر في شدة ضعفه وعيائه لكنه لا يريده ان يستنجد بيد معارة ويؤثر له أن يظهر عارياً كما ولد. برنار نويل مع ذلك ليس ناسكاً للشعر فهو رحالة وناقد وتشكيلي وأدبي وبحاثة وروائي وسيناريست ولا اظن انه يتأبى على اي نوع من الكتابة، فهذا الرجل موجود ليكتب وليحول العالم الى كلمات. لا يريد نويل للشعر ان يتجمل بشيء، بل هو مسرور لأن في ضعفه مستغن عن اي تجميل، ولأنه لا يحتاج لترويج وإعلان ولأنه لا يجد ما يعتمد عليه سوى نفسه. برنار يقول لا بأس في ان يغدو الشعر مهملاً متروكاً، وان تعافه الميديا وينصرف عنه القراء، فهكذا لا يؤدي دينا لأحد ولا يتنازل لشيء.

لست تماماً مع برنار نويل فأنا اظن ان ليس لكثيرين جلد نويل ورؤيته. إذا كان نويل هكذا فلأنه عاصر فترتين للشعر كان في أولهما متوجاً مرموقا وفي ثانيتهما متسولاً مغموراً. نويل وازن بين الفترتين فعلم ان التنصيب لا يرفع والعدم لا يخفض، وان الشعر يبقى هو هو في الحالين. انا مثل برنار عرفت الشعر في الحالين، لكني اخشى ان من أتوا بعدنا لم يذوقوا ما ذقناه فقد وصلوا لتوهم الى باب مسدود ووجدوا أنفسهم في مكان عار، ولا آمن من ان يضجروا من أنفسهم ومن الشعر، بل لا آمن من ان يستهينوا هم بالشعر وقد استهان به العالم فلا يجدونه مستحقاً لما يبذل فيه من دم ودماغ. في هذا بدون شك نزول بالشعر الى حيث تكافئ قيمته مقامه فيكون عندئذ استحق ما ناله، وبدا ان هذا ما فعله بنفسه. لست تماماً مع برنار نويل مع انني اعتصم برأيه كلما رأيت كثيرين حاروا بالشعر وتوسلوا له اي حيلة او طريقة ليعاود الظهور، وما عادوا يقدمون على ذلك شيئا بما في ذلك فنه وعمقه. بت اعتصم برأي برنار كلما رأيت الشعر، وقد بات بضاعة كالبضاعة ولا يطلب منه إلا ان يوجد ويقال بأي صورة وان يجد سوقا، اي سوق، وما عاد له متطلب غير ذلك. وكلما رأيته متساوياً متماثلاً على غرار واحد، او رأيته وقد صار شبه نفسه ومحاكيها ومقلدها احياناً. اعتصم برأي برنار الا اني اعلم ان هذا بيني وبين نفسي، فإني اخشى ان تتظافر على الشعر العزلة والتطلب فيغدوا امره حرجاً، ويتحول فعلاً الى مجاهدة بلا ثمن.

اقول ان من حقنا نحن ايضا ان نتجمل مثل غيرنا، ولو باحتياط وتحفظ، فكثير من التجمل لفن كالشعر يجعله اقرب الى التهريج والتزويق، اقول ان من حق الشعر ان يتوسل موسيقى رائجة وان يدخل الى الناس من على الشاشات وان يمتزج بالموسيقى ولا بأس من بعض المسرحة، لكني اعترف اني كل مرة رأيت الشعر فيها في ما يشبه البرفورمانس أسأل نفسي أين مقام الشعر من مقام غيره في مثل هذه الأداءات. وهل يقدر فعلاً على ان يباري المسرح او الموسيقى، وأي شعر تحتاجه هذه المناسبات. هل يعود شعراً في ذاته ام انه من لزوم البرفورمانس، وهل المطلوب هو الشعر ام شيء كالشعر وقلما يسمع الا كما يسمع الطبل في جوق مخلوطا بغيره لا ينفرز من سواه.

هذه حيرة بدون شك، اريد ان أكون ارحب صدراً لكن الامثلة تصدني. في النهاية لم اجزم ولم أحسم، قلت ان القليل يكفي لكني مع ذلك لبثت اشعر كبرنار بأن الشعر ضعيف امام كل فن آخر، وان اي مصاحبة تأخذ منه وتزيده ضعفاً، او تكشف ضعفه على الاقل. الناي يربح عليه والأداء يصرف عنه والتمثيل يجعله ثانوياً. هكذا يؤتي الأمر عكس ما نرتقبه فنزج الشعر في مباراة صعبة، ونجعل ضعفه وعياءه اظهر وأبرز، القليل يكفي وربما يقتل. لكننا لا نستطيع ان نجزم، فالشعر في حاله هذه الصعبة لا نستطيع ان نحبس عنه اي دواء.

كل هذه المقدمة لأقول اني امام برنامج شاعر المليون في قناة ابو ظبي لم استطع ايضا ان اقطع. بدا الأمر لي اعجوبة لكن لم اجازف بأن احرم الشعر من الأعاجيب. ان تكون للفائز جائزة هي فعلاً ثروة. بضع مئات الآلاف من الدولارات. مبلغ قريب من جائزة نوبل، وان يحتفى به على شاشة تلفزيونية متاحة لعشرات وربما مئات الآلاف، انه التلفزيون أيا يكن فهو لا يغيب عن النظر، ثم هناك هذا الانتخاب لشاعر المليون من قبل الجمهور مثله مثل النجوم، يتنازعه الناس ويحتشدون حوله تبعا لاعتبارات شتى. هكذا يغدوا الشعر سبباً لبطولة بعد ان غاب عن الساحة دهراً، لا بد ان للكيتش والشعبية في هذا الزمن غواية فعلية فلماذا يبقى الشعر وحده نبيلاً راقياً. كان على احدنا ان يجازف وها هي المجازفة تأتي من دون عناء ولا تحتاج الى تضحية. انها مسابقة فيها كل الكيتش وكل الشعبية، شعراء يتبارون كما لو انهم في عكاظ حديثة وقصائد تمر على لجنة محكمة هي ايضا جزء من هذا الكيتش، ثم تتجاذب من الجمهور لأسباب يدخل فيها الاسم والنسب والمحلة. انها مجازفة ليست على حسابنا، لقد قام بها عنا آخرون، وعلينا ان نشكرهم لأنهم وفروا علينا تضحية لسنا على استعداد لها أساساً. وليكن ما يكون، لقد وجدت المنظر هكذا، شعراء يقرأون جالسين وكان احسن اداء ان يقرأوا واقفين اذ لا نتخيل ان شعراء عكاظ كانوا يقرأون في مقاعد وثيرة، كان بعضهم ينشد من على ظهر حمله او من على كومة، فالمهم ان يكونوا مرتفعين، اما ان ينخفضوا في مقاعدهم كما يفعل الناس في المآدب الرسمية فهذا ما لا يطابق. لجنة محكمة كتلك التي في مسابقات نجوم الغناء، وهي في الغالب واعية لهذا الشبه وتترسمه عامدة، وجمهور حاضر مفتعل اكثر من ذلك الذي في برامج النجوم وأقل جلبة مع اضافات تفخيمية يفترض انها خاصة بالشعر وهي ليست خاصة بشيء. يقرأ الشاعر فيقول الناقد عبد الملك مرتاض انها قصيدة، ويقول الممثل غسان مسعود انه لا علم له بالشعر الحديث فذائقته تكونت على العمودي، ويلقي صلاح فضل خطاباً في الوطنية ويضيف شيئاً من كليشيه النقد الحديث!. انه كلام من خلاصات النقد كما ان الشعر الملقى غالباً من خلاصات الشعر. هناك شعر عمودي غالباً هو نوع من نمذجة للشعر العمودي وقصيدة حرة هي نمذجة للشعر الحر. يردها احد المحكمين الى الشعر القديم بدون ان ينتبه انها من ترددات خليل حاوي (بيني وبين الباب...) ويُطرد الشاعر التفعيلي مع قصيدته لأنها لم تصب الهدف بالقدر الذي يستطيع فيه لاعبو كرة السلة ان يبلغوا أهدافهم. لن نحلم بالطبع بأن نجد شاعراً فريداً فما ينشد هنا هو للذوق العام، وليس اكثر من تمارين او اعادات. لا اللجنة ولا الجمهور بصدد اكتشاف شاعر، انما جاؤوا جميعاً ليشهدوا لتلخيصات شعرية، ومن الطبيعي ان العمودي اكثر استعداد للتلخيص والامثلة. اننا امام حرفة ومعلمية لكننا ايضا امام تحويل الشعر الى تقويل بحت ومماهاة الشعراء بالقوالين. لقد بات ممكنا امتحان الذاكرة لدى الشعراء والمحكمين والجمهور معاً، وان يشترك الجميع في هذا ?الشعر العام المعمم?.

للجميع الآن هذه الفرصة في ان ينتقموا من الخيال الصعب والعمق المعذب، وان يعيدوا الشعر الى حيث يمكن ان يكون فعلاً طرباً وإنشاداً. ذلك سباق لم يجهز له شعر التفعيلة بعد وسيخرج من السباق. اما الشعر الذي طرد ظلما من الساحة وبقي مع ذلك حيا في الزوايا والتكايا والمضافات والديوانيات والاحتفالات البلدية، هذا الشعر الذي تحول بسبب ذلك الى نوع من التقويل، فقد غدا اكثر شعبية وأكثر حرفية، وها هي الآن ساعته ليخرج الى الشاشات وينتصر.

كل شيء تحقق كما تخيلته وكان عليّ ان اغتبط، على الاقل بمخيلتي، لكني خجلت من نفسي ومن المحكمين ومن الجمهور ومن الشعر. بدا لي فجأة عودة المكبوت في الشعر كما في كل شيء هو ما يتحقق، وأن التلفزيون، هذه الآلة العجيبة، سيتكفل بنشر كل مخلفاتنا وكل حقيقتنا المدفونة، لماذا لا. هكذا يستمر تلفزيون الواقع.
 
 ** عن السفير الثقافي هذا الصباح 14/ 9 / 2007

14 - سبتمبر - 2007
مسابقة المتسابقين
رومانسية شاتوبريان وشفافيته ( 5 )    كن أول من يقيّم

 
كانت حياة شاتوبريان سلسلة من المغامرات والإخفاقات ، وكان هو شخصية رومانسية حاولت التعبير عن تلك التجارب وتلك الإخفاقات بصدق وحسن طوية ، وما رغبته في نشر مذكراته بعد موته بخمسين سنة إلا دليل على حرصه الشديد على أن يكون شفافاً إلى أبعد درجات الصدق والشفافية ، وبأنه على وعي تام بعدم إمكانية الالتزام بهذه الأمانة طالما أنه يعيش بين بني البشر لأنه منتم رغماً عنه ، وبأن صداقاته وعداواته الكثيرة سوف ترغمه على طمس أو تحريف بعض الحقائق . من هنا ، ومن هذا الموقع ، كان اختياري ل" مذكرات ما وراء  اللحد " لأنها آخر ما كتبه ، ولأنها الأكثر التزاماً بهذا الهدف النبيل الذي حدده لنفسه حتى ولو بدا نجاحه نسبياً ، كونه بقي أسير تجربته وعذاباته المريرة ، إلا أن محاولته جديرة بالاهتمام لأننا نلمح فيها تلك الإرادة التي تحاول تكوين رؤية جديدة للذات وللآخر ، إلى جانب ما تحمله إلينا من الجمال والمتعة . وما اهتمامه ومعاينته لتلك المجتمعات البدائية إلا جزء من بحثه عن " المتوحش النبيل " الذي كان يؤمن به على طريقة جان جاك روسو ، ولأن رومانسيته كانت تدفعه إلى الحلم بالعودة إلى أحضان الطبيعة والتصالح معها .

15 - سبتمبر - 2007
أحاديث الوطن والزمن المتحول
ما نعرف وما لا نعرف    كن أول من يقيّم

صحيح أستاذ هشام ، نحن لا نعرف الكثير عن عصرنا رغم أن كل الشبابيك تبدو اليوم مشرعة وتبدو المعرفة وكأنها بمتناول الجميع . هذا غير صحيح ، نحن لا نعرف إلا ما نلقن من المعلومات عبر وسائل الإعلام ، ولا يصلنا من الكتب والدراسات إلا ما تسمح بنشره المؤسسات الناشرة ، ولا نتعلم في المدارس والجامعات إلا ما يلزم الحكومات القائمة عليها من إعداد للكوادر اللازمة للعمل في إداراتها ومؤسساتها ومصانعها ومختبراتها إن وجدت ، ولا نعلم عن أنفسنا إلا ما تسمح به تجاربنا الشخصية المختلفة والتي غالباً ما نعيد حياكتها وترجمتها بما يخدم الدائرة الحميمة من القناعات والإعتقادات التي هي ثمرة ميولنا وعواطفنا ، ولو شئت قل ضعفنا ، التي اختزناها جيلاً بعد جيل وشكلنا منها تلك الدائرة من الأوهام الحميمة التي نشعر معها بالأمان . تقع الأزمة عندما يبدأ الإحساس بعدم الأمان يتسلل إلى نفوسنا ، ويبدأ معه الشعور بأن هذه القناعات لم تعد تشكل الدرع الواقي لحمايتنا من الخطر ، عندها ، وعندها فقط يبدأ التساؤل وإعادة النظر بكل ما نعرفه ، وكل ما ورثناه ، وكل ما تخيلنا بأنه واقع وحقيقة ، وتبدأ رحلة عبور أخرى وهي رحلة محفوفة دائماً بالعذاب والمخاطر ، رحلة البحث عن أوهام جديدة ، نبدل فيها الأبطال بالأبطال والقرابين بالقرابين ........ من هنا ، ومن هذا الموقع نسأل شاتوبريان وغيره وغيره وغيره ، لكي يكشف لنا عن تجربته ويساعدنا في رحلة عبورنا
 
مع هذا ، يوجد لحظات من السعادة في رحلة الألم تلك تشدك إليها بوثاق من حرير ، مساحات من الجمال مركونة هنا وهناك في الطبيعة ، في الأدب ، في الشعر ، في الموسيقى ، في المدن والأسواق والمتاجر والساحات ، في تفاصيل الحياة الصغيرة ، في الإنسان الذي يسعى دائماً لتجميل العالم من حوله وفي نفس الوقت الذي يسعى فيه لتدميره .
 
ولقد اخترت من كتابات شاتوبريان فقرة هي أنشودته في وداع الشباب سوف أترجمها لكم لأنني أرى فيها الكثير من الجمال ، وأهديها لمولانا لحسن بنلفقيه عرفاناً مني بجميله .
 

16 - سبتمبر - 2007
أحاديث الوطن والزمن المتحول
أنشودة شاتوبريان في وداع الشباب ( 6 )    كن أول من يقيّم

 
الشباب
 
 ساحر هو الشباب ، ينطلق في بداية الحياة متوجاً بأكاليل الورود ، كما أنطلقت أساطيل أثينا المبحرة لغزو " صقلية " والضياع الوادعة المحيطة بجبل " إينا " . حين ترفع الصلوات عالياً ، يتلوها كاهن معبد " نبتون " ، وتهرق النذور من الكؤووس المذهبة . الجموع المكتظة على حافة الماء تتضرع إلى السماء ليتوحد دعاؤها بدعوات قبطان الرحلة ، وتصدح أنشودة الابتهالات المقدسة في الوقت الذي تفرد فيه الأشرعة على ضوء إشراقة الصباح الأولى وفي عبق أنفاسه . على ناصية السفينة ، فخوراً بالعربات السبع التي كان قد أطلقها في الألمبياد ، يختال " ألسيبياد " متلفحاً بثوب أرجواني ، بهي الطلعة كأنه الحب . لكن ، وبالكاد كان قد تخطى جزيرة " ألسينوس " حتى تبددت أوهامه : " ألسيبياد " المبارك سوف يشيخ بعيداً عن وطنه ، مخترقاً بالسهام ، على صدر " تيماندرا " . أصدقاؤه وطموح شبابه ، عبيد لدى " سيراكوس " ، وكل ما يملكونه هو بضع أبيات من " الملحمة " تخفف عنهم ثقل أغلالهم .
 
لقد شاهدتم صباي وهو مبحر . لم يكن لديه جمال " يتيم بيريكلس " ( ألسيبياد ) الذي ربته " أسبازي " في حضنها ، إنما كانت له ساعات إشراقه : طموحات وأحلام ، الله وحده عالم بها ! ولقد وصفتها لكم هذي الأحلام . اليوم ، وبعد عودتي من مناف عديدة إلى أرض اليابسة ، لم يعد لدي ما أرويه سوى حقائق حزينة تشبه العمر الذي بلغته . ولولا عزفت قيثارتي أحياناً بعض دندنات ، فإنها آخر نغمات الشاعر ، الذي يحاول أن يبرأ من سهام الزمن ، وأن ينسى عبودية السنين .
 
 
 

16 - سبتمبر - 2007
أحاديث الوطن والزمن المتحول
شاتوبريان الغريب عن عالمه ( 7 )    كن أول من يقيّم

 
 " عندما سيسدل الموت وشاحه ليفصل بيني وبين العالم سنجد بأن مأساة حياتي كانت تنقسم إلى ثلاثة أقسام : منذ الطفولة الأولى وحت العام 1800 كنت جندياً ورحالة ، ثم بين ال1800 وال1814 كنت مستشاراً وقنصلاً في عهد الأمبراطورية وكانت حياتي أدبية ، ثم منذ عودة الملكية وحتى اليوم كانت حياتي سياسية ....... "
 
" في تلك المهن المتعاقبة كنت أضع لنفسي هدفاً عظيماً : كرحالة كنت أطمح لاكتشاف العالم القطبي ، كأديب حاولت إعادة الاعتبار إلى الدين على أطلال الحاضر وبعد الخراب الذي حصل . كرجل دولة ، حاولت جهدي أن أعيد للشعب النظام الملكي الحقيقي الممثل له بكل تنوعات حرياته : حاولت الحفاظ على الحريات التي تستحق كحرية الصحافة وأنا أضع بعين الاعتبار كل التركيبة . إذا كنت قد فشلت غالباً في هذه المهام ، وإذا كان القدر قد انحرف بي عن إتمامها ، فلأن " الغرباء " الذين توالوا بخططهم ونجحوا قد أسعفتهم ثرواتهم ، أو كان وراءهم أصدقاء أقوياء ، وجزء من حياتهم كان مستقراً : أنا لم أحصل على كل هذه السعادة ........... "
 
 " هذه المذكرات المقسمة إلى كتب ومواضيع تمت كتابتها في مواضع وتواريخ مختلفة : هذا التقسيم يستدعي وبشكل طبيعي نوع من الديباجة تذكرنا بالحوادث التي حصلت منذ التواريخ الأخيرة والتي ترسم الأماكن التي تتيح لي إعادة الإمساك بالخيط الموجه لسردي . الأحداث المتنوعة والأشكال المتغيرة لحياتي تتداخل بعضها ببعض : يحدث مثلاً في لحظة معينة من أيام ثروتي أن أتكلم عن فترة البؤس والفاقة ، وأن أتكلم في فترة الاضطراب عن أيامي السعيدة . هذه العواطف المتغيرة لفترات عمري المختلفة ، شبابي الذي يقتحم كهولتي ، خطورة سنوات التجربة القاسية التي أثقلت عندي سنوات الفرح ، شعاع شمس حياتي منذ فجرها وحتى ساعة الغروب تتقاطع وتلتبس كما الظلال الهاربة لحياتي لتعطي نوعاً من الوحدة التي من الصعب تحديد هويتها لهذا العمل : مهدي فيه شيء من لحدي ، لحدي فيه شيء من مهدي ، عذاباتي تتحول إلى متعة ، متعتي إلى ألم ، ولا نعلم إذا كانت هذه مذكرات رأس شابة أم مكسوة بالشيب ......... " ( من المقدمة الوصية ) .
 
كيف نكتب إذاً ب " الأنا " توجهاً تاريخياً ، وتوجهاً حميماً ?
 
قبل أن يجيب شاتوبريان على هذا السؤال ، يبدأ بتشريح هويته الاجتماعية ، وبتحديد موقفه من التاريخ ، بحيث يضع نفسه سلفاً في منفى " موضوعي " ( هو الغريب عن عالمه ) وكأن هذا الغياب الطوعي عن العالم هو موقف نقدي أصيل يؤسس توطئة لكتابة أصيلة عن الذات .
 
ضمن هذا السياق ، يطرح شاتوبريان مشكلة الهوية ليتساءل بشيء من النبوة : " من أنا ? وما الذي جئت لأعلنه للبشر ?? " . ثم يحيد بالجواب قليلاً عن هذا السؤال ، ويتوجه إلى مواطنيه على أنه واحد منهم ولكن بما يشبه البوح قائلاً : " أنتم لاعبون ، وتعملون بألم ، أيها الفرنسيون التعساء . يا من رأيتم ثرواتكم وأصدقاءكم تبتلعهم الثورة . أخيراً ، ها أنتم الغرباء ! " . فيكون شاتوبريان قد اختار الغربة ، أو المنفى الطوعي ، كبداية لتأسيس معرفة جديدة بالعالم ، أوكأن هذه الغربة هي طريق الولوج الوحيدة إلى الذات .
 
وسأستعيد مجدداً جملته في وصف هذا العالم الداخلي فهو يقول : " يحمل كل إنسان في نفسه عالماً مركباً من كل ما أحبه وشاهده ، يعود إليه دائماً ، في الوقت الذي يجتاز فيه ويبدو بأنه يسكن في عالم غريب عنه " . ف " الأنا " الحميمة ، هي عالم قائم بذاته ، وهي الصدى الصامت لطفولة بعيدة الغور تطفو على سطح الذاكرة الواعية ، تستدعيها اللحظة الراهنة ....... ومن هذا التشتت ، ونتيجة لهذا التقاطع ، تتكشف حقيقة أخرى وهي : بأن " الأنا " الحميمة ، عالم مستقل بذاته ، ولا يمكن لأي عالم خارج عنه قهره ، أو اقتحام حصونه ، وهو مؤلف من ذكريات لها لحمتها الداخلية الخاصة بها ، وهي مجموعة من مشاهد وصور ، وتاريخ ورواية . وهكذا يكون الهم بالكشف عن الداخل شديد الالتصاق بحاجته للتأكد من صدق الموقع الذي اختاره لدعوته : الوعي بهذه المسألة هو موقف فلسفي ميز وطبع بطابعه العصر الذي ينتمي إليه شاتوبريان والذي يتضمن إعادة النظر بمفهوم الإنسان . فالإنسان لا يمتلك فقط تاريخه الخاص ، بل هو التاريخ بعينه . وبدلاً من النظرية الدينية التي تقول بأن الإنسان يمثل بذاته جوهراً متعالياً ( هو الروح ) ، فإن التقاليد الفلسفية لعصر شاتوبريان كانت قد تقبلت فكرة أن الإنسان هو محصلة لتاريخه وذلك من خلال تكيفه المستمر . ومن هنا يظهر جلياً التمزق الذي كان يعيشه شاتوبريان بين تاريخه وواقعه لأن في محاولته لتفسير الذات التي أصبحت موضوعاً للمعرفة قطيعة تاريخية مع إرثه الديني والثقافي يبدو فيه تأثره الكامل بموقف جيله ومنه روسو على وجه الخصوص .
 
تظهر هذه المذكرات وضعية شاتوبريان المتأرجحة بين عالم زائل يتعلق به وبتاريخه الشخصي ، وبين فهمه وإعجابه وتأثره بالأفكار الجديدة ، يضاف إلى هذا موقفه الرافض في الانضواء تحتها ، فظل وفياً للأصل الذي خرج منه ، ربما بسبب حرصه على الرمز الجمالي ورغبته في صياغة موقف متماسك ، لكنه ترك وراءه صفحات خالدة من الكتابة كان فيها أديباً مبدعاً ومؤرخاً رفيع المستوى .
 

17 - سبتمبر - 2007
أحاديث الوطن والزمن المتحول
تمنياتنا لك بالشفاء    كن أول من يقيّم

 
نأسف كل الأسف لما أصابك يا أستاذ عبد الحفيظ ، ونتمنى لك الشفاء العاجل ، ولا بد بعد ذلك من أن تحكي لنا في أحاديث الوطن والزمن المتحول كيف وقع لك هذا الحادث ?
 
تمنياتنا لك وللعائلة الكريمة برمضان مبارك وكل عام وأنتم بخير .

17 - سبتمبر - 2007
رمضان كريم
لمحة تاريخية ( 8 )    كن أول من يقيّم

 
أشكر الأستاذ عبد الحفيظ عرضه للمقالة : " فرنسوا شاتوبريان ... مبدعاً ومتسكعاً " لأنها تشكل توطئة تاريخية مهمة لما أنوي ترجمته من فقرات " مذكرات ما وراء اللحد " ( لي اعتراض صغير على لفظة المتسكع التي اختارها كاتب المقالة لعنوانه لأنها تنطوي على دلالات لا تنطبق على شاتوبريان ) . وأشكر الأستاذ زهير على إضافاته لهذه المقتطفات القيمة من كتاب : " الحرب 33 استراتيجية " لما تحتويه من الفائدة الأكيدة .
 
لمحة تاريخية موجزة : كان شاتوبريان ، كما علمنا، من مناصري الملكية لكنه خدم في السلك الدبلوماسي في عهد نابليون بونابرت وكانت علاقته به في غاية التعقيد ، تتراوح بين العداء الشديد إلى الإعجاب الشديد . وكان التحالف الدولي ما بين : روسيا ، انجلترا ، بروسيا ، النمسا ، السويد وبافاريا قد أنتصر على نابليون في " معركة الأمم " ( Bataille des Nations ) في العام 1813 فأجبر نابليون على الاستقالة ومن ثم تم نفيه إلى جزيرة " إلبا " الإيطالية حيث أقام هناك مئة يوم ، لكنه نجح في الهروب منها وعاد للزحف على باريس في العام 1815 . لم يغامر الملك لويس الثامن عشر برأسه وفضل مغادرة باريس والإقامة في بلجيكا في مدينة " غاند " ريثما تهدأ الأمور ويتم القضاء على نابليون ، وكان شاتوبريان من ضمن الحاشية التي رافقت الملك إلى منفاه في بلجيكا وكان من ضمن مستشاريه رغم أنه كان قد عارض خطة الملك واقترح عليه تنظيم المقاومة ضد نابليون ، لكن الملك آثر طريق السلامة والاعتماد على قوات التحالف الأجنبية للقضاء على خصمه ، بل أنه أصدر أمراً ملكياً ب " ملاحقة " نابليون ، وهو أمر صوري الغاية منه إذلاله وتحطيم صورته ومعاملته كأي قاطع طريق .
 
في هذا الأمر الملكي كتب شاتوبريان :
 
القرار الكبير الذي صدر بحق نابليون كان " الملاحقة ( courir sus ) . لويس الثامن عشر ، الأعرج ، سوف يلاحق بونابرت الذي كان يخطو من فوق الكرة الأرضية ! طريقة العهود البائدة هذه ، التي أعيد إحياؤها لهذه المناسبة ، كافية للدلالة على عمق تفكير رجالات دولة هذا العهد . " أمر ملاحقة " صادر في العام 1815 ! ملاحقة ! ملاحقة من ? ملاحقة ذئب ? ملاحقة قاطع طريق ? ملاحقة إقطاعي خائن ? لا : ملاحقة نابليون الذي كان يلاحق الملوك ويصادر أملاكهم قبل أن يدمغ على جلودهم توقيعه الذي لا يمحى .
 
 
 
 

21 - سبتمبر - 2007
أحاديث الوطن والزمن المتحول
بوح عن الذات خلال إقامته في المنفى ( 9 )    كن أول من يقيّم

 
 مئة يوم في " غاند " ( Gand ) :
 
كانت أفكاري قد استعادت ذكريات هجرتي الأولى بكل ما فيها من شقاء وسعادة . وكنت قد استرجعت صور بريطانيا ورفاق الفاقة وتلك " الشارلوت " التي كنت لا أزال ألمحها . لا يوجد من هو قادر مثلي على اختراع عالم حقيقي باستحضاره لأشباح الماضي لدرجة أن حياتي الماضية تطغي على إحساسي بالحياة الواقعية . هناك أشخاص ممن لم أكن أهتم بهم مطلقاً ، فإذا ماتوا ، استولوا على ذاكرتي . ويبدو بأن من يريد صحبتي عليه بأن يموت أولاً . كل هذا يجعلني أشعر وكأنني مت فعلاً . وفي الوقت الذي يجد فيه الآخرون ( في فقدان من يحبونهم ) فراقاً نهائياً ، أجد أنا فيه اجتماعاً أبدياً . فلو فارق الحياة واحد من أصدقائي فكأنه بهذا قد جاء ليسكن معي فلا يتركني بعدها أبداً . وبقدر ما يتراجع من أمامي هذا الزمن الحاضر ، بقدر ما يعود إلي الزمن الماضي . وإذا كانت الأجيال الحالية تحتقر الجيل الماضي فإن موقفها هذا ليس له أية قيمة إزائي : أنا لا أشعر بوجودها أصلاً !
 

21 - سبتمبر - 2007
أحاديث الوطن والزمن المتحول
 42  43  44  45  46