سأسميك أفروديت كن أول من يقيّم
سأسميك أفروديت الحافلة تتجه من –تيزي- إلى ليون .. وأنا ممتلئة حتى الدهشة بأنفاس .. وأحداث .. وتفاصيل الرحلة التي دامت بضعة أيام في قرية –تيزي- .. نظرت إلى الرسالة الوردية التي وضعها برونو بسرية في يدي وهو يسلم علي .. بدا جميلا في بذلته السوداء ، ذلك الجمال الذي يعود بنا إلى لحظة الافتنان الأولى بحليب الأم ونهد الأم . فتحت الرسالة وكلي فضول وسؤال ... ما الذي يمكن أن يكون قد كتبه لي ? ... قرأت : <<ولأنك الجمال النازف .. سأسميك أفروديت . ولأنك الجمال الذي لا يكتمل .. الجمال حين يستحيل الالتحام بأسراره ، وتذوق ثماره يحولنا إلى أطفال يتساءلون لماذا لا نضع اليد في النار ? . وحدهم الأطفال يعرفون كيف يطرحون الأسئلة الوجودية الكبرى ببساطة شديدة>> قالت راكيل : << يبدو في حالة ارتباك شديد ماذا فعلت به ? هل نسيت أنه راهب ? >> قلت : << راهب يعني متفرغ لحب الله . الحب بين المرأة والرجل حين يكون صافيا .. نقيا .. صادقا يقربنا من كل أسرار الوجود ، يقربنا من الكون .. ومن الله الموجود فينا . >> ضحكت راكيل طويلا .. ابتعدت وهي تردد : << تقولين هذا لأنك لست مسيحية .. ولا تعرفين المعنى الحقيقي لحياة راهب . >> اقتربت منه .. كان في حالة تأمل تشبه الصلاة .. تبعتني راكيل وهي تصرخ ماذا ستفعلين ? قلت : أريده أن يكلمني .. فتحت راكيل عينيها على سعتهما .. يبدو أنك لم تفهمي جيدا .. ألم تقرئي الأوراق التعريفية التي قدمت إلينا عن هذه القرية الدينية .. ورهبانها ، إنهم ليسوا رهبانا عاديين .. إنهم رهبان على درجة عالية من التعبد والانسحاب من الحياة .. يعيشون وحدهم هنا .. يقضون وقتهم في الصلاة من أجل السلام والمحبة للعالم ، حتى الكلام .. لا يتكلون فيما بينهم إلا عند الضرورة القصوى ، وتلك هي خصوصية حياتهم واختلافهم عن الرهبان الآخرين .. لم أفهم .. لكن راكيل عادت تقول ليس بالضرورة أن تفهمي .. ومن الممكن أن تفهمي أثناء هذه الرحلة . نظرت إلى برنامج الرحلة في يدي . كان علينا أن نتوجه إلى الكنيسة للصلاة ، صلاة من نوع خاص اقترحها علينا الأب روجي مؤسس تلك القرية الدينية ... ((تيزي)) قرية رجالية لا مكان فيها للنساء باستثناء السائحات ولأننا كنا سائحات ومعنا سياح ، اقترح علينا الأب روجي أن نقوم بصلاة جماعية يلتقي فيها المسيحيون بكل مشاربهم .. الارثودوكسيون والبروتستانت والتابعون للكنيسة الرومانية ، ومن حق المسلمين والبوذيين وأصحاب المعتقدات الأخرى بمن فيهم الذين لا يؤمنون الالتحاق بالصلاة . نظر إلي محمد وقال : جئنا إلى هذه القرية الدينية نرى معالمها ونكتشف أسرارها ، لكن لهم دينهم ولنا ديننا ، لا يدخلون مساجدنا ولا ندخل أماكن عبادتهم . نزعت يده عن ذراعي بهدوء ... تركته ... ودخلت الكنيسة ... كم أحب الكنائس وبناء الكنائس الذي لا يقل جمالا عن بناء المساجد ... تلك الأيقونات ما أبهاها ... وذلك الصليب كم قلبا ارتعش أمامه بعنف وضعف ? تلك الرسوم الزجاجية على النوافذ ... الأزرق الملكي ... والأخضر الربيعي ... وذلك الأحمر الذي يتسلل أحيانا بهدوء ليعلن الثورات ووهج العشق .الرسم على زجاج الكنائس فن بحد ذاته يستحق أكثر من وقفة ومساحة تأمل . تبعتني راكيل وهي تقول بصوت منخفض .. لا داعي للانبهار في كنائسنا ، وقعت الكثير من الأحداث الدامية .. خلف رسومها ينام الكثير من السواد القادم من العصور الوسطى بالخصوص . أجبتها .. غير معنية أنا بما حصل في الكنائس في العصور الوسطى ، غير معنية أنا بالزوايا القاتمة في التواريخ ، أنا مجرد سائحة أحتفظ بالروح المندهشة والعين الفضولية تجاه ما أراه ، لأظل على صلة بينبوع الجمال في الروح والكون ، لأتمكن من احترام الآخر وتفهم اختلافه عني ، وحقه العالي في ذلك الاختلاف . أضفت .. وهل هناك حضارة لم تعش في مرحلة من تاريخها محطات مظلمة ? ألا تكون تلك المحطات المظلمة أحيانا هي الأرضية الصلبة التي تفرز الوعي بأهمية الحرية ? ردت راكيل : << هل بالضرورة أن نفكر في كل شيء . >> أما أنا .. فأفكر فيما أراه .. وما يصادفني من جمال في الحياة .. لكي يكون إحساسي أكثر وعيا بذاته .. وأكثر صفاء .. وحرية . الوصف هو قدرة على الانفصال عن الأشياء ورصدها من الخارج ، وأنا أعيش الأشياء من الداخل بالروح والوجدان ، أعيشها كأنني جزء لا يتجزأ منها ، لذلك يبدو وصفي للأشياء دائما باهتا ومرتبكا ، إنني شبيهة بالسمكة تعرف كيف تسبح بعمق في البحار ، وتلفظ أنفاسها في الدقائق الأولى من مواجهتها لما فوق سطح البحار . لذلك يصعب علي وصف جمالنا ونحن نصلي ذلك اليوم في الكنيسة الوحيدة الموجودة بتيزي ، كل بطريقته وكل حسب قناعته ، حتى الذين لا يؤمنون ظلوا يتأملون المشهد من بعيد بخشوع .. ورهبة .. ومحبة . فكرت وقد تحولت إلى جزء دقيق من مشهد الصلاة .. ستظل الأديان إحدى أقوى أسرار هذا الكون والوجود ، لها قدرة غريبة على زرع الطمأنينة في النفس البشرية حين تمتزج بالتسامح والمحبة وأناشيد السلام ، بالمقابل حين يغزوها التعصب والأنانية تفجر في الإنسان أعنف مشاعر الذنب والعدوانية القادمة من منطقة الغرائز البدائية الأولى ، فيتحول إلى حيوان بدائي يقتل ويذبح ويشرب بعد ذلك الدم الذي سفكه . أما هو فلا أعرف أين أضعه من المشهد ? كان يؤم الصلاة وقد ارتدى رداء أبيض مطرزا بلون ذهبي ، فبدا كأمير روماني قادم من عصور باذخة ، لم يكن ينقصه سوى حصان أبيض جميل لأتحول معه إلى أميرة بفستان طويل أمسك بأذياله بغنج ودلال وأضع على رأسي تاجا مرصعا بالجواهر الكريمة .. آه كم أحب تاج الأميرات .. وبذخ الأميرات في الاحتفاء بأنوثتهن . وجدتني أجلس في زاوية منفردة .. حينما انتهى الآخرون من صلاتهم ، حاولت أن أتعلم رسم إشارة الصليب .. ارتبكت ، فابتسم وهو ينظر إلي من بعيد بابتسامة حزينة ودامعة . في المطعم وأثناء تناول الغداء .. حمل صينية أكله وجلس قريبا مني .. سألني بخفر مراهق يمسك بيد فتاة لأول مرة . - ما إسمك ? - فريدة - سأسميك أفروديت لكي تظلي إلهة وأحبك كما يليك بالآلهة ، ولكي أظل في وفاق مع نفسي والله . قال سأسميك أفروديت . هو يفكر في أفروديت .. وأنا أفكر فيه كلما رآني يقول : << ربي إني رأيت في الأرض جمالا هزني ، فساعدني أن أقاوم جمال الأرض .. لألتحم بجمال السماء >> فأقول :<< ربي إني رأيت في الأرض جمالا هزني ، فساعدني أن أتوحد بجمال الأرض .. لأسمو إلى جمال السماء >>.. وهكذا ظللنا كل واحد على ضفة بعيدة .. ونشيده لا يسمعه سواه . الحافلة تنتظرنا قريبا من الدير والزمن صباح شفاف .. راكيل أكثرنا صخبا تتحدث عن حفلة السبت المقبل ، حيث سيمتزج النبيذ برقصة الصالصا .. ميكائيل يخطط لدورة حول أوروبا بدراجته النارية ..رضوان يحلم بأول فيلم يريد إخراجه ..وجيرالدين بفستانها الافريقي المنقوش بألوان صاخبة تفكر في اكتشاف أجواء السونا التي يختلط فيها الرجال بالنساء في نفس الوقت .... وأنا .. يا أنا .. بين عالمين أتأمل طيفه يختفي ..هو باتجاه الصلاة .. ونحن باتجاه الحياة . *فريدة العاطفي *ليون-فرنسا : 1 ماي 2005 |