معطف كن أول من يقيّم
هي جارتي التي اقتربت من الثمانين ، غير أنها لا زالت في ريعان الصبا هذا لواعتبرنا ، بحسب نظرية إينشتاين ، بأن كل شيء نسبي . صديقاتها وجاراتها الأخريات ( عداي طبعاً ) تجازوت معظمهن التسعين وسارت بخطى وائقة نحو المئة ، ولأن متوسط عمر الإنسان في هذا الحي الذي نعيش فيه أظنه سيمتد قريبا إلى المئة وخمسين لو طبقنا نظرية داروين في النشوء والارتقاء ، لهذا ، فإن مدام " كوبنهاجن " لا تزال تشعر بأنها غرة فتية وفي ريعان شبابها .
مدام " كوبنهاجن " لا ترى جيداً ، وهو العيب الوحيد الذي تجده في نفسها فهي مثلاً كانت قد تطلقت بعد سنتين فقط من زواجها لأنها اكتشفت بأن زوجها ، الذي صنفته بأنه متواضع الشكل والهيئة ، كان رجلاً شديد البلاهة . " كان يثير أعصابي بغبائه " قالت لي ، " تركته ! ، ما حاجتي به ? كل ما كان يحسنه هو أن يثير أعصابي ببلادته ........ " . وبما أنها لا ترى جيداً ، وبما أنها لم تعد تتمكن من رسم الكحل على عينيها كل صباح ، فلقد عملت " تاتو " على جفنيها كنوع من الكحل الدائم .......... " عليك أن تعملي مثلي " ، قالت لي . " ولكنني لا أتكحل " قلت لها ، " أعرف ، لاحظت ذلك ولكن من المؤسف أن لا تفعلي ، قدرت بأنه تكاسل منك فنصحتك بالتاتو .... " .
كنا في الشتاء الماضي عندما جاءت لعندي وهي ترتدي معطفاً رائعاً من الجلد الأبيض ، على قبته فروة ثعلب لم أر أجمل منها في حياتي . هو ثعلب كامل لا ينقص منه سوى الرأس ، ومن يراه يظن بأنه يستلقي على قبة المعطف مرسلاً قائمتيه الأماميتين نحو الأسفل ، ومحيطاً بياقة المعطف بفروته البيضاء المشوبة بوهج فضي خفيف ، بينما يتدلى ذيله الكثيف ذو الوبر الطويل في الجانب الآخر من الياقة بملمسه الحرير ولونه البراق ودفء فروته الكثة الطرية ، تتخيله نائماً لا زال على كتفيها .....
تملكتني الدهشة منها وقلت هاتفة :
ـــ مدام كوبنهاجن ، من أين لك هذا ?
من يعرف مدام كوبنهاجن يفهم سبب دهشتي واستغرابي لأنها وإن كانت ترتدي ثياباً كانت في الماضي البعيد ذات قيمة وهيئة ، ثياباً اشترتها منذ ثلاثين أو أربعين عاماً أو يزيد ، إلا أنها ترتديها كيفما اتفق ، بحجة أنها لا ترى جيداً . قميص إيف سان لوران الحرير ، مهرته بصلصة البندورة ، ومعطف دانيال هشتر خاطته عند الكتف بلون مختلف تراه من على بعد ثلاثين متراً ، وأما كريستيان ديور فإن زره الذي انقطع كانت قد علقت مكانه زراً آخراً من عند شانيل وهي تقول في هذا : " ليس بي حاجة إلى هذه الأشياء ، أنت تعرفين بأنني منذ خف نظري لم أعد أسوق سيارتي وأنا أستقل الباص غالباً ، ليس بي حاجة للأناقة بين ركاب الباص " . كنت كلما رأيتها على هذي الحال خطر لي بأن أصحاب هذه الماركات كانوا سيدفعون لها ثروة كبيرة لو علموا بها ليشتروا منها هذه الأثريات التي ترتديها ، وليس بهدف وضعها في متحف ، وإنما لمنعها من الإستهانة بهم على هذه الصورة .
لذلك ، لما رأيت معطفها الجميل الأنيق ، والجديد على وجه الخصوص ، هتفت : " من أين لك هذا ? ".
ضحكت ضحكة خبيثة وهي تمسح بيدها برقة على ذنب الثعلب وقالت : " أعجبك ، أليس كذلك ... هذا ثعلب سيبيريا وهو أغلى أنواع الثعالب وأجملها . إنه يساوي ثروة " .
ــ " من أين لك هذا ? " ألححت عليها بالسؤال فغمزتني حتى خلا لنا الجو ثم قالت :
ــ " الآن سأحكي لك حكاية المعطف " ، ثم بدأت بالكلام فتخيل لي بأنها جاءت من أجله ، لأنها كانت ترويه وعلى شفتيها ابتسامة السعادة ، ابتسامة المنتصر الذي قام بفتح عظيم :
" تعرفين مارتين ابنة أخي ? نعم مارتين المجنونة ما غيرها .... وهي تزداد جنوناً يوماً بعد يوم . ذهبت لزيارتها أول أمس فهي تقول للجميع بأنني لا أزورها ولا أسأل عنها منذ وفاة أخي . هذا صحيح ! ما حاجتي إليها ? من كان يجمعنا قد ولى، ولم يعد بيننا أي شيء مشترك . المهم أنني أول أمس ، لا أدري ما الذي أصابني ، شيء يشبه نزعة لفعل الخير فجائية فقررت أن أذهب لعند مارتين وأتفقدها لعلها تقدر لي هذا المجهود وتكف عن ملامتي .
عندما فتحت لي الباب ، كانت تبكي ........ كانت عائدة للتو من لقاء لها مع صديقها الأخير أخبرها بأنه يراها فيه للمرة الأخيرة وبأن كل شيء بينهما قد انتهى ! كانت في حالة يرثى لها من الدموع ( هذه المراهقة التي هي مارتين هي في الخمسين من العمرأو أكثر بقليل ) وبها ما يشبه الانهيار العصبي ........ أغراضها كلها كانت مبعثرة وملقاة هنا وهناك ، على الكنبة أو على الأرض ...... ثم ماذا أرى ??? ألمح هذا المعطف الجميل مرمي على طرف الكنبة نصفه على المسند ونصفه الآخر على السجادة ، فأتناوله وأتفحصه وأسألها :
ــ " هيه مارتين ، أجديد هذا المعطف ? أنا لم أره من قبل . لا بد أنك دفعت ثمنه ثروة ، تبعزقين أموال أخي يميناً وشمالاً هذا كل ما تحسنين صنعه ! " .
ــ " أأعجبك المعطف ? خذيه فأنا لا أريده ! هذا كل ما يهمك أليس كذلك ? خذيه وانصرفي عني كان من الأفضل أن لا تأتي أبداً ! " قالت .
أخذت المعطف ثم انصرفت ، لكنها عند المساء عادت واتصلت بي متأخرة وطالبتني به مدعية بأنها تسرعت بالكلام وأنها لا تريد بأن تعطيني إياه ، فجاوبتها :
ــ " المثل عندنا يقول ، إذا أعطيت شيئاً فإنك قد وهبته ، حاول أن تسترده ، كأنك تسرقه ......."
ــ " وهل تنوين إعادته لها ? " سألتها بسذاجة .
ــ " قطعاً لا عزيزتي ، أمس بعد الظهر جاءت لعندي وظلت تطرق ساعة على الباب ولم أفتح لها ....... " أجابت .
وكانت المرة الأولى والأخيرة التي رأيتها فيها مرتدية ذلك المعطف الجميل ، ولما سألتها عنه من جديد قالت : " لقد بعته عزيزتي ! ما حاجتي أنا بأشياء كهذه ? أنت تعرفين بأنني غالباً ما استقل الباص في تنقلاتي فما حاجتي لثياب باهظة وملفتة للنظر من هذا النوع ? " .
|