حول مفهوم المساواة كن أول من يقيّم
المساواة من سوي ، جذرها : سوا . سواء الشيء مثله . استوى الشيئان وتساويا : تماثلا. وإذا لحق الرجل قِرنَه في علم أو شجاعة قيل : ساواه ( لسان العرب ) وهي بمعنى عادله قيماً وقدراً ( المنجد ) .
مفهوم المساواة مفهوم مثالي لا وجود له في الطبيعة ، إلا ما حاول فكر الإنسان إنتاجه من صور وأفكار أوأشياء متساوية ، كالرسوم الهندسية مثلاً ، أو الأدوات والمنتجات الصناعية المتشابهة والمتساوية فيما بينها . في الطبيعة ، لا تتساوى الأشياء ولا تتشابه تماماً أبداً !
المساواة كفكرة مجردة ، عندما ترتبط بحياة البشر ، تضاف إلى العدل كصفة لصيقة بها ولا تنفصل عنها ، مع أن البشر مختلفون عن بعضهم البعض ، منذ الأزل ، مختلفون في كل شيء ولا يتساوون أبداً ، لا في الطبع ، ولا في الشكل ، ولا في القوة ، ولا في الشروط الإجتماعية .... في الحديث الشريف ، جاء على لسان النبي ( صلعم ) : " لا يزال الناس بخير ما تباينوا ( وفي رواية ما تفاضلوا ) فإذا تساووا هلكوا " . فمن أين أتت هذه الفكرة التي تقضي بأن الخير والعدل هو في المساواة ?
تغيرت فكرة المساواة بين البشر وتبدلت عبر العصور تدفعنا إليها رغبتان لا نستطيع دائماً تميزهما ، الأولى تأتي من الشعور بالظلم والرغبة في العدالة ، والثانية تنبع من الحسد والتنافس والرغبة في مماثلة الأقوى والأفضل ، وهي رغبات متأصلة في طبائع البشر .
لم تبشر اليهودية بالعدالة والمساواة لجميع أبناء البشر ، بل هي تدين بتماسكها واستمرارها إلى فكرة " شعب الله المختار " الذي اصطفاه لحمل رسالته ، لكنها وعدت بالمساواة بين بني إسرائيل وعداً تضمنته شريعة موسى عليه السلام ، وعداً يتحقق في الزمن على شكل نبؤة ، ولقد جاءت التوراة في سفر أشعيا ، الفصل الحادي عشر ، بما يلي :
( 1 ) ويخرج قضيب من جذر يسّى وينمي فرع من أصوله ( 2 ) ويستقر عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح العلم وتقوى الرب ( 3 ) ويتنعم بمخافة الرب ولا يقضي بحسب رؤية عينيه ولا يحكم بحسب سماع أذنيه ( 4 ) بل يقضي للمساكين بعدل ويحكم لبائسي الأرض بإنصاف ويضرب بقضيب فيه ويهلك المنافق بنفس شفتيه ( 5 ) ويكون العدل منطقه حقويه والحق حزام كشحيه ( 6 ) فيسكن الذئب مع الحمل ويربض النمر مع الجدي ويكون العجل والشبل والمعلوف معاً وصبي صغير يسوقها ............ ( 12 ) وينصب راية للأمم ويجمع المنفيين من إسرائيل ويضم المشتتين من يهوذا من أربعة أطراف الأرض ( 13 ) فيزول حسد أفرائيم وتضمحل عداوة يهوذا فلا أفرائيم يحسد يهوذا ولا يهوذا يعادي أفرائيم ....
لكن رسالة عيسى المسيح ، عليه السلام ، توجهت بذات الوعد إلى جميع أبناء البشر ، وجدد الله ميثاقه في " العهد الجديد " بمجيء المسيح " المخلص " الذي سيعود إلى الأرض ليملآها عدلاً ، وهي نفس الفكرة التي تبناها الإسلام عن عودة المهدي بما روى الإمام أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله : " لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً منا يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً " .
جذر فكرة المساواة هو مفهوم ديني تجلى بأشكال مختلفة وارتبط بمفهوم العدل الإلهي ( الذي أثار الكثير من النقاش بين الفرق الكلامية وكان المعتزلة يسمون أنفسهم بأهل العدل ) . وظل الفكر الديني يشوبه الشك حيال قدرة الإنسان على إقامة مجتمع عادل حتى ضمن أبناء الدين الواحد فربطها بالنبوة .
في العصور الحديثة ، استعادت الفلسفات المادية فكرة المساواة بعد أن حملت وزرها الإنسان ، فبشرت الماركسية بإقامة العدل بين أبناء البشر ، بعد القضاء على أسباب الشرور والطمع الناتجة عن النظام التنافسي الرأسمالي ، في مجتمع شيوعي ، تسود فيه المساواة التامة ، معتمدة على افتراضها الضمني بأن الإنسان يسعى بحسن نية إلى المساواة بأخيه الإنسان ، وتراجعت الفلسفات الليبرالية المعاصرة إلى حدود الوعد بتأمين توزيع أكثر عدلاً للثروات ، والسعي إلى مبدأ تكافؤ الفرص ، بما يعني المساواة في التعليم والطبابة والضمان الإجتماعي وتوفير فرص العمل ..... وكان مبدأ المساواة شعار الثورات الأكثر تأثيراً في حياتنا المعاصرة : الثورة الفرنسية ( 1789 ) ، إعلان وثيقة إستقلال الولايات المتحدة الأميركية ( 1776 ) ، وتبني الأمم المتحدة لإعلان حقوق الإنسان ( 1948 ) .
في القضاء والقانون ،العدالة وحدها بقي ميزانها مرفوعاً ، متكافىء الكفتين ، وفي توازن تام .
تعهد القانون بإقامة العدل ، سواء كان هذا القانون وضعياً ، أم مستوحى من الشرع الإلهي . لو راقبنا ما يجري على الأرض لاستنتجنا بأن ميزان العدالة ليس متوازناً تماماً ، وأننا لسنا فعلاً متساوين أمام القانون ، سواء كان شرعياً أم مدنياً . مع هذا ، نصر على فكرة المساواة ونتمسك بها فما الذي يدفعنا إليها بهذه القوة وهذا الإصرار ?
أما إذا قارنا وضعنا الراهن بوضع البلدان الغربية المتقدمة صناعياً فسنجد بأن هذه البلدان هي الأقرب حالياً إلى فكرة العدالة والمساواة من بلداننا التي تعاني من أبسط الإحترام لحقوق البشر . فما هي العدالة التي نطمح إليها وكيف نفهم المساواة ? وهل يكفي بأن نتغنى بالأخلاق نظرياً ونحن نبتعد عنها كل يوم مئات الأميال ? وهل من الممكن لنا أن نطمع يوماً بتجاوز هذا التناقض الحاصل بين الفهم المادي للمساواة وأصله الديني ودون الرجوع إلى إعادة النظر جذرياً لكيفية فهمنا وإدراكنا لمعطيات الوحي وبعدها الأخلاقي ?
المساواة معيار مثالي غير متحقق على الأرض لكنه كبقية المعايير الأخلاقية يشكل سقفاً لعجرفة وتسلط بني البشر واستغلالهم بعضهم لبعض .
كلما اقتربنا من هذا المعيار الأخلاقي كلما ازددنا اقترابا من جوهر الناموس الديني والأخلاقي المسير لحياة البشر عبر التاريخ .لا يمكن للإنسان تحقيق المساواة إلا بقدر ما يقترب من المفهوم الأصل . الله تعالى وحده يعد بالعدل ونتساوى أمامه يوم الحساب :
إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ |