آخ من جدودي ..... الظلة العليا للإنسانية     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
رأي الوراق :     
سأقتبس الآن مقطعاً من الكتاب الذي تحدثت عنه سابقاً : " آخ من جدودي " بعد أن قدمت له بالمقالة السابقة ، والكلام لمؤلفة الكتاب :
حدث ذلك في ربيع العام 1957 حيث كنت قد قمت برحلة استطلاعية إلى منطقة الغابات الاستوائية في محيط الأمازون ، ضمن بعثة علمية انتروبولوجية قادتني للانضمام يوماً ، وبدون أدنى تقدير مني لحجم الخطر ، إلى مجموعة من صيادي النمور ، والباحثين عن الذهب . الطيارة الشراعية الصغيرة التي كانت تقلنا ، كان يقودها " كاوبوي " مغامر ، وكان عليه أن يحط بنا في منطقة مستنقعات تدعى Rio Carrao . وبما أنه لم يكن من السهل الاستدلال على المكان ، إلا أننا تمكنا من أن نلمح بقايا طائرات كانت قد ضاعت في تلك النواحي البعيدة ، أعانتنا على إصلاح حال طائرتنا التعيسة . ثم ، ومن بعد محاولات يائسة للتعرف إلى المكان الذي كنا نقصده ، استطعنا الهبوط في فسحة بين الشجر في منطقة يقال لها : saut de l'etang وخيمنا بقرب شلالات هائلة الارتفاع تدعى شلالات : salto del angel . هناك وعلى ارتفاع ما يقارب الألف متر عن سطح الأرض ، نصبت لنفسي سريراً بين شجرتين .
عندما استيقظت في اليوم التالي ، كان صباحي مدهشاً ! المشهد الذي تجلى أمامي كان أعجوبة في الخلق . كل ما خطر على بالي بساعتها كان أسطورة من سري - لانكا تتحدث عن ثلاثة أمراء هم الأخوة : Serendipity يمتلكون موهبة القيام باكتشافات مذهلة بطريقة غير متوقعة ، بل أنها الصدفة وحدها هي التي تقودهم إلى تلك الإكتشافات .
بفضل حسن الحظ ، وبالصدفة تماماً ، وقعت على هذه السعادة التي لم أكن أبحث عنها ، لأنني تماماً ، كما الأخوة serendipity ، شعرت فجأة بأنني حصلت على كل ما أرغبه وكل ما أنا بحاجة إليه دفعة واحدة .
إنما الدهشة الكبرى كانت تحت ، وعلى الأرض : الهنود يخرجون من الغابة ، يعبثون بحاجياتي ، يقلدونني وأنا أقوم بغسل وجهي وتنظيف أسناني ، يجربون الدواء المضاد للبرغش ، يجربون المشط ، العطر ، الصابون ، الثياب المختلفة ودون أن يعرفوا لها لزوماً . فيما بعد ، وبعد أن نزلت إليهم وتعرفت بهم ، ومن ثم دعونا إلى قريتهم : كان لقاءاً لن أنساه ما حييت !
كل ما رأيته فوق ، في الأعلى ، كان منظراً رائعاً ومبهراً في روعته ، إنما الحياة تحت ، تحت أوراق الشجر ، الشجر العملاق المؤلف في تلك المنطقة من العالم ، هناك حياة لا زالت غامضة وغير معروفة ، حياة كاملة تتشابك فيها ، بين السماء والأرض ، روابط وعلائق غير معلومة وتبعث على الدهشة .
هذه المغامرة فتحت عيني على هوية الإنسان : هذه الهوية التي تنمو بداخله وتتشكل عبر التاريخ ، تاريخه وتاريخ من سبقوه وبحيث يكون الفرد جزءا من كل، يتفاعل مع الظروف المحيطة وينفعل بها . هذا ما أسميه : " الظلة العليا للإنسانية " la canopee humaine .
هناك تجذر للشخصي في الزمن العام ، وهناك استغراق عميق في الجانب السري والمخفي الذي تستره " الظلة " . هذا الجانب يظهر لنا أحياناً فجأة ، في لحظة وميض مباغته ، سريعاً كالبرق ، نتخطفه على مستوى الكلام وعلى مستوى الحركات وتعبيرات الجسد . وهو يعبر عن نفسه أحياناً بطريقة أكثر مأساوية كحالات الموت والمرض والحوادث المتلاحقة . في هذه الحالة ، هو يعبر عن الاختناق !
|