معلومة     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
العصر الحجري الحديث إن الخطوات التي خطاها الإنسان قبل التاريخ ليمهد السبيل إلى المدنيَّة التي عرفها التاريخ، كيف أصبح إنسان الغابة أو إنسان الكهف هو المعماري المصري أو الفلكي البابلي أو النبي العبري، أو الحاكم الفارسيّ أو الشاعر اليوناني أو المهندس الروماني أو القديس الهندي أو الفنان الياباني أو الحكيم الصيني، فلا بد لنا أن نسلك سبيلنا من علم الأجناس البشرية عن طريق علم الآثار لننتهي إلى التاريخ، ولقد كانت بيئة الإنسان الفطري ثابتة نسبياً ولم تكن تتطلب القدرة العقلية بل تطلبت الشجاعة وتكامل الشخصية، فكان الوالد البدائي يركّز اهتمامه في بناء شخصية ولده كما تركّز التربية الحديثة اهتمامها في تدريب القوة العقلية، فقد كان يعنيه أن يبني رجالا لا أن يكوّن العلماء ومن هنا كانت طقوس إدماج الناشئ في القبيلة، تلك الطقوس التي كانت في الشعوب الفطرية تعلن بلوغ الناشئ سن النضج وتعترف له بعضوية الجماعة ترمي إلى اختبار شجاعته أكثر مما تقصد إلى قياس معرفته، وكانت مهمتها أن تُعِدَّ الشباب لمشاق الحرب وتبعات الزواج وهي في الوقت نفسه فرصة تتاح للكبار أن يمرحوا ويفرحوا بإيقاع الأذى على الآخرين، وكانت هذه الطقوس الممتحنة عادة علامة انتهاء المراهقة والاستعداد للزواج وكانت العروس تلح في أن يثبت عريسها قدرته على تحمل الألم وكانت هذه الطقوس عند كثير من القبائل تدور حول عملية الختان، فإذا تحرك الشاب أثناء إجرائها أو صرخ ضربه أهله ضرباً ورفضته عروسه المنتظرة التي وقفَت لتشهد العملية في عناية وانتباه على أساس أنها لا تريد أن تتزوج من فتاة، وكانت المرأة أهم ما اتجه إليه التحريم عند البدائيين فآلاف الخرافات نشأت عن المرأة لتجعلها آناً بعد آن مُحرمَة اللمس خطرةً نجسة لأن المرأة أساس الشر كله، فلم يقتصر هذا الرأي على الديانتين اليهودية والمسيحية بل جاوزهما إلى مئات من الأساطير الوثنية، وأدق التحريمات البدائية كان خاصاً بالمرأة إبان حيضها، فكل من لَمسها أو كل ما لمسها في هذه الفترة فَقدَ فضيلته إن كان إنساناً وضاعت فائدته إن كان غير ذلك. وكانت قد شيدت قُرَّى صغيرة في البحيرات السويسرية رغبة في العزلة أو في الدفاع، وكل قرية كانت تتصل باليابس بجسر ضيق لم تزل أساس بعضها في أماكنها، وكانت قوائم المنازل ما تزال باقية هنا وهناك لم تُزِلها الأمواج بفعلها الدءوب، وبين هذه الخرائب الباقية وجدت آلات من العظم والحجر المصقول الذي أصبح في رأي علماء الآثار علامة مميزة للعصر الحجري الجديد الذي ازدهر حول عام 10000 ق.م في آسيا وحول عام 5000 ق.م في أوربا، وشبيه بهذه الآثار ما تركه المخلوق العجيب الذي نسميه باسم بُنَاة الجبال من بقايا هائلة ضخمة في وديان المسسبي وفروعه، ذلك الجنس من الخلق في هذه الجبال التي بنوها وتركوها على هيئة مذابح القربان أو على أشكال هندسية مختلفة أو على هيئة حيوانات الطوطم، ووجدت أشياء صنعوها من حجر وقواقع وعظم ومعدن مطروق مما يضع هؤلاء الملغزين في خاتمة العصر الحجري الجديد، والآثار تدل على أن سكان البحيرة كانوا يأكلون القمح والذرة والشعير والشوفان، فضلا عن مائة وعشرين نوعاً من أنواع الفاكهة وأنواع كثيرة من البندق، وحياة هؤلاء كانت معرضة لموت سريع بسبب الصيد والحرب، أما بعد الزراعة فقد بدأ التكاثر وأيَّدَ سيادة هذا المخلوق على الأرض سيادة مكينة لا شك فيها. وأخذ المخترعون في العصر الحجري الجديد شيئاً فشيئاً يوسّعون ويحسنون آلاتهم وأسلحتهم، فترى بين مخَلفّاتهم بَكَرات ورافعات ومُرهِفّات ومغارز وملاقط وفؤوساً ومعازيق وسلالم وأزاميل ومغازل ومناسج ومناجل ومناشير وأشصاص السمك وقباقيب للانزلاق على الثلج وإبرا ومشابك صَدر ودبابيس، ثم فوق هذا كله ترى العجلة وهي مخترع آخر من مخترعات هذا المخلوق الأساسية وضرورة متواضعة من ضرورات الصناعة والمدنيَّة، فهي في هذه المرحلة من العصر الحجري كانت قد تطورت إلى قرص وإلى أنواع أخرى من العجلات ذوات الأقطار، وكذلك استعملوا كل صنوف الحجر في هذه المرحلة حتى العِصِيّ منها كالحجر الزجاجي الأسود فطحنوه وثقبوه وصقلوه، واحتُفِرت الصَّوانات على نطاق واسع فوجدت في أحد محافر العصر الحجري الحديث وعلى أسطحها المعفّرة بصمات العمّال الذين وضعوها هناك منذ عشرة آلاف من السنين، وفي بلجيكا كشف عن هيكل عظمي لعامل من عمال المناجم في العصر الحجري الحديث سقط عليه حجر فأرداه، كُشف عنه ولا تزال الحافرة في قبضة يده، فعلى الرغم من مائة قرن تفصلنا عنه نحسّ كأنه واحد منا ونشاطره بخيالنا الضعيف فَزَعَه وآلامه، فالمغازل التي بين آثار العصر الحجري الحديث تكشف عن أصل من الأصول العظمى للصناعة، بل أنك لتجد في هذه الآثار حتى المرايا، لكن مخلوق العصر الحجري الجديد لم يعرف عجلة الخزَّاف فيما تدل الآثار الباقية، إنما صنع بيديه هذا الطين أشكالا ذات جمال ونفع في آن معاً وزخرفة الآنية برسوم ساذجة، وهكذا جعل صناعة الخزف منذ بدايتها تقريباً لا تقف عند حد كونها صناعة فحسب بل جعل منها فنًّا كذلك، ومخلوق العصر الحجري القديم لم يخلّف أثراً كائناً ما كان لمسكن غير الكهوف، حتى إذا ما بلغنا العصر الحجري الحديث ألفينا بعض وسائل البناء مثل السلمّ الخشبّي والبكرة والرافعة والمقصلة، فقد كان سكان البحيرة نجارين مهرة يربطون أعمدة الخشب إلى أساس البناء بخوابير ثابتة من الخشب، أو يصلونها وهي موضوعة رأساً لرأس أو يزيدونها قوة بدقّ عوارض تتطلب معها على الجوانب، وكانت أرضيَّة الغرفة عندهم من الطين وجدرانها من الغصون المجدولة مغطاة بطبقة من الطين والسقف من اللحاء والقش والحلفاء والغاب، ثم بمعونة البكرة والعجلة استطاع الإنسان أن ينقل مواد البناء من مكان إلى مكان وبدأ في وضع أسس ضخمة من الحجر لقُراه، وكذلك أصبح النقل صناعة من الصناعات فصُنِعت الزوارق التي لا بد أن تكون قد ملأت البحيرات حركة ونُقِلت التجارة عبر الجبال وإلى القارات البعيدة، وأخذت أوربا تستورد من البلاد النائية أحجاراً نادرة كالعنير والحجر الزجاجي الأسود، ونجد في أصقاع مختلفة من الأرض تشابها في كلمات أو حروف أو أساطير أو خزف أو رسوم مما يدلك على ما كان بين جماعات البشر قبل التاريخ من اتصال ثقافي، فما تم في العصر الحجري القديم من صناعة الآلات واكتشاف النار وتقدم الفنون، وما ظهر في العصر الحجري الحديث من زراعة وتربية حيوان ونسج وخزف وبناء ونقل وطب، وسيادة الإنسان على الأرض سيادة لم يَعُد منازَعاً فيها والتوسع في عمرانها بأبناء الجنس البشري. وكان النحاس أول معدن يليّن لاستخدام الإنسان، فنجده في مسكن من مساكن البحيرة عند روبتهاوزن في سويسرا ويرجع ذلك إلى عام 6000 ق.م تقريباً، ونجده أيضاً في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات من عهد ما قبل التاريخ ويرجع إلى عام 4500 ق.م تقريبا، ثم نجده في مقابر البداري في مصر ويرجع عهده إلى ما يقرب من عام 4000 ق.م، ونجده كذلك في آثار أور التي ترجع إلى عام 3100 ق.م قريباً، وفي آثار بناة الجبال في أمريكا الشمالية التي ترجع إلى عصر لا نستطيع تحديده، وليست تقع بداية عصر المعادن عند تأريخ اكتشافها بل يبدأ ذلك العصر بتحوير المعادن بواسطة النار والطَّرق بحيث تلائم غايات الإنسان، ويعتقد علماء المعادن أن أول استعدان للنحاس من مناجمه الحجرية جاء بفعل المصادفة حين أذابت نارُ أوقدها الناس ليستدفئوا نحاساً كان لاصقا بالأحجار التي أحاطوا بها النار، ولقد لوحظت أمثال هذه المصادفة مراراً في اجتماعات البدائيين حول نارهم في عصرنا هذا، ومن الجائز أن تكون هذه الحادثة العابرة هي التي أدت بالإنسان الأول في نهاية الأمر بعد تكرارها مرات كثيرة، ذلك الإنسان الذي لبث أمداً طويلا لا يساوره القلق في استعمال الحجر الأصم الصلب أن يجعل من هذه المادة المرنة عنصراً يتخذ منه آلاته وأسلحته، لأنها أيسر من الحجر صياغة وأدوم بقاء والأغلب أن يكون المعدن قد استعمل بادئ ذي بدء بالصورة التي قدمته عليها يد الطبيعة، وإنها لَيَداً فيها سخاء وبها إهمال في آن واحد، فكان نقيا حينا مشوبا في معظم الأحيان ثم حدث بعد ذلك بزمن طويل وربما كان ذلك حول عام 3500 ق.م في المنطقة التي تحيط بالطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، أن وقع الناس على فن صهر المعادن واستخراجها من مناجمها ثم بدءوا في صبهّا نحو عام 1500 ق.م، كما تدل على ذلك النقوش البارزة في مقبرة رخ مارا في مصر فكانوا يصبّون النحاس المصهور في إناء من الطين أو الرمل ثم يتركونه يبرد على صورة يريدونها مثل رأس الرمح أو الفأس، فلما أن كشف الإنسان عن هذه العملية في النحاس استخدمها في مجموعة منوَّعة من المعادن الأخرى، وبهذا توفر للإنسان من العناصر القوية ما استطاع به أن يبني أعظم ما يعرف من ضروب الصناعة، وتهيأ له الطريق إلى غزو الأرض والبحر والهواء، ومن الجائز أن تكون كثرة النحاس في شرقي البحر الأبيض المتوسط هي التي سبَّبَت قيام ثقافات جديدة قوية في الألف الرابع من السنين قبل الميلاد في عيلام وما بين النهرين ومصر، ثم امتدت من هاتيك الأصقاع إلى سائر أجزاء المعمورة فبدّلتها حالا بعد حال، غير أن النحاس وحده ليّن فهو على الرغم من شدة صلاحيته للتشكيل إلا أنه أضعف من أن يحتمل مهام السلم والحرب التي تتطلب معدنا أقوى، لهذا كان لابد من عنصر آخر يضاف إلى النحاس ليشدّ من صلابته، ورغم أن الطبيعة قد أشارت إلى الإنسان بما عسى أن يضيفه إلى النحاس لهذه الغاية من مواد كثيرة الأنواع، بل إن الطبيعة كثيراً ما قدمت له نحاسا تم بالفعل خلطه واشتدت صلابته بما فيه من قصدير وزنك مكونّةً بذلك برونزاً طبيعيا أو نحاسا أصفر، على رغم هذه المعونة من الطبيعة فقد لبث الإنسان قرونا قبل أن يخطو الخطوة الثانية في هذا الصدد، وخلط معدن بمعدن خلطا مدبرَّا مقصودا للحصول على مركبات أصلح لأغراضه، وعلى كل حال فهذا الكشف قد اهتدى إليه الإنسان منذ خمسة آلاف عام على أقل تقدير لأنه وجد البرونز بين الآثار الكريتية التي ترجع الى عام 3000 ق.م، وفي الآثار المصرية التي ترجع إلى عام 2800 ق.م وفي ثاني مدن طروادة عام 2000 ق.م، فعبارتا العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث نسبيتان إلى حد كبير وتصفان صورا من الحياة أكثر مما تحددان أزماناً وعصورا، فإلى يومنا هذا يعيش كثير من الشعوب البدائية في عصرنا الحجري مثل الإسكيمو وسكان جزاير بولنيزيا لا يعرفون الحديد في حياتهم إلا على أنه ترف يجيئهم به الرحالة المستكشفون من خارج، فعندما أرسى الكابتن كوك سفنه في زيلندة الجديدة عام 1778م اشترى بضعة خنازير بمسمار ثمنه ستة بنسات، ووصف رحالة آخر سكان جزيرة الكلب بأنهم في حاجة نهمة للحديد حتى لتحدثهم أنفسهم أن ينتزعوا المسامير من السفن. ولئن كان البرونز قوياً شديد الاحتمال إلا أن النحاس والقصدير اللازمين لصناعته لم يكونا من الكثرة في الكمية، أو في أماكن وجودهما بحيث يجد الإنسان حاجته من أجوده صنفاً لشئون الصناعة والحرب فكان لابد للحديد أن يظهر عاجلا أو آجلا، وإنه لمن متناقضات التاريخ ألا يظهر الحديد إلا بعد أن ظهر النحاس والبرونز، وربما بدأ الناس استخدام الحديد بصناعة الأسلحة من حديد الشهُب كما قد صنع بُناةُ الجبال وكما يفعل بعض البدائيين حتى يومنا هذا، ويجوز أن يكون الناس قد عقبوا على ذلك بإذابة المعدن من منجمه بواسطة النار ثم طرقوه إلى حديد مشغول، ولقد وجد ما يشبه أن يكون حديداً شهابياً في المقابر المصرية قبل عهد الأسرات المالكة، وتذكر النقوشُ البابليةُ الحديدَ على أنه سلعة نادرة ثمينة في عاصمة حمورابي عام 2100 ق.م، وكشف عن مَسبَك للحديد قد يرجع عهده إلى أربعة آلاف عام في روديسيا الشمالية، وأقدم حديد مشغول مجموعةُّ من المُدَي وُجِدَت في جيرار في فلسطين حُدِّدَ تاريخها بسنة 1350 ق.م. |