كتاب : أصوات الحرية .(1) كن أول من يقيّم
الكتاب الملتزمون في القرن التاسع عشر هاشم صالح مؤلف هذا الكتاب هو المؤرخ الفرنسي المعروف ميشيل وينوك. وهو أستاذ التاريخ المعاصر في معهد العلوم السياسية في باريس. كما أنه عضو في هيئة تحرير المجلة الشهرية الفرنسية: مجلة "التاريخ". وكان قد نشر سابقا عدة كتب أصبحت مراجع هامة. نذكر من بينها: قرن المثقفين (1997، وقد حاز على جائزة ميديسيس)، وفرنسا السياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين (2000). وقد شارك في تأليف عدة كتب جماعية هامة كتاريخ اليمين المتطرف في فرنسا (1994)، وقاموس المثقفين الفرنسيين (بالتعاون مع جاك جوليار 1996)، الخ. وفي هذا الكتاب الضخم الذي بين أيدينا اليوم يتحدث المؤلف عن موقف كبار المثقفين الفرنسيين من الأحداث الجارية في عصرهم: أي في القرن التاسع عشر. وهو القرن الذي تلى اندلاع الثورة الفرنسية وشهد خضات ثورية عديدة وصراعات حامية بين شقي فرنسا الأساسيين: الملكي الكاثوليكي من جهة، والجمهوري العلماني من جهة أخرى، أو بين الجناح المحافظ، والجناح الليبرالي المتعلق بالليبرالية، أي بفلسفة الحرية في المجال الديني والسياسي والاقتصادي. ويرى المؤلف أن فرنسا شهدت بين عامي 1815 تاريخ سقوط نابليون، و1885 تاريخ إعلان الجمهورية الثالثة، تتابع عدة أنظمة سياسية. فقد كانت فترة مضطربة جدا ومليئة بالأحداث لأن القديم لم يمت بعد والجديد لم يولد فعلا بعد. كانت فترة متأرجحة قبل أن ينتصر النظام الجمهوري نهائيا على النظام الملكي وتترسخ أقدام الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال ديغول عام 1958 والتي لا يزال الفرنسيون يعيشون في ظلها حتى الآن، وإن كان بعضهم أصبح يدعو إلى تأسيس نظام جديد هو: الجمهورية السادسة، أي جمهورية ما بعد ديغول. لكن لنتوقف عند القرن التاسع عشر الذي شكل فرنسا الحديثة. ففي ذلك العصر جرت المعارك الفكرية والسياسية الأكثر ضراوة حول مسائل أساسية: كعلاقة الدين بالدولة، وحرية الصحافة، والتعددية الحزبية والسياسية، وحق التصويت العام، وسوى ذلك. هذا دون أن ننسى كومونة باريس وبدايات الحركة الاشتراكية الفرنسية عام 1871، حيث اندلع صراع طويل وعنيف بين القوى العمالية والبروليتارية من جهة، والقوى البورجوازية والرأسمالية من جهة أخرى. ويرى البروفيسور ميشيل وينوك أن الأدباء والمفكرين انخرطوا في كل هذه المعارك التي هزّت فرنسا على مدار القرن التاسع عشر ولم يعيشوا منعزلين في برجهم العاجي. فقد شاركوا في الاجتماعات السياسية إما في هذا التيار أو ذاك، وأسسوا الجرائد والمجلات للدفاع عن أفكارهم، وخاضوا المعارك الثقافية ضد بعضهم البعض عندما انقسموا إلى يمينيين ويساريين أو قبل ذلك إلى ملكيين وجمهوريين، أي كاثوليكيين وعلمانيين. وكانوا ينخرطون سياسيا عن طريق مقالاتهم الحامية التي ينشرونها في الصحف. وكثيرا ما أدت مقالة واحدة إلى إيداع صاحبها في السجن، أو إجباره على المنفى ومغادرة البلاد. ففي ذلك الوقت لم تكن حرية الثقافة قد ترسخت بعد. ومن أشهر المنفيين فيكتور هوغو الذي غاب عن باريس مدة خمسة عشر عاما أو يزيد بسبب معارضته لحكم الإمبراطور نابليون الثالث. ومعلوم أنه هجاه بكتاب عنيف يدعى: نابليون الصغير! وذلك تمييزا له عن عمه نابليون الكبير، أي نابليون الحقيقي صاحب الأمجاد والمعارك الشهيرة. وقد صودر الكتاب في بلجيكا حيث نشر وذلك بعد أن مارست الحكومة الفرنسية ضغوطها على بروكسل. ولم يتجرأ فيكتور هوغو على وضع قدمه في فرنسا إلا بعد سقوط نابليون الثالث. عندئذ عاد ظافرا مظفرا إلى باريس حيث احتفل به الفرنسيون بصفته رمزا على أمجادهم الأدبية والفكرية. وأحيانا كان الأدباء ينخرطون في معترك السياسة فيصبحون نوابا أو وزراء كما حصل للشاعر الرومانطيقي الكبير لامارتين صديق فيكتور هوغو ومن أبناء جيله أو أكبر منه بقليل. بل وكما حصل لفيكتور هوغو نفسه. ومن أشهر الكتاب الذين يتوقف عندهم المؤلف: ستندال الذي أصبح قنصلا لفرنسا في إيطاليا. وهو من أشهر الروائيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر. وتعتبر روايته "الأحمر والأسود" من روائع الأدب العالمي. كما ويتوقف عند بلزاك عملاق الرواية الفرنسية والذي انخرط في الأحداث الجارية عن طريق تأسيسه "للمجلة الباريسية" التي لم تدم طويلا. كما ويتحدث عن الألمان الكبار الذين استقروا في باريس لفترة من الزمن من أمثا ل كارل ماركس، والشاعر الألماني الكبير هنريش هاينه، وكذلك يتحدث عن مواقف الحكومة الرجعية من ديوان بودلير "أزهار الشر" ورواية فلوبير "مدام بوفاري". ومعلوم أن كلا الكاتبين قُدما للمحاكمة في باريس بتهمة الخروج على الأخلاق الحميدة والإساءة إلى الدين في هذين الكتابين اللذين أصبحا فيما بعد مفخرة الآداب الفرنسية. وقد اضطر بودلير إلى دفع غرامة مالية وسحب بعض القصائد من ديوانه وبالأخص تلك التي يسخر فيها من القديس بطرس وبعض العقائد المسيحية الأكثر شعبية. وأما فلوبير فقد توسطت له "ماتيلد"، أخت الإمبراطور، فنجا بجلده من المعاقبة. وكان حظه أفضل من حظ بودلير. ولكنه اضطر إلى حذف بعض المقاطع من روايته أيضا، ثم أعيدت إليها لاحقا كما حصل لديوان بودلير. ويتحدث المؤلف عن فيكتور هوغو في ثلاثة أو أربعة فصول. ومعلوم أن صاحب كتاب "البؤساء" شغل القرن التاسع عشر كله، مثلما شغل فولتير القرن الثامن عشر، ومثلما سيشغل سارتر القرن العشرين. وهؤلاء هم أشهر أدباء فرنسا على مدار القرون الثلاثة المنصرمة. نقول ذلك على الرغم من كثرة ما أنجبته فرنسا من عبقريات أدبية أو فلسفية. ثم يتوقف البروفيسور ميشيل وينوك عند الفيلسوف أوغست كونت مؤسس الفلسفة الوضعية التي انتشرت في فرنسا وكل أنحاء أوروبا وسيطرت على الجامعات لفترة طويلة. ويتوقف أيضا عند ارنست رينان والضجة الكبيرة التي أحدثها بعد أن نشر كتابه عن "يسوع المسيح" من وجهة نظر تاريخية محضة. فقد صدم المؤمنين المحافظين كثيرا عندئذ واضطر إلى تعليق دروسه في الكوليج دو فرانس بل والاختفاء عن الأنظار لفترة من الزمن بعد أن أصبح مهددا بالقتل من قبل الأصوليين الكاثوليكيين. وهناك وقفات أخرى عديدة وممتعة عند كبير أدباء فرنسا: شاتوبريان الذي كان بمثابة المثال الأعلى لفيكتور هوغو. ومعلوم أنه سبقه بجيل واحد. وكان فيكتور هوغو معجبا به جدا في شبابه الأول. ومعلوم أنه قال عندئذ جملته الشهيرة: إما أن أكون شاتوبريان أو لا شيء!! وقد كان. (شاتوبريان ولد عام 1768 وفيكتور هيغو عام 1802). لكن لنتوقف الآن عند المقدمة العامة للكتاب حيث يبلور المؤلف مشروعه الكبير ويقول: من المعلوم أن الثورة الفرنسية جعلت من الحرية أول حق من حقوق الإنسان. فشعارها الذي لا يزال منقوشا على المباني الرسمية الفرنسية يقول: حرية، مساواة، إخاء. ولكن الثورة فشلت في تجسيد هذه الحرية بشكل مؤسساتي أو ترسيخها في العادات والتقاليد الفرنسية. ولولا سيف بونابرت لربما ضاعت الثورة كليا. ولكن بونابرت الذي أنقذ الثورة من انقلاب أنصار النظام الملكي السابق راح يصادرها لنفسه ويشكل نظاما دكتاتوريا ينتهك أول مبدأ من مبادئ هذه الثورة: الحرية! وبعد سقوط "النسر" كما يلقبونه وعودة النظام الملكي إلى البلاد بمساعدة كل عروش أوروبا وملوكها الحاقدين على نابليون والثورة الفرنسية لم تمت فكرة الحرية. صحيح أنه لم يكن لها زعيم يتحدث باسمها، ولكنها كانت تشكل حركة سرية متفشية بشكل ضمني داخل أوساط الشعب والمثقفين على وجه الخصوص. ولم يعد أحد يستطيع أن يقتلعها من جذورها بعد أن زُرعت بذرتها في الأرض الفرنسية عام 1789. وحزب الحرية لم يكن منظما على طريقة الأحزاب التقليدية، وإنما كان مشكّلا من خليط من البشر والشخصيات. وأولئك الذين يشكلونه ما كانوا سياسيين محترفين وإنما أدباء وشعراء وفلاسفة وصحفيين ومبدعين: أي خيرة عقول فرنسا في ذلك الزمان. وهؤلاء هم أحوج الناس إلى حرية التعبير. ولذلك دافعوا عن الحرية وخاطروا أحيانا بأنفسهم من أجلها. وذلك لأن الحرية شرط ضروري لتفتح الإبداع والمواهب. فما معنى الكتابة بدون حرية? ما معنى الصحافة إذا كان سيف الرقابة مسلطا على رأسك? وهل تستطيع أن تبدع بدون حرية? ولكن بعض الكتاب المحافظين إن لم نقل الرجعيين ما كانوا بحاجة إلى حرية في الواقع. فقد كانوا يدافعون عن النظام الملكي القديم القائم على الهيبة والطاعة لا على التمرد والحرية. وكانوا يكرسون أقلامهم لخدمته وتبجيله بالإضافة إلى تبجيل العقائد التقليدية المسيحية المرتبطة به. والصراع بين هذين التيارين هو الذي يشكل لحمة هذا الكتاب. وعندما استلم نابليون بونابرت السلطة عام 1800 حاول أن يجذب المثقفين الكبار إليه لأنه كان يعرف أن أقلامهم لا تقل أهمية عن سيوف جنرالاته وقادة جيشه. فالكلمة أخطر من الرصاصة إذا ما صدرت عن كاتب موهوب يعرف كيف يكتب. وكان يعلم انهم إذا ما كتبوا ضده فإنهم يهدمون مشروعيته ويشوهون سمعته في أوساط عديدة راقية، بل وحتى في أوساط الشعب. وقد عرف نابليون كيف يستخدم معهم العصا والجزرة لكي يظلوا تحت طاعته. ولكن بعضهم بعد أن تقرب منه تمرد عليه. نذكر من بينهم شاتوبريان، ومدام دوستال، وبنيامين كونستان وآخرين. وهنا تطرح مشكلة العلاقة بين المثقف والسلطة بكل أبعادها. وهي مشكلة معقدة وليست بسيطة. ثم تمردوا بشكل أكثر على النظام الرجعي الذي حل محله بعد سقوطه عام 1815 في معركة واترلو الشهيرة وأسر الانجليز له وإرساله إلى جزيرة القديسة هيلانة. وعندئذ عاد الملك لويس الثامن عشر إلى حكم فرنسا. والتفّ حوله كل الكتّاب الرجعيين والأصوليين المسيحيين المعادين للثورة الفرنسية ومبادئها. ولكنه لم يستطع أن يعود بفرنسا إلى العهد القديم بشكل كامل. لماذا? لأن الفرنسيين بعد أن تعودوا على بعض المكتسبات وذاقوا طعم الحريات ودفعوا ثمنها من دمائهم أثناء الثورة الفرنسية ما كانوا مستعدين للتراجع عنها. ومن أهم هذه المكتسبات المساواة الرسمية بين المواطنين، كل المواطنين. فلم يعد هناك ابن ست وابن جارية أو ابن الشعب وابن الباشوات والنبلاء الإقطاعيين. الجميع أصبحوا فرنسيين متساوين في الحقوق والواجبات أمام مؤسسات الدولة. ثم يردف المؤلف قائلا: وبالتالي فالعودة إلى النظام الملكي السابق ذي الحق الإلهي والمطلق الصلاحيات أصبحت مستحيلة بعد أن ذاق الشعب الفرنسي طعم المساواة والحرية وبعد أن دفع ثمنها غاليا وخضّب شوارع باريس بدمه من أجلهما. هذا يعني أن الفرنسيين إذا كانوا قد قبلوا بعودة الملك لويس الثامن عشر إلى الحكم فإن ذلك كان على أساس أنه حكم ملكي دستوري لا ملكي إطلاقي أو استبدادي كما كان عليه الحال في السابق. والسلطة الملكية أصبحت محصورة ومحددة صلاحياتها جيدا في وثيقة الدستور. وهذه الوثيقة تنص على المساواة بين الفرنسيين أمام القانون، وعلى الحرية الفردية، ثم بالأخص الحرية الدينية. فبعد اليوم يحق لك أن تؤمن أو لا تؤمن، أن تمارس الطقوس والشعائر أو لا تمارسها على الاطلاق. والكاثوليكي لم يعد مواطنا من الدرجة الأولى وبقية الناس مواطنين من الدرجة الثانية. هذا عهد مضى وانقضى. الجميع أصبحوا مواطنين بنفس الدرجة سواء أكانوا ينتمون إلى مذهب الأغلبية (الكاثوليكي) أم إلى مذهب الأقلية (البروتستانتي) أم حتى إلى أديان أخرى غير مسيحية كاليهود مثلا. فالاعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن ساوى بين الناس بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم وذلك على عكس النظام القديم. وهذا الإنجاز الذي حققته الثورة الفرنسية لا يمكن التراجع عنه. هذا من حيث المبدأ ولكن في الواقع حصل بعض التراجع. فحتى في زمن نابليون حصل تراجع بسيط عندما اضطر الإمبراطور إلى أن يسجل في الدستور العبارة التالية: إن المذهب الكاثوليكي هو دين أغلبية الفرنسيين. وقد اعترض البروتستانتيون على ذلك ولكنه لم يستمع إليهم. فضغط الحزب الكاثوليكي كان كبيرا. ولكنه لم يقل دين الدولة وانما فقط دين الاغلبية. ثم ازداد التراجع درجة إضافية في عهد الملك لويس الثامن عشر عندما قالوا في الدستور بأن المسيحية في مذهبها الكاثوليكي هي دين الدولة! ولكن يسمح لجميع المواطنين الآخرين بأن يمارسوا طقوسهم وشعائرهم إذا لم يكونوا كاثوليكيين. ولم يعودوا يلاحقونهم كما كانوا يفعلون أثناء النظام الملكي القديم السابق على الثورة الفرنسية. إرنست رينانوسوف تظل فرنسا متذبذبة حول هذه النقطة حتى يتم فصل الكنيسة عن الدولة عام 1905: أي قبل مائة سنة بالضبط او اكثر قليلا. ومعلوم أن الفرنسيين احتفلوا العام الماضي او حتى قبل بضعة اشهر بالذكرى المئوية الاولى لتأسيس العلمانية في بلادهم. وعندئذ ما عاد الدستور ينص على أن دين الدولة هو الدين المسيحي أو المذهب الكاثوليكي. ولم يعد دين رئيس الدولة مذكورا في الدستور. عندئذ أصبح الانفصال كاملا بين الدين والدولة. بمعنى آخر فإن الدولة العلمانية أصبحت تعامل جميع الأديان والمذاهب الموجودة في البلاد على قدم المساواة سواء أكانت أكثرية أم أقلية. واصبحت تنظر الى جميع المواطنين بصفتهم متساوين تماما أيا تكن أصولهم العقائدية او المذهبية. ولكن قبل أن يتحقق ذلك، كم خاض الفرنسيون من معارك هائجة ضد بعضهم البعض! وهذه المعارك هي التي سجلتها لنا كتب فيكتور هوغو وأشعاره، وكذلك كتب إرنست رينان، وإميل زولا، وأوغست كونت، وعشرات غيرهم. بالإضافة إلى المشكلة الدينية او الطائفية كانت هناك مادة في الدستور تنص على ما يلي: حرية التعبير مضمونة للشعب الفرنسي. بمعنى أنه يحق لأي فرنسي أن ينشر أفكاره ويطبعها بشرط ألا ينتهك القوانين وألا يتجاوز الحدود في ممارسة حريته. وهنا حصلت معركة بين الكتّاب والصحفيين الليبراليين من جهة، وبين الكتّاب المحافظين والسلطة الحاكمة من جهة أخرى. والتحق بالصحفيين كل الكتاب والشعراء الرومانطقيين الذين تحرروا من أصولهم الكاثوليكية وولاءاتهم الملكية. وقد اندلعت ثورة 1830 التي أطاحت بحكم الملك شارل العاشر من أجل الدفاع عن حرية الصحافة بالدرجة الأولى. فهذا الملك كان محافظا جدا إن لم نقل رجعيا. وقد أراد تسليط سيف الرقابة على كل الجرائد والمطبوعات. فاندلعت ثورة عارمة في وجهه اضطرته إلى الهرب من البلاد ... |