غذوتك مولودا (رائعة أمية بن أبي الصلت) كن أول من يقيّم
أجمل قصائد أمية على الإطلاق قصيدته (غذوتك مولودا) والمشهور أنه قالها في معاتبة ولد له، وقد نسبها إليه كل من أبي الفرج في (الأغاني) وابن حمدون في (التذكرة الحمدونية) والمرزوقي في (شرح الحماسة) والهجري في (التعليقات والنوادر) والصفدي في (الوافي) وابن عبد البر في (بهجة المجالس) وابن سعيد المغربي في (نشوة الطرب) ثم ارتأى الدكتور بهجة الحديثي أن يحكم على أمية بتجريده من هذه القصيدة. فجعلها في القسم المنسوب إلى أمية (ص 352 من كتابه) قال: والقصيدة عباسية في نفسها وهي لا تشبه شعر أمية، ولا أراها له. واعتمد في تضعيف نسبتها إلى أمية ما رود في كتاب (العققة والبررة) لأبي عبيدة، مع أن أبا عبيدة لم يفعل سوى أن روى قصيدة لأبي عمران يحيى بن سعيد الأعمى، مولى آل طلحة بن عبيد الله، وذكر انه قالها في ولده عيسى. وأورد (34) بيتا من القصيدة
وكتاب (العققة والبررة) منشور في الوراق، ضمن كتاب (نوادر المخطوطات) نشرة المرحوم عبد السلام هارون.
وبكل الأسف والمرارة أقول: لم ينتبه الحديثي إلى أن أبا عمران صرح في قصيدته أنه يتمثل ويقتبس شعر غيره إذ قال:
فـقلت له يوماً لأسمعَ iiقوله |
|
ويعلمَ بالتعليم من كان أجهلُ |
غذوتك مولوداً وعلتكَ iiيافعاً |
|
تـعلُّ بما أجنى إليك وتنهلُ | ولا يمنع أن يكون ابن قتيبة الدينوري قد وقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الحديثي، إذ شذ فنسب الأبيات إلى أبي عمران، ورب ضار نافعة، فرواية أبي عبيدة لقصيدة أبي عمران تضمنت أهم نشرة لقصيدة أمية، فلذلك سوف أجتهد يجب إعادة النظر في قصيدة أمية وعدد ابياتها، بناء على ما ورد في قصيدة أبي عمران بعد قوله:
فـقلت له يوماً لأسمعَ iiقوله |
|
ويعلمَ بالتعليم من كان أجهلُ |
وهي (17) بيتا، وأما القصيدة في نشرة الموسوعة فهي (14) بيتا، منها أبيات لم ترد في قصيدة أبي عمران.
وقد أورد الحديثي في القطعتين (82) و( 83) بيتين من نفس القصيدة، وهما:
ولكن من لا يلق امراً ينوبه بعدته ينزل به وهو أعزلُ
وما صولة الحق الضئيل وخطره إذا خطرت يوما قساور بزّل
نقل الأول عن الكتاب لسيبويه و(خزانة الأدب) للبغدادي والإنصاف، والثاني عن تاج العروس. !!
وبقي أن أنبه إلى أنه ليس في قصيدة أبي عمران، ما يدل أنه يخاطب بها ابنه، وإنما هو يخاطب بها صديقا له هجاه، وذلك ظاهر من مطلع القصيدة:
ومن خبرى أنَّي منيتُ بصاحبٍ يلومُ وإن لم أجنِ ذنباً ويعذلُ
وقد انفرد أصحاب الحديث بذكر قصة القصيدة من غير تسمية أمية، ومنهم ابن ماجه، والطبراني في الأوسط، والطحاوي وبقي بن مخلد، والبزار، والبيهقي في (دلائل النبوة) وابن القطان.
وأختار هنا رواية البيهقي في (الدلائل) في باب (باب اختياره - صلى الله عليه وسلم - الشعر)، من حديث جابر - رضي الله عنه أنه جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، يريد أبي أن يأخذ مالي؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ائت بأبيك عندي)؛ فلما جاء
أبوه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقول ابنك أنت تأخذ ماله)، قال: سله يا رسول الله، لا مصرف لماله إلا عماته وقراباته، أما أصرفه على نفسي وعيالي؟ فنزل جبريل - عليه السلام - وقال: (يا رسول الله، قال هذا الشيخ في نفسه شعرا ما وصل إلى أذنه)؛ فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هل قلت في نفسك شعرا؟) فاعترف الشيخ، وقال: لا يزال يزيدنا الله - تعالى - بك بصيرة ويقينا؛ وعرض سبعة أبيات نظمها في نفسه، وهي:
غـذوتك مولودا وصُنتك iiيافعا |
|
تَـعـلُّ بما أجني عليك وتنهلُ |
إذا ليلة ضاقت بك السقم لم أبت |
|
لـسـقـمـك إلا ساهرا iiأتمل |
تخاف الردى نفسي عليك iiوإنها |
|
لـتـعلم أن الموت حتم iiمُوكّلُ |
كأني أنا المطروق دونك iiبالذي |
|
طـرقت به دوني فعيني iiتهمل |
فـلما بلغت السن والغاية iiالتي |
|
أتـتـك مراما فيه كنت iiأؤمِّلُ |
جـعلت جزائي غلظة iiوفظاظة |
|
كـأنـك أنت المنعم iiالمتفضِّلُ |
فـلـيتك إذ لم تَرْعَ حق iiأُبوَّتي |
|
فعلت كما الجار المجاور iiيفعل | قال جابر: فبكى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم أخذ تلابيب ابنه وقال
له: (اذهب، فأنت ومالك لأبيك). |