البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات زهير ظاظا

 303  304  305  306  307 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
والشيء بالشيء يذكر    كن أول من يقيّم

تحية طيبة لكل الأساتذة المشاركين، وأخشى أن يكون في كلام الدكتور يحيى ما يحرك ثائرة الدكتور صبري، فهذه الكلمة التي تمثل بها : خطأ شائع خير من صواب نادر ليست من بنات أفكاره، بل هي كلمة تقال، في مواطن كثيرة، بل هو ما اختاره رسول الله (ص) كما في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنن بألفاظ مختلفة أن عائشة قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم عن الجَدْر =أي الحِجْر= أمن البيت هو ؟ قال: " نعم ".  قلت: فلِمَ لم يدخلوه في البيت ؟ قال: " إن قومك قصرت بهم النفقة ".  قلت: فما شأن بابه مرتفعًا ؟  قال: " فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ". يا عائشة، لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم " وفي رواية أخرى: " ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألزق بابه بالأرض..
وهذا الحديث من أشهر أحاديث الإسلام، لأن عبد الله ابن الزبير هدم الكعبة كما هو مذكور في تتمة الحديث في بعض الروايات، من ان النبي (ص) أوصى عائشة أن تبلغ وصيته المسلمين بضرورة بناء الكعبة على أساس إبراهيم، واتفق على ذلك جماعة من خيرة الصحابة والتابعين، فهدموا الكعبة وبنوها حسب وصية النبي (ص) ثم لما تمكن الحجاج بن يوسف الثقفي من إطفاء ثورة عبد الله بن الزبير هدم الكعبة من جديد وبناها على ما كانت عليه في عهد الجاهلية، ولم تزل على قواعد بناء الحجاج حتى اليوم. وإنكار كل هذا يعني أن تاريخنا كله في قفص الاتهام. وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمة هذه القصة في كتابه (منهاج السنة النبوية) بما لا مزيد عليه.
قال (ومعلوم أن من أعظم الناس كفرا القرامطة الباطنية الذين قتلوا الحجاج وألقوهم في بئر زمزم وأخذوا الحجر الأسود وبقى عندهم مدة ثم أعادوه وجرى فيه عبرة حتى أعيد ومع هذا فلم يسلطوا على الكعبة بإهانة بل كانت معظمة مشرفة وهم كانوا من أكفر خلق الله تعالى وأما ملوك المسلمين من بني أمية وبني العباس ونوابهم فلا ريب أن أحدا منهم لم يقصد أهانة الكعبة لا نائب يزيد ولا نائب عبد الملك الحجاج بن يوسف ولا غيرهما بل كانوا معظمين للكعبة وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة ويزيد لم يهدم الكعبة ولم يقصد إحراقها لا وهو ولا نوبه باتفاق المسلمين ولكن ابن الزبير هدمها تعظيما لها لقصد إعادتها وبنائها على الوجه الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وكانت النار قد أصابت بعض ستائرها فتفجر بعض الحجارة ثم إن عبد الملك أمر الحجاج بإعادتها إلى البناء الذي كانت عليه زمن رسول لله صلى الله عليه وسلم إلا ما زاد في طولها في السماء فأمره أن يدعه فهي على هذه الصفة إلى الان. وهذه مسألة اجتهاد فابن الزبير ومن وافقه من السلف رأوا إعادتها إلى الصفة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لعائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قرشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا قال البخاري يعني بابا وعنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر وفي رواية في صحيح مسلم ولجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن أبي رباح قال لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرئهم على أهل الشام فلما صدر الناس قال يا أيها الناس أشيروا على في الكعبة أنقضها ثم أبنى بناءها أم أصلح ما وهي منها قال ابن عباس رضي الله عنهما فإني قد فرق لي فيها رأى أرى أن تصلح ما وهي منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن الزبير لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده فكيف بيت ربكم إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمرى فلما مضت الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا الأرض فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه قال ابن الزبير سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع ولجعلت لها مابين بابا يدخل الناس منه وباب يخرجون منه قال فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس قال فزاد فيه خمس أذرع من الحجر حتى أبدى أسا نظر إليه الناس فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء أما ما زاد في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب
 وعن عبد الله بن عبيد قال وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال عبد الملك ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة رضي الله عنها ما كان زعم أنه سمعه منها قال الحارث بلى أنا سمعته منها قال سمعتها تقول ماذا قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمى لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع. هذا حديث عبد الله بن عبيد وعن الوليد بن عطاء عن الحارث في هذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم ولجعلت لها بابين موضعين بالأرض شرقيا وغربيا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها قالت قلت لا قال تعززا ألا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقى حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط قال عبد الملك للحارث أنت سمعتها تقول هذا ؟!! قال نعم. فنكتَ ساعة بعصاه ثم قال وددت أني تركته وما تحمل.. وذكر البخاري عن يزيد بن رومان شهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسمنة الإبل فذكر الزيادة ستة أذرع أو نحوها قلت وابن عباس وطائفة أخرى رأوا إقرارها على الصفة التي كانت عليها زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها كذلك ثم إنه لما قتل ابن الزبير رأى عبد الملك أن تعاد كما كانت لاعتقاده أن ما فعله ابن الزبير لا مستند له فيه ولما بلغه الحديث ود أنه تركه فلما كانت خلافة الرشيد رحمه الله شاور مالك بن أنس في أن يفعل كما فعل ابن الزبير فأشار عليه مالك بن أنس أن لا يفعل ذلك وقيل عن الشافعي إنه رجح فعل ابن الزبير. وكل من الأمراء والعلماء الذين رأوا هذا وهذا معظمون للكعبة مشرفون لها إنما يقصدون ما يرونه أحب إلى الله ورسوله وأفضل عند الله
 

11 - نوفمبر - 2008
كتاب (العنوان الصحيح للكتاب)
شكرا لكم    كن أول من يقيّم

الحمد لله على السلامة أستاذ زياد عبد الدايم، وكل الشكر لكم على هذه البطاقة العطرة، متمنيا أن تجدوا الفرصة لمعاودة التواصل مع سراة الواق، وفقكم الله وسدد خطاكم

11 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
جبال جزيرة العرب أطيب هواء من لبنان وسويسرا    كن أول من يقيّم

شكرا لكما أستاذتي الغالية ضياء خانم وأستاذنا الكبير ياسين الشيخ سليمان، وقد استوقفني في الكتاب هذا النص أيضاً، وطالما سمعت من أصدقائي عن طبيعة هذه الجبال الساحرة، التي اتى على ذكر الكثير منها أمير البيان، قال:
إنَّ في جزيرة العرب سلسلة جبال عالية لا تجد أحسن منها هواء ولا أطيب إقليماً لا في جبال لبنان ولا في جبال سويسرا ولا في غيرهما.
ولأجل أن تعلم ارتفاع هذه الجبال أريد أن أذكر لك علوَّ بعض المدن والقرى العربية عن سطح البحر ممَّا أمكنني الاطلاع عليه في كتب من تأليف ضباط من أركان حرب الجيش التركي أطالوا الإقامة باليمن وكتبوا عنه.
فالطائف تعلو نحو 1600 متر عن سطح البحر على حين عين صوفر أبدع مصيف في لبنان لا تعلو أكثر من 1350 ولا يوجد في جبل لبنان مكان مسكون يعلو عن سطح البحر أكثر من 1500 متر.
وإنَّ علوَّ (أبها) - مركز حكومة عسير - عن سطح البحر 2275 متراً وأعلا منها (سوغا) فهي تعلو 2360 متراً. وهناك بلدة غامد وعلوّها 2110 أمتار. ومحائل وعلوها 1610 أمتار.
ثم إنَّ صنعاء اليمن تعلو عن سطح البحر 2342 متراً. وجبل نُقُم - الذي تقدَّم ذكره -
يعلو 2942 متراً، وكوكبان 3001 متر، وتعز 1347 متراً وعمران 2302 وصعدة 2216
والروضة 2306 وتلا 2861 وذمرمر - تقدم ذكرها في بحث المعادن - 2698 وشبام -
تقدَّم ذكرها أيضاً - 2635 وذمار 2431 وبوعان 2936 وسوق الخميس 2372 ومناخه
2321. فارتفاعات مثل هذه مهما يكن من وجودها في منطقة جنوبية لا يمكن إلا أن تكون المثل
الأعلى في رقَّة الهواء وطيب المناخ، والملاءمة للصّحَّة.
وهذه الجبال هي عندي أوتاد البيت العربي لا في منعتها الطبيعيَّة ومواقعها الحربية فحسب، بل في بيئتها الصحيَّة، ونقاوتها الجويَّة، إذ ذلك من أعظم العوامل التي تعتمد عليها الأسرة العربية في صيانة نفسها.
وهذه السلسلة الجبليَّة العالية ممتدَّة من بلاد الشام، ومن أهم أقسامها وأطيبها نجعة جبال الشراة التي كانت معمورة جدَّاً في صدر الإسلام، والتي لها مستقبل كبير للعرب ومستأنف باهر لو خلصت من أيدي الإنكليز.
ولقد أقمت بقصبة معان شَيْعَ شهر في أثناء الحرب العامَّة سنة 1915 إذ كنت ذاهباً ومعي 120 مجاهداً من جماعتي إلى حرب الترعة منضمَّاً إلى الجيش العثماني الحجازي الذي كان يقوده وهيب باشا، وسرنا من معان هبوطاً مستمرّاً إلى قلعة النخل في صحراء التيه. ولقد قطعت في تلك الرحلة جانباً من جبال الشراة وعرفت أيَّ جبال هي وأي نجعة طيّبة هنالك.
ومن حول وادي القرى في الحجاز جبال وأودية وعيون تقدَّم الكلام على شيء منها، وفي جهات المدينة المنوَّرة جبل رضوى الشهير، قال أبو زيد: وقرب ينبع جبل رضوى، وهو جبل منيف ذو شعاب وأودية، ورأيته من ينبع أخضر، وأخبرني من طاف في شعابه أنَّ فيه مياهاً كثيرة وأشجاراً، ومن رضوى يقطع حجر المسن ويحمل إلى الدنيا كلّها، قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (رضوى رضي الله عنه، وقُدْس قدّسه الله (قدس بضم فسكون جبل بتلك الناحية) وأُحد يُحبُّنا ونحبّه).
قلت وحدَّثنا من يعرفون رضوى أنَّه مصيف كأحسن ما يوجد من مصايف الشام ماء وهواء، وهو على مقربة من المدينة ومن ينبع وعلى ليلتين من البحر فلا يلزم لرضوى إلا تعبيد طريق تسير عليها السيَّارات ليعمر وتسكنه الناس وتقصده في أيَّام القيظ.
وقال الهمداني: الجبال المشهورة عند العرب المذكورة في أشعارها: أجأ وسلمى جبلا طيء، وأَبان (بفتح أوله) وتَعار (بفتح أوله) وأُبن (بضم فسكون) وقُدْس ورضوى وعروان ويسوم وحراء وثبير والعارض وقنان (بفتح أوله) وأفرع (على وزن أفعل) والنير (بكسر النون) وعسيب ويذبل والمجيمر ولبنان واللكام.
ومن أنزه الجبال في الجزيرة: آجأ وسلمى جبلا طيء. قيل إن أجأ اسم رجل وسلمى اسم امرأة، وقيل أجأ علم مرتجل وقيل بل منقول معناه الفرار، يقال أجأ الرجل إذا فر.
قال الزمخشري: أجأ وسلمى جبلان عن يسار السميراء -وقد رأيتهما - شاهقان.
ونقل ياقوت عن أبي عبيد السكوني: أجأ أحد جبلي طيء وهو غربي فيد. وبينهما مسير ليلتين وفيه قرى كثيرة. قال: ومنازل طيء في الجبلين عشر ليال من دون فيد إلى أقصى أجأ إلى القُريَّات من ناحية الشام. وبين المدينة والجبلين على غير الجادة ثلاث مراحل. قال أمرؤ القيس:
أبت أجأ أن تسلم العام جارها         فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
أي أبت أهل أجأ، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، مثل قالت إنكلترة لفرنسة كذا، واحتجَّت ألمانية على كذا، وعقدت أمريكا معاهدة كذا الخ. وقال عارق الطائي:
ومن أجأ حولي رعان كأنَّها         قنابل خيل من كميت ومن ورد
وقال العيزار بن الأخفش الطائي:
ألا حي رسم الدار أصبح باليا         وحي وإن شاب القذال الغوانيا
تحملن من سلمى فوجهن بالضحى         إلى أجأ يقطعن بيدا مهاويا
وقال زيد بن مهلهل الطائي:
جلبنا الخيل من أجأ وسلمى         تخب نزائعاً خبب الركاب
جلبنا كل طرف أعوجي         وسَلهبة كخافية الغراب
وكان يحدّثني عن هذين الجبلين وما فيهما من الريف والخصب والأودية والعيون الأخ رشيد باشا النجدي الذي كان معتمداً لابن رشيد في الأستانة العليَّة أيَّام السلطنة العثمانية. وسمعت أخبارهما من نجديين آخرين، وطالما تمنَّيت لو أمكنتني الرحلة إلى نجد والتنزّه فيهما.
والسلسلة الجبلية من الحجاز إلى اليمن متَّصلة، وعن يمين الذَّاهب من الشام إلى مكَّة التهائم الواصلة إلى سيف البحر الأحمر، وعن اليسار بلاد نجد وهي من أطيب البلدان نجعة وألطفها هواء يضرب المثل بجودة هوائها، فيُقال: بلاد نجديَّة الهواء.
وإذا سار الراكب من الطائف إلى صنعاء اليمن لم يصل إليها إلا في مسيرة شهر كلها في
الجبال العالية، والأهوية اللطيفة، والمناظر البديعة، والمناهل العذبة. (يتبع)

12 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
الأماكن النزهة بجوار الطائف    كن أول من يقيّم

تتمة النص المنشور في التعليق السابق:
وأمَّا ما تيسَّر لي مشاهدته من الأماكن النزهة بجوار الطائف فهو وادي محرم أي قرن المنازل الذي ينتهي إلى وادي السيل، ومنه يحرم الحجَّاج الذين هم آتون من الشرق، ولا يبعد وادي محرم عن الطائف أكثر من ساعة ونصف وهو على طريق الكرا، وهو وادٍ يجف في الصيف إلا أن البساتين منتظمة بجانبه على مسافة ثلاث أو أربع ساعات، تشرب بالسواني وفيها من جميع أصناف الفواكه وألذّها، ولم أصادف عنباً أشهى ولا أكبر حبَّاً من عنب وادي محرم.
ومن هذا الوادي يصعد الإنسان إلى الهدة مرتقياً العقبة المسماة (الكرا الصغير) وخمَّنت علوها بثلاثمائة متر ومرتقاها صعب.
وقد كان الواجب على الحكومة وعلى أهالي القرى الكثيرة المجاورة ولا سيَّما وادي محرم أن يصلحوا هذا المرتقى الذي يترجل فيه كلُّ الركبان من وسط العقبة. وإذا وصل الإنسان إلى سطح الجبل وجد يفاعاً منبسطا ينشرح له الصدر، وشاهد جناناً ناضرة تشرب بالسواني أيضاً يُقال لها بستان المغربي وبستان البُّني وغيرهما.
ولقد بتنا ليلتين بوادي محرم، وليلة واحدة في بستان المغربي ضيوفاً على صاحب البستان وهو مغربي تونسي الأصل أبوه جاء إلى هذا المكان وتمكَّن به.
وهناك جبل عالٍ جدَّاً يعلو 250 متراً عن البساتين يُقال له جبل الهندي وهو ناتئ من الأرض صعداً أشبه بالمئذنة، وكان في إحدى ذراه حصن بقيت فيه مدافع وجنود إلى آخر أيام الملك حسين، وقد طلعنا هذا الجبل إلى قمَّته فظهر لنا جانب كبير من الحجاز وبدت لنا خضرة ونضرة وأودية لا يأخذها الإحصاء، وكان منظراً يبهر العقول.
وبإزاء هذا الجبل جبل آخر أقلّ منه ارتفاعاً اسمه (جبل الكمل) بحذائه قرية بل قرى وبساتين تسقيها النواضح.
ومن الكمل إلى قرية الهدة مسيرة نصف ساعة لا غير، والهدة قرية من أشهر قرى الحجاز تعلو 1760 متراً عن سطح البحر، وفيها جنان ومنازه وبعض مصايف لأهل مكَّة، ولها منظر على وادي نعمان لا مثيل له في بلاد العرب لأنَّ الناظر يشرف منها على شفير الوادي المسمَّى (الكرا الكبير) ذي العقبة الشهيرة التي تأخذ ثلاث ساعات على الصاعد وهي من الوقوف في مثل الحائط، وإذا أشرف الرائي على حافة هذا الشفير لم يكن أمامه العمق الهائل فقط، بل العمق الهائل والعرض المدهش، فالنظر هناك مدٌّ ليس له حد.
وتكتب (الهدة) بتشديد الدَّال لكن غلب عليها التخفيف، وقد ذكرها ياقوت في المعجم وقال إنها مكان بين مكَّة والطائف فيه القرود.

12 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
مكة: أجرد بلدة عرفها الإنسان    كن أول من يقيّم

 قال:
جعل الله مكَّة مكاناً لعبادته تعالى لا غير، وكأنه سبحانه وتعالى لما قضى بأن تكون محلاً للعبادة ومثابة للناس وأمناً، قضى أيضاً بتجريدها من كلِّ زخارف الطبيعة، ولم يشأ أن يطرِّزها بشيء من وشي النبات، ولا أن يخصَّها بشيء من مسارح النظر المؤنقة، حتى لا يلهو فيها العابد عن ذكر الله بخضرة ولا غدير، ولا بنضرة ولا نمير، ولا بهديل على الأغصان ولا هدير، وحتى يكون قصده إلى مكَّة خالصاً لوجه ربه الكريم، لا يشوبه تطلُّع إلى جنان أو رياض، ولا حنين إلى حياض أو غياض. وحتى يبتلي الله عباده المخلصين الذين لا وجهة لهم سوى التسبيح له والتأمل في عظمته تعالى، فكانت مكَّة أجرد بلدة عرفها
الإنسان، وأقحل بقعة وقعت عليها العينان.
 
مكَّة هذه البلدة المقدَّسة التي هي فردوس العبادة في الأرض وجنَّة الدنيا المعنوية، عبارة عن وادٍ ضيق ذي شعاب متعرِّجة، تحيط بذلك الوادي جبال جرداء صخرية صمَّاء، لا عشب ولا ماء، قاتمة اللون كأنَّها بقايا البراكين، إذا مرَّ عليها الإنسان يوماً من أيام الصيف في هاجرة ظنَّ نفسه يدوس بلاط فرن أو يضطجع في حمَّام. وإن ترك على تلك الصخور لحماً كاد يُشتوى بلا نار، أو ماء كاد يغلي بلا وقود. وليس في تلك الشعاب أشجار ولا أنهار، ولا مروج ولا عيون تلطِّف من حرارة تلك الحجارة السود في حمارة القيظ. وكأن القاصد إلى هذا الوادي إنَّما يزداد بهذه القسوة الجغرافية أجراً وثواباً وارتفاع درجات. فبقدر ما أفاض الله على هذا المكان من الشعاع المعنوي قضى بحرمانه من الحلية الماديَّة.

12 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
لا تشتهي شيئاً إلا وتجده في مكة    كن أول من يقيّم

وقد وصف الله تعالى هذه الحالة فقال عن لسان إبراهيم صلَّى الله عليه وسلَّم: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة).
وظاهر من هنا أنَه واد مجرَّد للعبادة دون غيرها، وأنه غير ذي زرع ولا ضرع ليزداد أجر الناس بالقصد إليه والعكوف فيه. ولمَّا كان شدُّ الرِّحال إلى وادٍ كهذا خالٍ من جميع أسباب الحياة تقريباً ليس ممَّا يرغب فيه الناس الذين من عادتهم أن يقصدوا الأماكن الرغيدة والمتنزَّهات، وأن يعوِّلوا على البقاع المريعة التي يأتيها رزقها رخاء ورغداً دعا إبراهيم ربَّه فقال: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
فبدعوة إبراهيم هذه هوت إلى هذا المكان وإلى المتمكنين فيه أفئدة ورفرفت عليهم جوانح من جميع فجاج الأرض، وترى الناس منذ ألوف من السنين يحجُّون هذا البيت المحرم، ويحرمون قبل الوصول إليه  بمراحل، ويوفضون إليه كأنَّما يوفضون إلى أنزه بقاع البسيطة وأطيبها وأكثرها خيراً وميرا،
وتجد قلوبهم في الرحلة إليه ملأى بالفرح، لا يكادون يصدِّقون أنَّهم مشاهدوه من شدَّة الوجد، وغلبة الهيام، حتى إذا شاهدوه فاضت العبرات وخفقت الجوانح وتمايلت الأعطاف، وانتقل الناس إلى عالم تكاد تقول إنه غير هذا العالم قال ابن دريد:
يـحـملن كلَّ شاحب iiمحقوقف من  طول تدآب الغدو iiوالسرى
يـنوي  التي فضلها ربّ iiالسما لـمـا دحـا تربتها على iiالبنى
حـتـى  إذا قـابلها استعبر iiلا يملك دمع العين من حيث جرى
وهم إذا وصلوا إلى مكة وجدوا عندها من الثمرات والخيرات ما لا يجدونه في البقاع التي تشقّها الأنهار، وتظلّلها الأشجار. وذلك أن المجلوب إلى مكَّة من أصناف الحبوب والخضراوات والفواكه والمحمول إليها من البضائع والمتاجر واللباس والفراش والرياش والطيب وغير ذلك يفوق ما يجلب إلى عشر مدن من أمثالها في عدد السكان وربَّما أكثر.
ولا يكاد الحاج يشتهي شيئاً إلا ويجده في هذه البلدة القاحلة، فحول مكَّة من المزارع والمباقل والمباطخ والمقاثي، وفي جبال الطائف من الجنان والبساتين والكروم ما لا يأخذه العد، وما لا يدرك منه شيء في فصل من الفصول إلا انحدر به أهله إلى مكَّة، فالثمرات التي دعا إبراهيم ربه من أجلها تفيض على البلد الأمين كالسيل المتدفق، أو العارض المغدق

12 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
قطف العسلوج    كن أول من يقيّم

(قطف العسلوج، في وصف الماء المثلوج، بجوار البيت المحجوج) رسالة من رسائل شكيب أرسلان، بعث بها إلى صديقه محمد رشيد رضا، ولكنه لم ينشرها ضمن هذا الكتاب، واكتفى بذكر نبذة منها. قال:
ولمَّا تولَّى الحجاز الملك عبد العزيز بن سعود زاد سبل الماء في مكَّة ومِنى فأزاح جانباً كبيراً من العلّة، وفي أيامه تأسَّس في مكَّة معملان للجمد (الثلج) ... وكنت هممت بنشر رسالة اسمها (قطف العسلوج، في وصف الماء المثلوج، بجوار البيت المحجوج) أصف فيها محاسن هذا الماء في مكَّة أيام القيظ وأجعلها تقدمة للأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا.

12 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
فتى قريش: عبد الله بن كريز (ر)    كن أول من يقيّم

قال أمير البيان:
وقد ذكروا في أخبار عبد الله بن كريز العبشمي الذي كان من شجعان الصحابة وأسود فتوحات الإسلام وهو الذي فتح فارس وخراسان وسجستان وكابُل (أنه اتخذ النباج وغرس فيها فهي تدعى نباج ابن عامر واتخذ القريتين أو غرس بها نخلاً وأنبط عيوناً تعرف بعيون ابن عامر بينها وبين النباج ليلة على طريق المدينة وحفر الحفير، ثم حفر السمينة، واتخذ بقرب قباء قصراً وجعل فيه زنجاً ليعملوا فيه، فماتوا فتركه، واتخذ بعرفات حياضاً ونخلاً وولى البصرة لعثمان بن عفان فاحتفر بها نهرين وحفر الابلة. وكان يقول: لو تركت لخرجت المرأة في حداجتها على دابتها ترد كل يوم ماء وسوقاً حتى توافي مكَّة. وكان علي بن أبي طالب يقول عنه: إنه فتى قريش. مات سنة 59).
 فالإسلام ولاسيَّما العرب في أشد حاجة اليوم إلى رجال كعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي الفاتح الماتح المعمر المثمر الذي كان مغرماً بالعمارة حيث حل وأينما ارتحل.
__________________
انظر كلام أمير البيان المطول في التعريف بآثار ابن كريز، الواردة في هذه الترجمة

12 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
أسباب الثورة النجدية     كن أول من يقيّم

قال:
ولقد حرم الحجاز منذ سنتين أو ثلاث حاج الأناضول لأن مصطفى كمال يأبى أن ينفق التركي شيئاً من ماله في بلاد عربية، فهو قد أراد هذا لأجل التوفير على الأتراك بزعمه.
ويا ليته احتاط للتوفير على أمته في الطرق التي ذهبت فيها الملايين من أموالهم إلى جيوب الإفرنج كالخمر والميسر والألبسة الإفرنجية وما أشبه ذلك ممَّا كان السبب في هوي تركيا الاقتصادي إلى ما هوت إليه، وممَّا لم يعد سرّاً مخفياً. فمسألة نفقات الحج كانت نقطة من غدير بالنسبة إلى هذه.
وكذلك كان من أسباب الثورة النجدية التي استأصل الملك ابن سعود جرثومها أن موقدي تلك الثورة زعموا أن الحجَّاج الذين يأتون من طريق البحر مشركون - هكذا سمعنا عنهم والعهدة على الرواة - وطلبوا من ابن سعود أن يسد طريق الحج عليهم، فجادلهم كثيراً في هذه المسألة فأصرُّوا على غيّهم.
فقال لهم أخيراً: وكيف يعيش أهل الحجاز إذا سددنا هذه الطريق عليهم؟
فقالوا له: يرزقنا الله وإياهم -
وقد غاب عنهم أن الرزق له أسباب وأن الله جعل لكلِّ شيء سبباً، وأن أعظم أسباب ارتزاق الحرمين هو الحج، وأن الله تعالى أنزل في هذه الحقيقة قرآنا غير ذي عوج.

 

12 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
رياح الإلحاد    كن أول من يقيّم

قال:
ولا ينبغي أن يُظنَّ أنَّ تقدم المسلمين في المعارف ورقيِّهم في سلم المدنية في المستقبل قد ينتهيان بتناقص عدد حجَّاج البيت الحرام، فقد ترقت الأمم الأوربية كثيراً في المدنية، وغلبت على قسم كبير منها الفلسفة واللادينية. ولا يزال زوار القدس من المسيحيين كل سنة عدداً كبيراً، ولا يزال قُصَّاد روما كلّ سنة من الكاثوليك عدداً أكبر. وما يقدر العلم أن يصنع شيئاً مع الدين ما دام سرّ الكون النهائي لا يبرح مغلقاً، ومادام الإنسان عاجزاً عن مكافحة الموت، لا بدَّ للخلق من الدين، وما مأثورات الإلحاد إلا غمرات ثم ينجلين.
فالنزعات اللادينية والنزغات الإلحادية التي تعرض على المجتمع الإنساني في الأحايين إن هي إلا عوارض مؤقَّتة لا يمكن أن تكسبَ شكلاً عامّاً ولا أن تقومَ مقامَ العقائد الدينية الضروريَّة للبشر، وقد سبقت لها أماثيل متعدِّدة في تاريخ أكثر الأمم، وعصفت ريح الإلحاد في بعض الحقب، ثم لم تلبث أن هدأت واستقرَّت وعاد الأمر كما بدا.
وفي الثورة الفرنسية الكبرى أقفلوا الكنائس، وقتلوا القسّيسين، وشرَّدوا جميع خدمة الدين، واغتصبوا الأوقاف وأزالوا عنها صفة الوقف، وجعلوا العبادة للعقل، وظنَّ الناس أن الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا دخلت في ذمّة التاريخ وصارت أثراً بعد عين. ولكن لم تمضِ بضع سنوات على هذا العمل حتى ركدت تلك الزوبعة، وعادت العقيدة الدينية إلى نصابها، ورأى نابليون أن عقلية الفرنسيس قد تراجعت إلى أصلها، ففتح الكنائس وأعاد على العبادة كرامتها، ورفع منار الدين الكاثوليكي وتتوج إمبراطوراً في كنيسة نوتردام في باريس ودعا البابا إلى حضور حفلة التتويج، فجاء البابا بنفسه، وكان يطوف بعربته في
شوارع باريس والناس تخرُّ أمامه جثياً. وهم هم الساجدون له الآن، كانوا قبل ذلك بسنوات معدودات القوم الذين اتخذوا هواهم إلههم، وأقفلوا الكنائس، وأتوا بفتاة حسناء رعبوبة فجلوها على منصَّة رفيعة وخرُّوا لها ساجدين.

12 - نوفمبر - 2008
الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)
 303  304  305  306  307