أبعد نقطة في ذاكرة الطفولة     ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
كان ذلك اليوم هو الرابع عشر من تموز يوم ولدت أختي التي تصغرني بسنتين تماماً .
عندما فتح الباب الذي بقي موصداً بوجهي لساعات ، كان أول ما رأيته هو إناء النحاس الكبير يحتل أرض الغرفة فيه ماء الحمام وبجانبه خرق مبللة ومناشف لا زالت مرمية على البلاط ......
باب الشرفة كان مغلقاً مع أن الحر كان شديداً . كان ذلك في الغرفة الغربية من البيت المطلة على البحر وبساتين الليمون التي تقع بمحاذاته وتفصلنا عنه ، الغرفة التي تحتوي على طقم الكنبات والراديو الكبير ذو العين التي تخضر كلما أدارته لنا عمتي يوم الجمعة من بعد الظهر لنستمع إلى برنامج : " صديقي الصغير " . كان لهذا البرنامج احتفالية خاصة نقوم بها في كل مرة حيث كانت عمتي تقوم قبلها بشطف البيت وكان علينا أن نبقى خلالها فوق الكنبة فلا نتزحزح عنها أثناء دلقها الماء ومن ثم كشطها وتنشيفها ، ثم نأتي لنجلس حولها فتدير زر المذياع في الوقت المحدد ويبدأ بالغناء :
جينا يا رفقاتنا
لنحكي حكاياتنا
فيه برنامج حلو كتير
اسمه صديقي الصغير
كله غناني وحزازير
عم يجمع بيناتنا
هذه الغرفة من الشقة التي تشغلها جدتي وعمتي عادة وحيث تدور مجريات حياتنا أثناء النهار هي صالون البيت ، إلا أنني وجدت أمي ممددة هناك في ذلك اليوم على فراش موضوعة بين الكنبات . كانت مستلقية على ظهرها وتبدو على وجهها إمارات الانزعاج .......
المرأة المسنة والسمينة التي رأيتها داخل الغرفة كانت منشغلة بوضع إزارها مما يعني بأنها تتهيأ للرحيل وهي تتحدث في مع جدتي وعمتي سكينة المصغية بانتباه كعادتها بينما جدتي في جدال مع تلك المرأة التي كانت معالمها تختفي عن ناظري تحت الأوشحة السوداء .
.
عندما دلفت إلى الغرفة ، لم ينتبه إلي أحد ، ولا حتى أمي ، الراقدة في فراشها وبجانبها تلك الصرة العجيبة التي أراها لأول مرة فتستدعي مني كل الجفاء والحذر ........ ما هذا الشيء الموضوع داخل تلك اللفائف المطرزة والمركون في الفراش إلى يسار أمي ? ما هذه الصرة التي لها وجه وردي وعينان منفوختان ويخرج منها نفس ضئيل وهي مغمضة المعالم ، غائبة عنا ، كأنها جراء القطط المولودة حديثاً ? هو شيء مريب وعجيب ما وضعوه بجانب أمي لكنها والحمدلله لا تهتم به إطلاقاً ولا تلتفت صوبه بالمرة .... فقط ، يبدو عليها الانزعاج .....
أتيت لقربها ، واندسست بينها وبين الصرة الموضوعة إلى جانبها واستلقيت على ظهري مثلها تماماً لكنها لم تنظر إلي ، ولم تنهرني ، بل بقيت مشيحة بوجهها ورأسها إلى الأعلى ، تغمض عينيها وتفتحها من وقت لأخر ، كنت أرى وجهها يتقلص أحياناً فأعبس معها ثم يعود ويتمدد فأشعر بانبساط عجيب .... لكن في الجهة الأخرى ما يؤرقني : رحت أنظر إلى ذلك الشيء القريب مني في تلك اللحظة ، وهوعلى الجهة الأخرى مني ، ولم أستسغه ..... هو لا يشبه أي شيء أعرفه ولا يروق لي بتاتاً رغم سكونه ودعته . الحمد لله ، هو بعيد عنها تماماً وأنا الآن الأقرب إلى أمي . أقترب منها أكثر وأنظر إلى وجهها المتجمد للحظات والمتألم لحظات أخرى ... ..أبتسم لها ! لا تراني ..... أنسل من تحت الغطاء وأزحف تحته لأخرج من تحت قدميها ........ من الظلمة إلى النور أخرج ، رأسي الصغيرة تطل من تحت اللحاف وتضحك . لا أحد يراني فأعيد من جديد .......... لكن ، لا شيء : جدتي والمرأة المسنة في نقاش ، وعمتي سكينة مصغية إلى الحديث ، وعمتي حليمة التي كانت قد تربعت على الكنبة المقابلة كانت تنظرإلى جهة أمي تارة ، وإلى جهة جدتي تارة أخرى .
حدث ذلك في الرابع عشر من تموز عندما كان لي من العمر سنتان بتمامها .
|