الذاكرة وابن المجنونة .......... كن أول من يقيّم
الفداء
وسار زارا يوماً على الجسر فاحاط به رهط من اهل العاهات والمتسولين وتقدم إليه احدب يقول له :
ـــ التفتْ إلى الشعب يا زارا فهو أيضاً يستفيد من تعاليمك وقد بدأ يؤمن بسنتك . ولكن الشعب بحاجة إلى أمر واحد ليتوطد إيمانه بك : عليك يا زارا ان تتوصل إلى إقناعنا نحن أهل العاهات . وامامك الآن نخبة منهم وما لك بعد مثل هذه الفرصة تنتهزها لتقوم لاختبارك على مثل هذا العدد من الرؤوس . بوسعك الان ان تشفي العميان والمقعدين فتخفف الأثقال ، وتريح المتعبين . تلك هي الطريقة المثلى لهداية هؤلاء القوم إلى الإيمان بزارا .
فأجاب زارا :
من يرفع عن ظهر الأحدب حدبته فقد نزع منه ذكاءه . هذه هي تعاليم الشعب . وإذا أعيد النور إلى عيني الأعمى فإنه ليرى على الأرض كثيراً من قبيح الأشياء فيلعن من سبب شفاءه . ومن يطلق رجل الأعرج من قيدها فإنه يورثه أذية كبرى إذ لا يكاد يسير ركضاً حتى تتحكم فيه رذائله فتدفعه إلى غايتها . هذه هي التعاليم التي ينشرها الشعب . وهل على زارا أن يأخذ عن الشعب ما اخذه الشعب عنه ?
غير أنني منذ نزلت بين الناس سهل علي ان أرى منهم من تنقصه عين ، ومن تنقصه أذن ، وآخر فقد رجليه ، وهنالك من فقدوا لسانهم أو أنفهم أو رأسهم ، وهكذا رأيت أقبح الأمور ، وهنالك أشياء أشد قبحاً إن اعرضت عن ذكرها فلا يسعني السكوت عن أكثرها .
رأيت رجالاً فقدوا كل شيء ، غير أنهم يملكون شيئاً يسوده الإفراط ، فهم رجال كأنهم عين عظيمة أو فم واسع أو بطن كبير أو عضو كبير آخر لا غير ، وما هؤلاء الناس إلا اهل العاهات المعكوسة .
وعندما عدت من عزلتي لأجتاز هذا الجسر للمرة الأولى وقفت مندهشاً لا أصدق ماأرى فقلت : هذه أذن ، أذن وسيعة كانها قامة رجل ، وتقدمت إليها فلاح لي وراءها شيء صغير لم يزل يتحرك وهو ناحل ضعيف يستدعي الإشفاق ، فإن الأذن الكبرى كانت قائمة على ساق دقيقة ، وما كانت هذه الساق إلا إنساناً ، ولو أنك تفرست في هذا الشيء بنظارة لرأيت فوقه وجهاً يتقطب بالحسد وينم عن روح صغيرة تريد الانتفاخ وترتجف على قاعدتها .
وقال لي الشعب : إن هذه الأذن ليست رجلاً فحسب ، بل هي أيضاً رجل عظيم بل عبقري من عباقرة هذا الزمان . غير أنني ما صدقت الشعب يوماً إذ هو تكلم عن عظماء الرجال ، فاحتفظت بعقيدتي وهي: (إن هذا الرجل ذو عاهة معكوسة إذ ليس له إلا القليل من كل شيء والكثير من شيء واحد) .
وبعد أن وجه زارا هذا الخطاب إلى الأحدب ومن تكلم بالوكالة عنهم اتجه نحو أتباعه وقد تحكم الكدر فيه فقال :
والحق أنني أسير بين الناس كأنني أمشي بين أنقاض وأعضاء منثورة عن أجسادها . وذلك أفظع ما تقع عليه عيناي ، فإنني أرى أشلاء مقطعة كأنها بقايا مجزرة هائلة . وإذا ما لجأت عيني إلى الماضي هاربة من الحاضر فإنها لتصدم بالمشهد نفسه ، فهناك أيضاً أنقاض وأعضاء وحادثات مروعة ، ولكنني لا أرى رجالاً ..........
إن أشد ما يقع علي أيها الصحاب إنما هو الحاضر والماضي ، وما كنت لأطيق الحياة لو لم اكن مستكشفاً ما لا بد من وقوعه في آتي الزمان ، وما زارا إلا باصرة تخترق الغيب ، فهو رجل العزم وهو المبدع ، هو المستقبل والمعبر المؤدي إلى المستقبل ، وهو وا آسفاه ذو عاهة ينتصب على هذا المعبر .
وأنتم أيضاً تتساءلون مراراً : من هو زارا ? وبماذا نسميه ? فلا تتلقون غير السؤال جواباً كما اتلقاه انا .
أهو من يعد أم من ينفذ الوعد ? أهو فاتح أم وريث ? أهو الطبيب أم هو الناقه ?
أشاعر هو ام رجل حقيقة ? أمحرر أم متسلط ? أصالح أم شرير ?
ما أنا إلا سائر بين الناس شطرة من المستقبل الذي يتراءى لبصيرتي وجميع أفكاري تتجه إلى توحيد وجمع كل ما تفرق على أسراروتبدد على الصدف العمياء للاسرار ومفتدياً لإخوانه من ظلم ما تسمونه صدفة ودهراً . وما الفداء إلا في إنقاذ من ذهبوا ، وتحويل كل ما كان إلى ما اريد لو انه كان .........
ما المخلص والمبشر بالغبطة إلا الإرادة نفسها ، وهذا ما أعلمكم إياه يا أصحابي ، ولكن اعلموا أيضاً ان هذه الإرادة لم تزل سجينة مقيدة .
إن الإرادة تنقذ ، ولكن ما هي القوة التي تقيد المنقذ نفسه ?
داء الإرادة الوحيد إنما هو كلمة " قد كان " تقف الإرادة أمامها تحرق الإرم عاجزة عن النيل من كل ما كان ، فالإرادة تنظر بعين الشر إلى كل ما فات وليس لها أن تدفع بقوتها إلى الوراء ، فهي أضعف من ان تحطم الزمان وما يريده الزمان ، هذا داء الإرادة الدفين .
إن الإرادة تنقذ ، ولكن ما هو تصور الإرادة في عملها للتخلص من دائها وهدم جدران سجنها ?
وا آسفاه ! إن كل سجين يصبح مجنوناً ، وما تنقذ الإرادة السجينة نفسها إلا بالجنون .
إن الزمان لا يعود أدراجه . ذلك ما يثير غضب الإرادة وكيدها ، فهنالك صخر لا طاقة للإرادة برفعه ، وهذا الصخر إنما هو الأمر الواقع .
لذلك تهب الإرادة وقد تملكها الغيظ مقتلعة الأحجار منتقمة من كل من لا يجاريها في كيدها وثورتها ، وهكذا تصبح الإرادة المنقذة قوة شريرة تصب جام غضبها على قانع بعجزها عن الرجوع إلى ما فات . وهل انتقام الإرادة إلا عبارة عن كرهها للزمان لأنه أوقع ما لا قبل لها برده ?
والحق أن إرادتنا مصابة بالجنون ، وقد نزلت لعنة على البشرية منذ تعلم الجنون أن يتفكر . إن خير ما طرأ على الإنسان حتى اليوم إنما هو فكرة الانتقام ، وهكذا سيبقى العقاب ملازماً للألم في كل زمان وفي كل مكان . وهل فكرة الانتقام إلا العقاب بذاته ? فما كلمة الانتقام إلا كلمة مكذوبة يقصد بها التعبير عن الضمير .
إن كل مريد يتألم لأنه لا قبل له بالرجوع إلى الماضي لرد ما فات ، ولهذا لزم أن تكون الإرادة بل كل حياة على الإطلاق كفارة وعقاباً .
بمثل هذه الاعتقادات تلفع العقل بالغيوم فانبثق منه الجنون هاتفاً : كل شيء يزول ، فكل شيء يستحق الزوال .
إن العدل نفسه يقتضي بأن يفترس الزمان أبناءه ، هذا ما أعلنه الجنون .
لقد وضع الناموس الأدبي وفقاً للحقوق والعقاب ، فأين المفر من نهر الحياة الجارف وما الحياة إلا عبارة عن عقاب ? وهذا أيضاً ما أعلنه الجنون .
ليس من حادث واحد يمكننا أن نزيله من الوجود . فهل للعقاب ان يمحو الحادثات ? وهل من خلود لغير الأعمال في وجود لا بنفك يحول العمل عقاباً والعقاب عملاً ? ولا مناص من هذه الحلقة المفرغة ما لم تتوصل الإرادة إلى الفرار من ذاتها فتصبح حينذاك إرادة منفية .
إنكم تعرفون ، أيها الأخوة ، هذه الأغاني التي يتشدق بها الجنون . وقد أقصيتكم من سماعها عندما علمتكم أن الإرادة مبدعة . كل ما فات يبقى مبدداً منثوراً كأنه أسرار ومصادفات رائعة إلى أن تقول الإرادة : إنني أنا أردت هذا . ثم تقول : وهذا ما أريده الآن وسأريده غداً .
هل نطقت الإرادة بمثل هذا حتى اليوم ? وأي متى ستنطق به ? هل هي تملصت من قيود جنونها فأصبحت تفتدي الحادثات بعزمها وتبشر بالحبور ? هل هي اطرحت فكرة الانتقام وتوقفت عن حرق الأرم من كيدها ? من ترى تمكن من تعليمها مسالمة الزمان بل ما يفوق هذه المسالمة ?
يجب على الإرادة ولا أعني سوى إرادة الاقتدار أن توجه مشيئتها إلى ما هو أعظم من المسالمة . ولكن أنى لها ذلك ومن سيعلمها أن توجه هذه المشيئة إلى ما فات ?
وتوقف زارا عن الكلام فجأة كأن رعباً شديداً حل به فاتسعت حدقتاه وشخص بأتباعه سابراً أفكارهم غير انه ما لبث أن عاد إلى الضحك فقال بكل هدوء :
ـــ ما تهون الحياة بين الناس لأن الصمت صعب على المرء وخاصة إذا كان ثرثاراً .
هكذا تكلم زارا ..........
ولكن الأحدب الذي كان يصغي إلى هذا الحديث وهو يستر وجهه بيديه سمع قهقهة زارا ففتح عينيه مستغرباً وقال :
ـــ لماذا يخاطبنا زارا بغير ما يخاطب به أتباعه ?
فقال زارا :
ـــ وهل من عجب في هذا ? أفما يصح أن يخاطب الأحدب بأقوال لها حدبتان ?
فقال الأحدب :
ـــ ولا عجب أيضاً في أن يخاطب زارا تلاميذه كمعلم أولاد ، ولكن لماذا يخاطب أتباعه بغير ما يخاطب به نفسه ?
هكذا تكلم زرادشت ( كتاب للكل ولا لأحد ) للفيلسوف الألماني : فريدريك نيتشه
ترجمة : فيلكس فارس ــ مكتبة صادر ، بيروت ، لبنان ، نسخة مطبعة الاتحاد 1948 .
|