هكذا تحلق النسور     ( من قبل 3 أعضاء ) قيّم
فاجأني اليوم شعر الدمنهوري ! سليم ، بديع اللفظ ، جميل المعنى وهذه الشساعة في الرؤية كأنه ينظر إلى الحياة من على مرتفع . فمن أين لك يا محمود هذا النضج وهذه البصيرة البعيدة المدى في سنك المبكر هذا ? سلمت الأيادي التي ربتك ورعتك والأرض المعطاءة ، مصر الولادة ، التي أنجبت أمثالك من الأفذاذ على مدى الدهر : وَصَارَ النَّاسُ أَحْزَابًا ، وَقَالُوا :- أَيُعْتَنَقُ الْجَدِيدُ أَمِ الْقَدِيمُ ? ، فَلا أَبْقَى الْجِدَالُ لَهُمْ وِدَادًا ، - وَلَمْ يَضِحِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ، وَلَوْ نَظَرُوا بِعَيْنٍ مِنْ تَرَوٍّ - لأَرْشَدَهُمْ لَهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ ، وَكُلُّ جَمَالِ هَذَا الْكَوْنِ شِعْرٌ - وَسِحْرٌ جَلَّ بَارِئُهُ الْعَلِيمُ ، إِذَا مَا بِالْكَلامِ أَبَنْتَ عَنْهُ - فَذَلِكَ مَا نُرِيدُ وَمَا نَرُومُ ، فَمَا هُوَ بِالطَّلاسِمِ وَالأَحَاجِي - يَعِيهَا الْفَيْلَسُوفُ أَوِ الْحَكِيمُ ، وَلا بِالْوَزْنِ تَبْنِيهِ اعْتِسَافًا - وَلَيْسَ وَرَاءَهُ إِلا الْوَخِيمُ ، وَلَقِّبْهُ بِنَثْرٍ أَوْ بِشِعْرٍ ؛ - فَمَا فِي وَصْفِهِ خَطْبٌ جَسِيمُ ، فَهَلا شَادَ (( قَصْرَ الشِّعْرِ )) فِينَا - مُحِبٌّ قَبْلَ أَنْ تُمْحَى الرُّسُومُ ، وَأَسْعَفَ بِنْتَ عَدْنَانٍ وَدَاوَى - أَبٌ حَانٍ وَوَالِدَةٌ رَؤُومُ ، فَلَيْسَ جَوَابُكُمْ قَوْلِي بِمُجْدٍ - إِذَا مَا قِيلَ : قَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ . نعم ، هو خلاف مفتعل وغير مجد كأكثر ما نختلف عليه ، والخلاف في صميمه أيديولوجي بين دعاة الحداثة ودعاة التقليد وأما الشعر بينهما فهو الخاسر الأكبر . اللغة الشعرية لا تعني الوزن والعروض بل تعني الحالة الشعورية التي تؤلف بين وجدان الشاعر واللغة التي يصوغ بها مشاعره وأحاسيسه . هو مكان ما يقف فيه الشاعر بين الحسي ـ اللغوي ، وخزان الشعور والانفعال وفوضى الأفكار التي تعتمل في نفسه . بل أن أكثر ما يقوله الشاعر ، يصطاده من مخيلته الصاخبة ، ومن منطقة اللاوعي الغائبة عن إحساسه الحاضر . من هنا تأتي لغة الشعر ، من شفير الهاوية ، من وادي عبقر ، من المكان الذي لا يخضع لمعيار العقل الواعي المنضبط . والإيقاع العروضي هو ترابط هندسي ، وعملية حسابية صعبة فيها توازن يشبه معادلة الكيمياء . هو جميل جداً من الناحية الموسيقية ، لكنه يتطلب الكثير من الوقت لتعلمه في عصرنا الحاضر وهو مقيد للأفكار . القدماء كانوا يستطيعونه بسهولة لأنهم كانوا يحفظون الشعر شفاهية ، ولأن موسيقاه قريبة جداً من واقع اللغة المحكية آنذاك ( وهذه مجرد فكرة أسوقها هنا لا أدري مدى صحتها ) . ولأن وظيفة الشعر الخطابية لم تعد هي الأشد إلحاحاً : نحن اليوم في حالة بحث عن الأفكار لأننا في حالة تنافس ، ولأن المخيلة العربية لم تعد تنتج من الأفكار ما يكفي لحاجات الإنسان العربي المعاصر ولا بد ، والحالة كذلك ، من بعض التساهل في مسألة الشكل أو النظام الهندسي الثابت والرزين الذي يتوجب على المعاني بأن تنضوي تحته لو أردنا تحرير هذا المنتج الذهني ، الذي هو الشعر ، من سلطة الوزن والقافية مما يتيح لعدد أكبر من الشعراء والأفكار الجديدة من الحضور إلى ساحة الشعر . سيكون ذلك على حساب قيمته الجمالية بدون شك ، لكن الإصرار عليه أصبح جدلاً عقيماً والحاجة تقتضي هذه المساومة . لا خوف على الشعر نفسه لأن الزمن سوف يحتفظ بالجيد منه وينسى الباقي ، وربما تنتج هذه الحالة أشكالاً أو أوزاناً أخرى أكثر تكيفاً مع الواقع . فاللغة ، وخصوصاً لغة الشعر ، هي الأداة التي تمكننا من إعادة صياغة المفاهيم بشكل مستمر ، وهي عملية تشبه عملية ترتيب البيت لا تتوقف أبداً . فالفكر من خلال علاقته بالحسي والواقعي ، هو بحاجة دائمة للتكيف لأن وعيه بالوجود والموجودات متغير بحسب ما يتوارد إليه في كل يوم من المعلومات ، وبحسب ما تحتفظ به مخيلته من انفعالات . واللغة هي وسيلتنا لصياغة وفهم هذه الأفكار وهذه الانفعالات وإعادة إخراجها من ذواتنا ، لنتمكن من الإبتعاد عنها مسافة ، وليتمكن الوعي من رصدها ومتابعتها . من هنا تأتي أهمية الشعر في حياتنا الراهنة ، من كونه مرصداً للذات يراقبها ويسبر غورها ونحن بحاجة له لفهم ذواتنا والتكيف مع محيطنا . الشعر ليس صورة فنية فحسب ، بل هو ضرورة لإحداث هذا الإتصال مع الواقع المغيب في كنه الذات غير الواعية ، هو وسيلتنا للربط بين الداخلي والخارجي ، والشاعر الحقيقي عليه أن يتمرد دائماً على الواقعي والمقبول اجتماعياً والمنتظم في حجرات العقل النفعي والصارم ، لكي يتمكن من تخطي هذه الحدود إلى الحجرات الأخرى المغلقة التي تحتوي على كل ما هو منبوذ ومزدرى ، كل ما لا نريد بأن نراه ونعترف به ، كل ما لا يلزمنا في حياتنا اليومية . لا ليس الشعر هلوسة ولا تحليل نفسي ، بل هو الذات من وجهها الآخر الذي لا نراه عادة في كل حين ، هو حالة الصدق القصوى في رؤية الداخل المعاش . لكن الشعر لا يصبح شعراً إلا إذا اكتسى حلة اللغة وقوالبها الأدبية ، وهو سيستخدم أجملها ، لأن الشاعر فنان ونرجسي ومتسلط ويسعى دائماً لأن يكون الأجمل ، ولن يكشف عن مكنوناته بهذه البساطة ، بل سيعمد إلى التجريد والترميز عبر صور وطاقات تعبيرية ، وعبر موسيقى وطاقات لفظية . فالشعر ليس كتابة مباشرة ، بل هو كتابة تصويرية ، كالرسم والنحت والموسيقى وسائر الفنون ، هو إعادة خلق وإحياء لما يعتلج في الذات من طاقات لم تبدد ، وتجد متنفساً لها في الصورة الفنية المرمزة . هو سلطة لا تكتمل إلا باكتمال رونقها الفني وسحر المعاني والألفاظ التي تنطق بها . فالكلام سلطة ، والشعر هو سلطان الكلام . |