الحرية وابن المجنونة ...     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
رأي الوراق :     
اخترت هذا الفصل من كتاب نيتشه الشهير : " هكذا تكلم زارادشت " مساهمة مني في هذا النقاش ولو عن بعد :
دوحة الجبل
وارتقى زارا ذات مساء الربوة المشرفة على مدينة ( البقرة الملونة ) فالتقى هناك فتى كان يلحظ فيما مضى صدوده عنه ، وكان هذا الفتى جالساً إلى جذع دوحة يرسل إلى الوادي نظرات ملؤها الأسى ، فتقدم زارا وطوق الدوحة بذراعيه وقال : - لو أنني أردت هز هذه الدوحة بيدي لما تمكنت . غير أن الريح الخفية عن أعيننا تهزها وتلويها كما تشاء . هكذا نحن تلوينا وتهزنا أياد لا ترى .
فنهض الفتى مذعوراً وقال : - هذا زارا يتكلم ! وقد كنت موجهاً أفكاري إليه .
فقال زارا : - ما يخيفك يا هذا ? أليس للإنسان وللدوحة حالة واحدة ? فكلما سما الإنسان إلى الأعالي ، إلى مطالع النور ، تذهب أصوله غائرة في أعماق الأرض ، في الظلمات والمهاوي .
فصاح الفتى : - أجل إننا نغور في الشرور ، ولكن كيف تسنى لك أن تكشف خفايا نفسي ?
فابتسم زارا وقال : - إن من النفوس من لا نتوصل إلى اكتشافها إلا باختراعها اختراعاً .
وعاد الفتى يكرر قوله : - أجل إننا نغور في الشرور . قلت حقاً يا زارا ، لقد تلاشت ثقتي بنفسي منذ بدأت بالطموح إلى الارتقاء ، فحرمت ايضاً ثقة الناس ، فما هو السبب يا ترى ? إنني أتحول بسرعة فيدحض حاضري ما مضى من أيامي ، ولكم حلقت فوق المدارج أتخطاها وهي الآن لا تغتفر لي إهمالي . إنني عندما أبلغ الذروة أراني دائماً منفرداً وليس قربي من يكلمني ، ويلفحني القر في وحدتي فترتجف عظامي ، وما أدري ما أتيت أطلب فوق الذرى !
إن احتقاري يساير رغباتي في نموها ، فكلما ازددت ارتفاعاً زاد احتقاري للمرتفعين فلا أدري ما هم في الذرى يقصدون . ولكم أخجلني سلوكي متعثراً على المرتقى ، ولكم هزأت بتهدج أنفاسي . إنني أكره المنتفضين للطيران . فما أتعب الوقوف على الذرى العالية .
ونظر زارا إلى الدوحة يتكىء الفتى عليها ساكتاً فقال : - إن هذه الدوحة ترتفع منفردة على القمة وقد نمت وتعالت فوق الناس وفوق الحيوانات ، فاذا هي أرادت أن تتكلم الآن بعد بلوغها هذا العلو فلن يفهم أقوالها أحد . إنها انتظرت ولم تزل تتعلل بالصبر ، ولعلها وقد بلغت مسارح السحاب تتوقع انقضاض أول صاعقة عليها .
فهتف الفتى متحمساً : - نطقت بالحق يا زارا ، إنني اتجهت إلى الأعماق وأنا أطلب الاعتلاء ، وما أنت إلا الصاعقة التي توقعتها . تفرس في ، وانظر إلى ما آلت إليه حالتي منذ تجليت لنا ، فما أنا إلا ضحية الحسد الذي استولى علي .
وكانت الدموع تنهمر من مآقي الفتى وهو يتكلم ، فتأبط زارا ذراعه وسار به على الطريق . بعد أن قطعا مسافة منها قال زارا : - لقد تفطر قلبي ، إن في عينيك ما يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من الأخطار . إنك لما تتحرر يا أخي ، بل ما زلت تسعى إلى الحرية ، ولقد أصبحت في بحثك عنها مرهف الحس كالسائر في منامه .
إنك تريد الصعود مطلقاً من كل قيد نحو الذرى ، فقد اشتاقت روحك إلى مسارح النجوم ، لكن غرائزك السيئة نفسها تشتاق الحرية أيضاً .
إن كلابك العقورة تطلب حريتها فهي تنبح مرحة في سراديبها ، على حين أن عقلك يطمح إلى تحطيم أبواب سجونك كلها . وما أراك بالطليق الحر فأنت لم تزل سجيناً يتوق إلى حريته ، وأمثال هذا السجين تتصف أرواحهم بالحزم غير أنها وا أسفاه مراوغة شريرة .
على من حرر عقله أن يتطهر مما تبقى فيه من عادة كبت العواطف والتلطخ بالأقذار ، لتصبح نظراته براقة صافية . إنني لا أجهل الخطر المحدق بك ، لذلك استحلفك بحبي لك وأملي فيك الا تطرح عنك ما فيك من حب ومن أمل .
إنك لم تزل تشعر بالكرامة ولم يزل الناس يرونك كريماً بالرغم من كرههم لك وتوجيههم نظرات السوء إليك ، فاعلم أن الناس لا يبالون بالكرماء يمرون بهم على الطريق ، غير أن أهل الصلاح يهتمون بهم ، فإذا ما صادفوا في سبيلهم من يتشح الكرامة دعوه رجلاً صالحاً ليتمكنوا من القبض عليه لاستعباده .
إن الرجل الكريم يريد أن يبدع شيئاً جديداً وفضيلة جديدة ، على حين أن الرجل الصالح لا يحن إلا الى الأشياء القديمة ، وجل رغبته تتجه إلى الإبقاء عليها .
لا خطر على الرجل الكريم من أن ينقلب رجل صلاح ، بل كل الخطر عليه في أن يصبح وقحاً هداماً .
لقد عرفت من الناس كراماً دلت طلائعهم على أنهم سيبلغون اسمى الأماني ، فما لبثوا أن هزأوا بكل أمنية سامية ، فعاشوا تسير الوقاحة أمامهم ، وتموت رغباتهم قبل أن تظهر ، فما أعلنوا في صبيحتهم خطة إلا شهدوا فشلها في المساء .
قال هؤلاء الناس : ما الفكرة إلا شهوة كغيرها من الشهوات .
وهكذا طوت الفكرة فيهم جناحيها فتحطما ، وبقيت وهي تزحف زحفاً وتدنس جميع ما تتصل به .
لقد فكر هؤلاء الناس من قبل أن يصيروا أبطالاً ، فما تسنى لهم إلا أن يصبحوا متنعمين ، يحزنهم شبح البطولة ويلقي الخوف في روعهم .
استحلفك بحبي لك وأملي فيك الا تدفع عنك البطل الكامن في نفسك اذ عليك أن تحقق اسمى امانيك .
هكذا تكلم زارا .......
هكذا تكلم زرادشت ( كتاب للكل ولا لأحد ) للفيلسوف الألماني : فريدريك نيتشه
ترجمة : فيلكس فارس ــ مكتبة صادر ، بيروت ، لبنان ، نسخة مطبعة الإتحاد 1948 .
|