مفهوم التاريخ     ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
الأخوة العزاء :
تسعدني العودة لهذا الملف خصوصاً بعد أن قرأت ردودكم المشجعة على مواصلة طريق بدأناها منذ ثلاثة أشهر . شكري الجميل للأستاذ النويهي الذي أطلق شارة البدء ولكل الأخوة المشاركين الذين أخص منهم هؤلاء الذين كانت لهم مداخلات قصيرة لم تأخذ حظها في النقاش وذلك بسبب أننا مجبرون على حصر الموضوع وإستعادة الخيط الرئيسي في كل مرة ، لئلا يتشعب كثيراً ويتوزع في سواقي صغيرة سرعان ما تذوب في الطبيعة ، وليس لأي سبب يتعلق بوجهة نظرهم التي ابدوها على أي حال . وأؤكد على أن بعض المداخلات المختصرة يمكن لها أن تصبح مهمة مع بعض المثابرة .
الأستاذ وحيد عاد إلينا بعزم جديد وبمقالتين : سأختصر جداً ردي يا أستاذ وحيد لكن قبل ذلك أريد أن أثني على دماثتك وأؤكد لنا بأن الحوار مع عقلك النير وثقافتك الواسعة هو مصدر سعادة لنا .
بالنسبة للمقالة الأولى : عد ، لو سمحت ، إلى أول مقالة كتبتها في هذا الملف ، و أنظر كيف عرفت فيها الفلسفة على أنها : نظرية في أصل المعرفة . وعبرت عن قناعتي بأن جذرها هو عند اليونان ولا يتجاوزهم إلا تفرعاً عنهم . من هذا المنطلق ، لا يمكن للفلسفة بأن تكون إسلامية إلا إذا إعترفت بأن أصل المعرفة هو الوحي الإلهي . وهذا ما حصل فعلاً مع محاولات التوفيق التي بقيت نجاحاتها محدودة . بالتالي ، فإن المفاهيم التي طورتها الفلسفة الإسلامية إنطلاقاً من الإعتراف بأولوية الوحي ، إرتبطت بنظرية المعرفة هذه وجاءت المفاهيم المحورية كالعقل والنفس والمنطق ، مطبوعة بهذا الطابع .
المقالة الثانية : تدل على متابعتك الدقيقة ، والعرض جيد ومفيد ، ولكنها لا تثبت أو تنفي شيئاً . هي تعود بنا إلى نقطة البداية التي يتحدد على أثرها الكثير من المسلمات : مرجعية الوحي . في هذه لا يوجد نقاش . ولو إتفقنا على أنه لا توجد حقيقة خارج العالم ، فسنختلف على تعريف العالم .
سأحاول الآن ربط كل هذا بالأفكار الضمنية ( وهي محاولة فهم يا أخ يحي ) التي تداولناها دون الإفصاح عنها مباشرة بغية تحديدها .
إن الفكرة الضمنية المحركة لهذا النقاش تنطلق من مفهومين متضادين للتاريخ . النظرة الإسلامية للتاريخ كما تجلت في الترسانة الهائلة التي تركها كنا المؤرخون العرب ، حيث ترى فيه سجلاً للأحداث ، أو إخباراً يحكي تاريخ البشر بدءاً من عهد آدم عليه السلام . ويتضمن هذا التاريخ كل النبؤات والمعجزات وتاريخ الأمم السابقة بما يتفق مع نص القرآن . ويتضمن فكرة القيامة أو اليوم الآخر كنهاية مؤكدة للتاريخ . التاريخ هنا : حلقة دائرية لها بداية ونهاية ستعود لتنغلق على نفسها متضمنة " الأخبار " . هو قصة وجود الإنسان على الأرض من خلال علاقته بالخالق . وهذا الوجود ليس عبثياً كما يبدو من عدم ترابط الأحداث المروية ، بل أن له غاية ضمنية : الخلاص .
صحيح بأن ابن خلدون حاول تطوير مفهوم التاريخ وتفسير الأحداث وربطها ببعضها في نظريته الشهيرة ، إلا أنه عندما عاد وكتبه ، كتبه بنفس طريقة الأوائل .
ضمن هذا المفهوم ، لا يتخذ الزمن ، أي طابع تراكمي إلا من حيث الكمية . الزمن لا يراكم فكراً ، بل هو تعداد رقمي للسنوات والعصور ليس إلا . سأستعيد هنا كلام الأخ يحي المأخوذ من مقالته رقم 20 حول تنقية المشكلة الفلسفية :
"يضع الزمان نفسه كخلفية للأفكار حيث تنشطر إلى أفكار سالفة (ماضي ) و أفكار حديثة (حاضر) , وكل منهما بدورها تفض نفسها في المحيط الإنساني إلى سلفية و حداثة , و يبدو أننا عثرنا أخيرا على صلة قربي بين السلفية و الحداثة أي وضعهم للزمان كخلفية للأفكار, ويبدو أيضا أن الحداثة _ لحسن حظها _ قد حازت الجزء المفضل من تورتة الزمان أي العصر الحديث وهو العصر الذي يحتوي علي أقرب الأفكار إلى الحقيقة , أما السلفيون فقد قنعوا بالأفكار المتبقية في الماضي والتي كانت _يوما ما _ أقرب إلى الحقيقة "
وهي فكرة رئيسية من حيث مدلولها لأنها تعبر عن خلفية النقاش الذي يربط مفهوم الحداثة ببعدها الزمني ويعطي للتيار الإسلامي طابعاً رجعياً كأنه علبة محفوظات إنتهت مدتها .
كنت قد أشرت إلى عدم واقعية هذا الإعتبار ، فهو ، أي التيار الإسلامي ، حديث بكل معنى الكلمة ، لأمرين :
ـ الأول : لأنه لا زال فاعلاً ومؤثراً في الحياة العامة ، سياسياً وإجتماعياً . بكلمة واحدة ، هو لا زال فعالاً .
ـ الثاني : لأنه الوحيد الذي يمتلك مشروعاً فكرياً مستقلاً عن الغرب ، رغم أنه لم يعمل على تطويره وبلورته وظل مستغرقاً في النضال السياسي ، وفي التفسيرات القديمة التي أنتجها العقل العربي أبان مجده وهو غير قادر حتى الآن على مضاهاتها ، لذلك يحيطها بكل تلك القداسة ، إلا أنها غير مقدسة ، هي ضرورية لكنها غير نهائية . هذه واحدة من المآسي التي نعانيها . هناك تجارب غير عربية ، تركية وإيرانية حدثت وتحدث في إتجاه التطوير ولكن معرفتي بها قليلة .
هذه المقولة تجد جذرها في مفهوم التاريخ من وجهة نظر الحداثة ، بوصفه : حركة تصاعدية تتطور بإستمرار بإتجاه الأعلى ، وتعتقد أننا بإنضمامنا إلى الحداثة ، فلسوف نلتحم مع حركة التاريخ السائرة دائماً إلى الأمام ( معنا أم من دوننا ) ، والأخ النويهي يقول بتساؤله الأساسي بوضوح :
لما ذا لايوجد لدينا فلاسفة وهل عقمت الأمة العربية ?أم أننا خارج التاريخ ?
إن الإلتحاق بالمشروع الحداثي يعني الإلتحاق بحركة التاريخ التطورية الذي أنتجه العقل الأوروبي في القرن الثامن عشر وبلوره في العصور اللاحقة ولا يعني تحديداً ولا حصرياً ، فلسفة العقل الإنساني ، بل يعني بأن حركته ، أي التاريخ ، قسرية ، أو حتمية ، وأن الفكر سلسلة متصلة من التصورات تتوالد حتماً من بعضها البعض ، وأن ذلك سيجبرنا على المرور بمحطات التطور البشري كلها ، الخلفية الثقافية لهذا التطور هي مسألة تقديس العقل المادي ، لكنه سرعان ما سيؤدي بنا إلى جملة من المفاهيم السياسية والإجتماعية ، أهمها :
ـ فصل الدين عن الدولة وإعطاء التشريع طابع إنساني نفعي بحت.
ـ جعل الإنسان محور الوجود وموضوع العقل الأول بصفته الغاية في أي بحث علمي أو فلسفي.
ـ بناء عليه ، تبني قيم حقوق الإنسان المعلن عنها في : شرعة حقوق الإنسان كأنها الدين الجديد لليشرية .
ـ تبني القيم التي تروج لها الدعاوي السياسية ، من الديموقراطية ، إلى حرية التعبير ، إلى ، حقوق المرأة بل وحقوق الطفل أيضاً ، وقد زادوا عليها اليوم حقوق الطبيعة ، والتعددية الثقافية ...... وأشياء أخرى ربما تغيب عن ذهني في هذه اللحظة .
هذه المفاهيم ، ليست صحيحة أو خاطئة بحد ذاتها ، بل يمكننا تبني الكثير منها بسهولة ودون أن يمس ذلك منظومتنا الأخلاقية ولا جوهر المعتقد . فلما لا نكون مع الديموقراطية مثلاً ? ولما لا ندعو لتحسين حقوق المرأة ، والطفل لو أردتم وإحترام الطبيعة وحرية التعبير عن الرأي ?
إلا أن المشكلة ليست هنا . وما علينا إلا مراقبة كيفية تحول هذه المفاهيم من دعوى إجتماعية إلى مجرد دعاوي سياسية هدفها تفكيك البنى الإجتماعية التقليدية للمجتمع في العالم كله ، وإعادة تنظيم المجتمعات على خلفية هذه المفاهيم الجديدة التي لا تخدم في الحقيقة سوى برنامج إقطاعيي الرأسمالية الجشعة، الذين يحكمون العالم وأن أهدافهم المضمرة ذات طابع إقتصادي وسياسي بحت .
فالديموقراطية تحولت إلى لعبة إجتماعية يسيطرون عليها تماماً ـ عبر وسائل الإعلام ـ ويتحكمون بنتائجها ( يحضرني الآن قول صحافي فرنسي هو فيليب دو بوفوار والذي يقول بأن الديموقراطية هي خمسين بالمئة من المغفلين ، زائد واحد ) ولقد فضحت الأحداث الأخيرة جديتهم في تطبيقها إلا بما يخدم مصالحهم . وأما المرأة ، فلقد حرروها ، عندما إحتاجوا إليها في بداية الأمر كيد عاملة رخيصة للعمل في المصانع ، وأما الطفل فهم يريدون سلبه حماية أهله الطبيعية وإيهامه بأنه مستقل عنهم وبهذا يتم تفكيك العائلة ويحصلون عليها فرداً فرداً . وأما الطبيعة فمن لوثها ? البوذية أم الإسلام ? وأما حرية الرأي فإسلوا عنها فادي .
إختصرت في النهاية حيث يمكننا التوسع كثيراً ، إلا أن لكل مقال نهاية .
|