ذكريات على فراش الحمى كن أول من يقيّم
قال أمير البيان تحت عنوان (مرضي في مكَّة المكرمة وأسبابه، وتأثيره في أثناء أداء فريضة الحج): إذا كان الأجر على قدر المشقَّة فقد كتب الله لهذا العبد أجراً عظيماً. فإنَّه لم تمضِ على مقامي بقرب المقام أكثر من تسعة أيام حتى انحلَّت قواي والتاث مزاجي وأصبحت مريضاً تتصاعد بي الحمَّى إلى أن بلغت درجة الأربعين. وذلك أنّي من أبناء جبل لبنان ولم تألف أجسامنا الحرّ الشديد الذي ألفته أجسام إخواننا أهالي جزيرة العرب لا سيَّما سكان التهائم منهم. وكنت من أصل فطرتي أكره الحرّ وأفرُّ منه، ولم أكن أيام القيظ أفارق الصرود وهذا كان سبب اصطيافي في عين صوفر مدة تزيد على عشرين سنة، وقد نشأ عن شدّة رغبتي في ذلك المكان أنِّي اقتنيت فيه الكروم والعقارات وتأثلت ما يقارب ثلاثمائة ألف ذراع مربع من الأرض، ولم تكن درجة الحرارة في صوفر تزداد بميزان سنتيغراد على 23 إلا نادراً، وكذلك كنت أقيم أحياناً بعاليه وحرارتها تعلو فوق 26 أو 27 إلا نادراً، ومنذ اثنتي عشرة سنة أنا في أوربة وليست هذه القارة بالتي يشكو فيها الإنسان شدَّة الحرِّ، وما أذكر أنّي لقيت في أوربة شيئاً يستحق اسم الحرِّ إلا في روما إذ صادف وجودي فيها إحدى المرار في شهر يوليو. ومن المعلوم أنّي أقمت سنوات بألمانية وهي لا تعرف الحرَّ إلا عابر سبيل، وأني منذ سنوات في سويسرا وهي لا تدري شيئاً من حرارة القيظ. وعدا ذلك تراني في سويسرا نفسها أقضي الصيف من قمَّة جبل إلى قمة جبل. فتارة في القمة المسمَّاة (روشه دونيه) فوق (مونترو) وهي تعلو عن سطح البحر ألفين وخمسين متراً، وطوراً في (شتانسر هورن) فوق بحيرة (لوسرن) وهي قمة بيضية الشكل تعلو عن سطح البحر 1950 متراً، وأحياناً في القمم الشامخة التي تقابلها مثل (بيلاتوس) المشرفة على لوسرن إشراف المنارة على الجامع، ومثل (ريغي) التي يطل منها الرائي على ثماني بحيرات، في لمحة واحدة من شفير شاهق، ومن شدة غرامي بهذه القمم التي قد كنت أصادف فيها الثلج أحياناً في شهر أغسطس أتذكر أنّي تركت قمَّة (غورتن كولم) في برن وذهبت فانتجعت قمة (شتانسر هورن) في لوسرن لأنها أعلى من الأولى، وأقمت هناك شهراً إلى أن جاءني كتاب من سعادة الأخ الشهم الهمام عبد الحميد بك سعيد - رئيس جمعية الشبَّان المسلمين الآن في مصر - أمتع الله الإسلام بطول حياته، وكان يسكن في (غورتن كولم) في الفندق الذي أنا فيه فكان يؤنّبني في هذا الكتاب على تلك العزلة برأس جبل (شتانسر هورن) ويقول: لا يحل لك هذا. والخلاصة أنَّ برودة سويسرا كلّها لم تكن تقنعني وكنت أنتجع منها الشناخيب التي أستيقظ فيها صباحاً فأرى الأرض التي حولنا بيضاء من الثلج وذلك في إبان فصلالقيظ. وقبل ذلك لما كنت في جبلنا لبنان لم تكن عين صوفر (وهي في ارتفاع 1350 متراً) تقنعني وتكفيني فطالما قصدت أبْهل الباروك وتوأمات نيحا وهي تعلو 1800 متر وغير ذلك. فكيف بي الآن وقد صرت في إقليم حرارته تقابل من 40 درجة بميزان سنتيغراد إلى 50 وذلك لأول مرَّة في حياتي. لا جرم أنّي لم أتحمَّل هذا الفرق الشاسع ورأيت نفسي هبطت هبطة واحدة كما يقع الزق عن الظهر لا متدرجاً ولا متدحرجاً. وكان قد سبق أنّي لمَّا مررت بمدينة السويس منتظراً باخرة البوسطة المصرية للركوب بها إلى جدَّة لم يشاءوا أن يمهلوني يومين ريثما يأتي ميعاد سفر الباخرة بل صدر الأمر بتسفيري على باخرة هندية سيئة الحال مسلوبة أسباب الراحة في المنام والغذاء والجلوس وكل شيء وناهيك أنه كان فيها نحو 1500 حاج وأنها كانت من البواخر الصغيرة. فبعد هذا لا ينبغي لي أن أطيل الشرح وأن أقول كيف مرضت وإنما أقول إنّي وطئت أرض جدَّة ملتاثاً. ثم إني لما وصلت إلى مكَّة نزلت في منزل سعادة ولدنا فؤاد بك حمزة وكيل الشؤون الخارجية فهيَّأ لي سريراً على السطح كما هي عادة أهل البلد الحرام في أيام الصيف. ولكن هذا السطح لم يكن مفتوحاً من جوانبه الأربعة كما هي بعض السطوح لأن الباني الأصلي لذلك البيت كان قد حوطه بجدران عالية فوق قامة الإنسان غيرة على الحرم أن ينظر أحد لهنَّ شبحاً ولو من بعيد، فأصبح السطح مسدوداً من كلِّ جهاته إلا من الأعلى فلم يكن الإنسان ينظر منه إلا القبَّة الزرقاء، ومن عادة الناس أن يفتحوا في الحيطان نوافذ لأجل الهواء أو للنظر عند اللزوم فأمَّا هذا السطح فلم تكن في جدرانه العالية إلا قمريتان أو ثلاث مشبكات بحجارة مستديرة بينها ثقوب ضيقة لا تكاد المسلة تدخل في الواحد منها، فكانت في حكم كان لم يكن من جهة نفوذ الهواء هذا على فرض وجوده. ولمَّا جئت لاضطجع في السرير الوثير قيل لي إنَّه لا بدَّ من الدخول تحت الكلة بلباقة عظيمة حتى لا يتسنى للبعوض أن يدخل ورائي فإنَّ البعوض هناك تجب الوقاية منه، فكنت أدخل تحت الكلة وأنا أسترق السمع حتى إذا سمعت طنين بعوضة اجتهدت في محوها أو طردها، وكنت طول الليل كأني تحت الحصان أحاذر أن تقع مني حركة يرتفع بها شيء من سجوف الكلة فيهجم من خلال ذلك البعوض وتسوء العاقبة. على أن قولي (طول الليل) صورة من صور التعبير فإنّي ما قدرت ولا ليلة أن ابقى تحت ذلك الحصار أكثر من ساعة لأن السرير كان مسدوداً بالسجوف السابغة والسطح كان مسدوداً بالجدران الإسكندرية العالية، فلم يبقَ من سطحيته إلا الاسم والحرُّ كان شديداً، وبالاختصار كدت أختنق، وصبرت إلى أن غرق مضيفي الشاب في لجَّة الكرى، ونزلت إلى سطح آخر مفتوح من كل الجوانب يرقد عليه الخدم بدون أغطية ولا سجوف مسدولة ولا خشبة بعوض ولا اتقاء جراثيم، وقلت في نفسي ليفعل البعوض ما شاء فإني تحت تلك الكلَّة لا أستطيع الغمض ولا دقيقة والنوم سلطان لا يُغالب فلا بدَّ من طاعته ورحم الله القائل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فلا يسع المضطر إلا ركوبها فوجدت على ذلك السطح خشبة عارية عن الفرش اضطجعت عليها وكنت أمشي على رؤوس أصابعي حتى لا يستيقظ أحد لا فؤاد حمزة ولا خدمه فإني لا أحب أن أزعج أحداً ولا أن أسلب راحة الناس لأجل راحة نفسي. على أني لو أيقظتهم وأزعجتهم وسلبت راحتهم فلا أعلم ماذا كانوا يقدرون أن يصنعوا لي، وجميع تلك العلل التي وقفت في طريق رقادي لم يكن مصدرها إعواز أسباب الرفاهة وإنَّما كان مصدرها الجو...وما حيلتي وما حيلتهم هم في الفلك؟ فارتميت على تلك الخشبة بدون وطاء سواها ولا غطاء سوى القميص. وهكذا أمكنني قبيل الفجر أن أهوم تهويماً أشبه باليقظة منه بالمنام. ولكن لم يصبح الصباح حتى قامت القيامة إذا استيقظ الجميع فرأوني على تلك الحالة فأخذوا يدوكون في الطريقة التي تلزم لأجل تمكيني من الرقاد، وبهذه المذاكرات أطاروا ما كان بدأ من تهويمي، ولأجل توفير راحتي سلبوا تلك البقية الباقية من راحتي. وفي هذه الأثناء طلعت الشمس ليس من دونها حجاب لأنّي كنت على السطح كما قلنا، وأنا لم أكن أقدر أن أنام في الظل ولا في العتمة فما ظنّك في الشمس فنهضت برغم أنفي وأنا أقول: يا من يأتيني بخبر عن الكرى. وأخذ فؤاد بك يفكر في الاستعدادات لمعركة الليلة الآتية، وصاروا ينظرون في وجوه الوسائل وفنون الذرائع حتى أتمكن من الرقاد ثاني ليلة، ولكن لم يكن في الحقيقة من وسيلة تنفع، ولا من ذريعة تنجع، لأن العلَّة هي شدَّة الحرِّ وعدم اعتيادي مثل هذا الجو، وقد يُقال إن فؤاد بك حمزة هو لبناني مثلي وبلدته مصيف شهير وهي عبية، ولم يتعوَّد جسمه الحرارة، ولكن بيني وبين فؤاد بك حمزة ثلاثين سنة، فقوّة المقاومة التي عنده ليست عندي، ولذلك لم يتمكَّنوا في الليلة التالية برغم جميع الوسائل من أن يجعلوني أنام، وخسر فؤاد بك المعركة والحقيقة أن الدائرة إنَّما كانت تدور عليّ وحدي لأنّي أنا الذي لم يكن ينام. ولمَّا وصل الخبر عمَّا أعانيه إلى جلالة الملك، بمكان ذلك الأسد من الجميع بين الأضداد من الصلابة والشمم والحنو والتواضع، أشار بأن أنتقل إلى محلَّة الشهداء بظاهر مكَّة رعياً لخفَّة حرارتها عن حرارة مكَّة، فإنَّ لجلالته هناك مقصفاً بديعاً أنيقاً في وسطه صهريج ماء عظيم، وأمامه بستان حديث الغراس، فسيح الرقعة سيكون يوماً من الجنان المشهورة. فكان يدري أيَّده الله أنَّ بين الشهداء والبلدة فرقاً كبيراً في الجو، وأنّي لو بتُّ في ذلك المقصف الذي لجلالته لما كنت أحرم طيب الرقاد. إلا أن مضيفي فؤاد بك لم يكن يرغب في أن أتحوَّل إلى الشهداء خشية أن ينقضي شيء من أسباب الراحة التي لا يأمن على استكمالها إلا إذا كان هو قريباً، والحال أن الشهداء هي ربض من أرباض مكَّة ومن هذه إليها مسافة وأنا لم أكن أريد أن آتي مالا يروق فؤاد بك، وكنت أقول في نفسي: هنَّ ليالٍ قلائل أقضي مناسك الحج ثم أصعد إلى الطائف. فعلى فرض أنّي لم أنم هذه المديدة، فلن تنفد بها قوة مقاومتي للطبيعة. ولذلك عصيت أمر الملك في هذه وندمت ولا ندامة العصاة الذين شاقوه في السنة الماضية. |