وشعوري بيومها بأن هناك من دخل إلى مخيلتي واستخرج منها هذه الصورة التي أعادت إلى أنفي رائحة ذلك المكان بقسوته وضجيجه وإحساسي الأول بصعوبة الحياة خلال ذلك التدافع ، لا يوازيه سوى فرحتي باصطياد منقوشة ساخنة أسد بها جوعي ........... !!!!!!!!!! المهم :
كان أبو حسن يبيعنا أيضاً " الكازوز " ، والعلكة والمصاص ، وكان يعلق أكياس " غزل البنات " الملونة ، بكل غواية ، على الحائط ، فوق بسطته المسقوفة بصفيحة من التنك ، تحسباً للشتاء ، والتي كانت مجاورة تماماً لبوابة المدرسة ، لكي لا تغيب هذه الأخيرة عن عينه لحظة .
كان لأبي حسن حضور مهيمن في تلك المدرسة كنت أجهل سره ، صحيح بأنه شكله كان مهيباً ، فهو في متوسط العمر ، شديد السمرة ، قوي البنية ، يرتدي اللباس البلدي ويضع على رأسه طاقية ، يشبه والد الأستاذ زهير كما نراه في إحدى صوره ، أو أي رجل من أقربائنا ، أو أي عابر نراه في السوق . يشبه آبائنا حتى ولو لم يلبسوا مثله ، فهو يتحرك مثلهم تماماً ، ويتكلم معنا بنفس النبرة وذات اللحن ، وينظر إلينا بريبة يشوبها شيء من التهديد ، وكان هو المعبر إلى ذلك المكان والسد الذي لا نستطيع اجتيازه إلا بأذن منه ، وهو على عكس مدير المدرسة الذي كان يلبس البدلة ، ويضع برنيطة سوداء فوق رأسه ، و ينظر إلينا بعيون مسطحة لا يبرق فيها ذلك الاهتمام الدؤوب ، ويتكلم بلكنة غريبة لأنه كان قد سافر إلى البرازيل أو إلى فنزويلا ، لم أعد أذكر ، وأخذ شيئاً من لهجتها .
والأغرب في أبي حسن من بين البوابين الذين عرفتهم ، أنه كان مخولاً الدخول إلى الصفوف ، وأن يحل محل المعلمة لو استدعت الحاجة غيابها لسبب طارىء ، فكانت تنادي عليه ، فيأتي ومعه الخيزرانة ، ومع أنني لم أره يضرب بها أحداً ، لكن مجرد حضوره ، كان يصيبنا برهبة السكوت ، فلا يعود يصدرعنا حس ولا حسيس ...
وذات مرة غابت إحدى المعلمات آخر ساعة في الدوام ، وكان الطقس ماطراً ومملاً ، ولم يسمح لنا بالخروج إلى الملعب ، فجاء أبو حسن إلى الصف ليقف علينا ناطوراً لمدة ساعة كاملة من الزمن ، وكانت هذه المناسبة سبباً لهذه الذكرى معه ، لأنني رأيت فيه يومها وجهه الآخر الذي لم أكن أعرفه .
كان " الأمن مستتباً " في الصف لمجرد وجوده فيه ، لكنه شعر بأن عليه أن يشغلنا خلال هذا الوقت الطويل ، فرأيناه يتحول بيومها ، بعد شيئ من التردد ، إلى ما يشبه الأستاذ ، أو المعلمة الحنونة . ووجدنا بأنه كان يعرف أسرار المهنة ، وعرفنا بأنه كان يحفظ كل القصائد والاستظهارات التي كنا نتعلمها في المدرسة في صفنا وفي بقية الصفوف ، لأنه أخذ يسألنا : هل تعرفون الاستظهار الفلاني ? ...... وما عرفناه منها ، رددناه معه :
أنا الديك من iiالهند |
|
جميل الشكل والقد |
وأنشدنا :
أنا عصفور صغير |
|
كـيفما شئت أطير |
وأيضاً :
سقف بيتي حديد |
|
ركن بيتي iiحجر |
ثم لما فرغنا من القصائد التي كنا نعرفها ، انتقل بنا إلى الغناء ، فصار يعلمنا أغنية : " شتي يا دنية شتي " ، لأن السماء كانت تمطر بساعتها وكأنه الطوفان ، ولم أكن قد سمعت هذه الأغنية في مسرح الرحباني بعد ، ولا سمعتها من أحد غيره من قبل ، وكان يغنيها بالطريقة التي يعرفها بها أولاد الحارات فيقول :
شتي يا دنية iiشتي |
|
شتي ع قرعة ستي |
سـتـي iiبالمغارة |
|
عم تشرب سيكارة |
مما أضحكنا كثيراً وذهب عنا برهبة الجو والطقس العاطل . ثم لما فرغت جعبته من القصائد " المدرسية " وأغاني " المناسبات " وكان الوقت أمامنا لا زال طويلاً ، خطر له أن يردد معنا أهازيج العيد والمراجيح فصار يقول :
يا ولاد شرشوبة
فنرد عليه : يو يو
عيشة مخطوبة
يويو ........
ثم أتبعها ب :
جينا من الشركة البركة
فنقول نحن : يا خالي
لقينا حوالى البركة
يا خالي
لقينا بابور الأخضر
يا خالي
بيمشي بيمشي بيتمختر
يا خالي
يا بحرية
هيه وهيه
ردوا عليي
هيه وهيه
قلبي واوا
هيه وهيه
ع البقلاوة ............
كنت أحكي هذا لأمي منذ مدة قليلة وذلك عندما جاءت لزيارتنا في فترة الأعياد الماضية ، ولما حدثتها عن إحساسي واستغرابي بأن هذا الرجل لم يكن مجرد بواب ، بل كان أهم من المدير في المدرسة ، فاجأتني بقولها : " طبيعي: لأنهم أخوة وهو أكبر منه ! " فزادتني هذه المعلومة التي كنت أجهلها حتى ذلك الوقت حيرة ، ولا أدري إذا كانت قد فسرت شيئاً أو أنها قد زادت في غرابة هذه العلاقة الملتبسة ?