الابتعاد عن الفحش في القول هو الأولى ، بل إنه الواجب كن أول من يقيّم
تحية طيبة ، ...وابن قيم الجوزية ، يرحمه الله ، في قصيدته ذات الأبيات الألوفية أبى إلا أن يرغب الناس بالعمل الصالح ترغيبا واي ترغيب ؛ فأعمق في وصف الحور العين وصفا حسيا وأغرق ، في أبيات يخال مُطالعها أنه يقرأ في ألف ليلة وليلة . ولست أدري ما الذي دعا ابن القيم او غيره من كبار العلماء السابقين إلى اللجوء إلى أساليب الترغيب بهذا الشكل الفاضح ! ألم يكفهم ما ذكره الله تعالى في كتابه من أبلغ أسلوب وأحكمه ! قال تعالى : " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون . هم وأزواجهم على الأرائك متكؤون . لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون . سلام قولا من رب رحيم" سورة يسن . واختلفوا في معنى الشغل على ما ذكر الطبري ؛ فمنهم من قال : الشغل افتضاض العذارى ، ومنهم من قال : الشغل انشغال أهل الجنة عما فيه أهل النار ، ومنهم من قال : في شغل : أي في نعمة.. ولعمري إن المعنى الأول لبعيد . أليس لأهل الجنة ما يفعلونه غير افتضاض العذارى!! وقد اختار ابن القيم المعنى الأول ، فقال : ولقد رأينا أن شغلهم الذي قد جاء في يس دون بيان * وقد سبقت البيت أبيات يصرح ابن القيم فيها ولا يلمح ؛ فيذكر أوصاف جسد المراة بوضوح ليست للناس به حاجة . فالوصف يحتاجه من لا يعلم شيئا من صفات الموصوف . ثم إن الجنة التي وعد الله المتقين قد قرّب وصفها وما فيها للمؤمنين تقريبا ، فقال عز وجل : " مثل الجنة التي وُعد المتقون..."سورة الرعد . فلا أحد من البشر يعرفها على حقيقتها من الجمال المعنوي والحسي إلا أن يدخلها ؛ فيتبين منزلته هو فيها . فوفقا لمنزلته ومكانته ، تكون ملذاته ومن أي نوع . وفي الحديث القدسي الشريف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " . فاقرؤوا إن شئتم : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " . رواه البخاري ، ورواه مسلم . وبهذه المناسبة ، يستفاد من هذا الحديث أيضا اعتباره من الأدلة على أن جنة آدم (ع) كانت في الأرض ، ولم تكن هي الجنة التي وعد بها المتقون في الحياة الآخرة . وكأن ابن القيم أحس بأنه تجاوز الحد في اتخاذه أسلوبا وصفيا غير لائق ؛ فقال : يا رب غفرا قد طغت أقلامنا يا رب معذرة من الطغيان إن ابن القيم حين قام بوصف الحور العين لم يزد في وصفه عن ذكر أوصاف فتاة حسناء غانية ذات قوام متناسق جميل ، ويمكن أن توجد وبكثرة في أي عصر وفي أي مصر ، وما زاده ابن القيم لا يعدو أن يكون من معنى ما ورد في القرءان لا غير . والقرءان يكفي من يطمع في ما تحويه الجنة من لذائذ الحس وزيادة . وقال جل من قائل : " إنا أنشأناهن إنشاء . فجعلناهن أبكارا . عربا أترابا . لأصحاب اليمين " سورة الواقعة . من معاني " عُربا " التي طالعتها في التفسير ، المعنى الذي يصفهن بالمحبات أزواجهن حبا شديدا..( يعشقنهم عشقا ) ، وما أجمله وأصدقه من معنى!! هذا المعنى يفوق كثيرا الأوصاف الحسية في جماله ، فقضاء الوطر أمر مفروغ منه ومن كيفيته ، أما أن يُقضى الوطر من امرأة لا تربطها ببعلها المحبة ، ولا تجمعها معه المودة ، ولا يشد أواصر العلاقة بين الزوجين إخلاص العواطف الصادقة كل منهما للآخر ، فما قيمة اللذة الجسدية العابرة وحدها؟!! أليس الود بين الزوجين ، والمحبة بينهما ، والإخلاص المتبادل أحرى بالوصف من وصف الأجسام مهما كانت تلك الأجسام جميلة؟! وعن ابن عباس (رض) في تفسير الآية كما في تفسير الطبري : "هن من بني آدم ، نسائكم في الدنيا ، ينشئهن الله أبكارا عذارى عربا ." . وما أطيب هذا التفسير وأجمله! وإلا ، هل تمكث نساء المؤمنين في الجنة دون أزواج؟! وقال تعالى : " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين . فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ." سورة الأعراف . وننظر في " تغشاها " ، لنجدها أبعد ما يكون البعد عن التصريح بوصف العمل الجنسي ، مع جمال لا يوصف بما يتضمنه من عفة وطهارة ونقاء . ولنا في كتاب الله أحسن أسوة في كل أمر نأتيه أو نقوله . والشيء بالشيء يذكر . فقد طالعت تفسيرا لهذه الآية الكريمة يظن فيه أصحابه ان الزوجين هما آدم وحواء ، عليهما السلام ؛ فعجبت ممن قالوا بذلك التفسير أشد العجب . فبعد الذي جرى لآدم ومنه ، وبعد توبة ربه عليه واجتبائه إياه ، يخطر ببال بعض المفسرين ما يخطر! فسبحان الله المنزه الجناب عن الخطأ . وقال آخرون من المفسرين الذين ذكرهم الطبري : " بل المعنيّ بذلك رجل وامرأة من أهل الكفر من بني آدم ... " ، وهذا التفسير هو الذي يعقل ويمكن الأخذ به . إن الباحث في آيات سورة يوسف (ع) لا بد ويتعلم منها ، إن شاء ، كيف تكون أساليب اللغة وكيف تكون مواضع استعمالها في قصة تضمنتها السورة كاملة كما هو معلوم ، وهي قصة كونها قرءانية ، فلا افتراء فيها ولا خيال سقيما بطبيعة الحال ، وتتحدث في موضوع من الصق المواضيع بالرجل والمرأة ، وبما يدور بينهما من عواطف ، وما يعترى امرأة العزيز من رغبة محرمة ، وما أحاط بالنبي الكريم يوسف من نزاهة وعصمة . على سيدنا محمد وعليه وعلى جميع الأنبياء أطيب تحية وأزكى سلام . والسلام عليكم . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * قصيدة ابن القيم موجودة في الموسوعة الشعرية في إصدارها الثالث ، وهي قصيدة بلغت أبياتها أكثر من خمسة آلاف بيت وثمانماية بيت . وتعتبر وثيقة هامة للباحث في أقوال الفرق الإسلامية السابقة ومعتقادتها وفي ورد ابن القيم عليها . أما الأبيات التي عنيتها في موضوعي فتقع بعد الخمسة آلاف والمايتي بيت تقريبا من القصيدة . |