البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات سعيد أوبيد الهرغي

 23  24  25  26  27 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
المسألة في البسملة...    كن أول من يقيّم

بسم الله الرحمن الرحيم
رب زدني علما واجعل البسملة لي براءة من عذاب الجحيم.
  نقل عن فتاوى النوازل للإمام أبي الليث[1] رحمه الله تعالى: سئل محمد بن مقاتل الرازي[2] عن رجل ابتدأ سورة براءة ولا سمى، هل هو خطأ فقال هو خطأ، إلا أن يدمجها الأنفال، وقال أبو القاسم[3]: الصحيح ما قال محمد بن مقاتل، لأن رجلا لو أراد أن يبتدئ قراءة آية أو سورة من السور كان مأمورا بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويتبع ذلك بسم الله الرحمن الرحيم، فكذلك إذا ابتدأ سورة التوبة. اه.
  وقد تعلق بظاهره من توهم أن البسملة من أول براءة قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأن هذا هو المذهب، وأنا أقول وبالله أحول: إن هذا قول باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة، وتفصيله يطول ومجمله أن الأئمة الأربعة منهم من نفى كونها من القرآن كالإمام مالك رضي الله تعالى عنه وأتباعه، ومنهم من أثبتها وهو الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأشياعه، وعلماؤنا المحققون على أنها آية أُنزلت للفصل، ولا شك أن البسملة أول براءة ووسط النمل خارجة عن المبحث اتفاقا، وأما إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، فليس له نص في المسألة، هذا وقد صرح قاضي خان[4] أن البسملة عندنا ليست من الفاتحة، فإذا كانت المذهب أنها ليست منها مع كونها فاتحة الكتاب، ومثبتة في جميع المصاحف العثمانية وغيرها، وقد ثبت قراءة البسملة فيها بطرق صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل الصلاة وخارجها، وتقرر في المذهب أن قراءتها سنة بالاتفاق، بل واجبة عند بعضهم في أول ركعات الصلوات على اختلاف في تعيينها، وأن المعتمد عدم قراءتها بين الفاتحة والسورة، فهل يتصور كونها من أول براءة وترك قراءتها خطأ، هذا لا يقبله العقل السليم والذوق الفهيم، بل في المنقول ما يدل على بطلان هذا القول السقيم، وبيانه أن القراء أجمعوا على أنها تقرأ في أول كل سورة ابتدأ بها إلا براءة، وخيروا القارئ في آخر السور بين الإتيان بها وتركها إلا في أثناء براءة فإنهم اختفوا فيها، والمعتمد عدم الجواز، نعم شرذمة قليلة، منهم طائفة شاذة جوزوا قراءتها في أول براءة لكن لا لكونها منها بل للتبرك أو لغيره من العلل الآتية، قال السخاوي قال جواز التسمية في أول براءة حال الابتداء بها هو القياس، يعني لا المنقول المنصوص الذي عليه ...[5] قال لأن إسقاطها إما لأن براءة نزلت بالسيف أو لعدم قطعهم يعني الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنها سورة مستقلة، فالأول مخصوص بمن نزلت فيه، ونحن إنما نسمي للتبرك وعلى الثاني نجوزها لجوازها في الأجزاء، وقد علم الغرض من إسقاطها فلا مانع منها، وقال المهدوي[6]: وأما براءة فالقراء مجمعون على ترك الفصل بينها وبين الأنفال بالبسملة، وكذلك أجمعوا على ترك البسملة في أولها حال الابتداء بها سواء من رأى البسملة حال الابتداء بها بأوساط السور، فإنه يجوز أن يبتدئ بها من أول براءة عند من جعلها هي والأنفال سورة واحدة، ولا يبتدأ بها عند من جعل السيف علة لها، وقال ابن ...[7] ولو أن قارئا ابتدأ قراءته من أول التوبة فاستعاذ ووصل الاستعاذة بالبسملة متبركا بها ثم تلا السورة لم يكن عليه إن شاء الله تعالى، كما يجوز له إذا ابتدأ من بعض السور أن يفعل ذلك، وإنما المحذور أن يصل آخر الأنفال بأول براءة ثم يصل بينهما بالبسملة، لأن ذلك بدعة وضلالة وخرق للإجماع ومخالف للمصاحف.اه.
  وهذا كله يدل على أن قراءتها جائزة عندهم ولم يقل أحد بأن تركها خطأ، فينبغي أن يحمل قوله على إرادة المبالغة بناء على زعمه المختار عند هذا القول الشاذ، وعلى الخطأ في العبارة وقعت بطريق المشاكلة لكلام سائل المسألة، ثم استثناؤه صريح منه أنه تبع الشرذمة، وإن لم يرد من قراءة البسملة في أولها كونها منها والأسوأ الإدراج وغيره، ويدل عليه المصحح أيضا، لكن قد عرفت أنه مأمور في أول السور بها ومخير في أثنائها فلا يطابق مدعاه بأن تركها خطأ، فملخص الكلام، ومخلص المرام، أن هذا قول شاذ مبني على غير قياس صحيح موهم أن تكون البسملة من أول براءة، وهو مع ذلك بحمد الله سبحانه وتعالى الملك الجبار، ساقط عن حيز الاعتبار في عمل جميع أهل الديار، حتى في كتاب الصغار، وما ذلك إلا بوعده تعالى حيث قال: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[8] وبإخباره صلى الله عليه وسلم ( أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )[9].     
  فافتح بصرك للإنصاف، وأغمض عين الاعتساف، وانظر إلى ما قال وتأمل ما صح عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، انه قال: " لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه "[10]  وقد تبعه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في هذا المقال بقوله: " إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا في الحائط قولي "[11].
  وهذا ما ظهر لي في الجواب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
 
تمت الرسالة المذكورة بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه،
وهذا آخر ما انتهى إلينا من ذلك.
والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في 28 ذي القعدة 1276.


[1]  ـ نوازل أبي الليث السمرقندي، للإمام أبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي الحنفي (376ه) وكتابه هو النوازل في الفروع، ينظر ترجمته في كشف الظنون وهدية العارفين وغيرهما.
[2]  ـ محمد بن مقاتل الرازي الحنفي من أصحاب محمد بن الحسن الشيباني (242ه).
[3]  ـ لم أتمكن من معرفة المقصود، ولعله: أبو القاسم الصفار، إذ إن المراد بالفقيهين إذا أطلقت في المذهب الحنفي كما قال الرملي: أبو القاسم الصفار، وأبو الليث السمرقندي . كذا في البحر الرائق.
[4]  ـ فتاوى قاضي خان، مطبوعة بهامش الفتاوى الهندية، وتعرف أيضا بالفتاوى العالمكيرية، وبهامشها أيضا الفتاوى البزازية، وقد جاء في الفتاوى الهندية ما نصه: " ( ثم يأتي بالتسمية ) ويخفيها وهي من القرآن آية للفصل بين السور ". وقاضي خان هو الإمام فخر الدين حسن بن منصور بن محمود الأوزجندي الفرغاني الحنفي (592ه).
[5]  ـ  كلمة لم أتبينها في الأصل.
[6]  ـ أظنه أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، من علماء القرن الخامس الهجري، وهو صاحب كتاب " الهداية في القراءات " وغيره.
[7]  ـ كلمة لم أتبينها في الأصل.
[8]  ـ سورة الحجر، الآية [9].
[9]  ـ أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الملاحم باب ما يذكر في قرن المائة، رقم [3740]. والطبراني في الكبير رقم [1118]. وفي الأوسط رقم [6715]. والحاكم في المستدرك (4/522) رقم [8738]. والبيهقي في معرفة السنن والاثار، رقم [98]. كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومداره على ابن وهب.
[10]  ـ قول مأثور عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله،
[11]  ـ قول مأثور عن الإمام الشافعي، ينظر سير أعلام النبلاء (10 / 33 - 35) وذكره عنه جلة من العلماء، وللإمام تقي الدين السبكي رسالة وسمها بقوله " بيان معنى قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي " وهي مطبوعة. وينظر تذكرة الحفاظ (1 / 362) و ميزان الاعتدال (3 / 612).

13 - فبراير - 2007
المسألة في البسملة، للعلامة: منلا علي القاري.
الرحلة الأوربية ( 2 )السفر من تريسته :    كن أول من يقيّم

الرحلة الأوربية ( 2 )
السفر من تريسته :
  سافرنا من تريسته يوم الخميس في الربع الأخير من الساعة السابعة صباحًا ( 6 س و45د ) في قطار أوربة الأكبر ، وكان موعده قبل ساعة ، ولكنه تأخر لتأخر مجيئه من الآستانة .
  سار بنا القطار في خيف شجير ، من ذلك الجبل النضير ، فكانت شجراؤه عن يميننا في الجبل ، وعن يسارنا فوق البحر ، وما زال يتسلق بنا متلويًّا كالأرقم في الأجم ، حتى استوى على تلك السهول الفيحاء ، والسهوب الشجراء ، ذات المروج الخضراء ، والرياض الغَنَّاء ، الكثيرة النوار ، والمفتَّحة الأزهار ، حتى كأن الزمان قد استدار ، فتحوَّل الشطر الثاني من آبَ إلى مثله من نيسان ، وأوائل آيار ، وهي السهول المعروفة بسهول لومباردية ، وبعد أربع ساعات وصل إلى مدينة البندقية ( فينيسية ) ، وهو يدخل إليها على طريق يبس في رقراق من الماء ، يسير فيه خمس دقائق ، يقطع فيها زهاء أربعة أميال ( أو 5 كيلو ) ، ثم عاد بنا القهقرَى في ذلك الماء بعد وقوف دقائق في المحطة ، ثم وصلنا إلى مدينة ( ميلان ) وقت العصر ( الساعة 3 و45 دقيقة ) ، ومكث في محطتها نصف ساعة ، تزود فيها ما يحتاج إليه من الفحم والماء ، وبين البندقية ، وميلان بلاد وقرى كثيرة عامرة ، لا يقف عليها القطار العام السريع ، وإنما المواصلات بينها بالقُطُر الوطنية .    وأما هاتان المدينتان فهما من أعظم المدن ذات الصناعات الجميلة ، والآثار التاريخية التي يقصدها السياح من الأقطار ، ولو شئنا لنقلنا من كتب التاريخ شيئًا من وصفها ، كما يفعل كثير من الناس فيما يكتبون في رحلاتهم ، ولسنا من مستحسِنِي هذه الطريقة بإطلاق ، وإنما يحسن فيها تقييد بعض الشوارد المبعثرة ، والنوادّ التي لا تنال باليسير من المراجعة ، والنوادر التي تزدان بها المحاضرة ، وما يستنبطه السائح من العبرة والفائدة ، حتى فيما صوَّرته الفكاهة والتسلية .
  ومما لاحظته في نبات هذه الأرض أن أكثر شجرها صغير ، ومتوسط العمر لعل أكبره لا يتجاوز عشر سنين ؛ وذلك أنهم يتناولونه بالقطع للاستفادة من خشبه ، ولكن بالقرب من ميلان أدواحًا عظيمة باسقة ، كأنهم يستبقونها للزينة ، ورأيتهم يختلون خلاها ( أي يقطعون حشيشها ) بآلات تستأصله من وجه الأرض ويجففونه، ويجعلونه أكداسًا كأكداس حصيد القمح والشعير ، ولا يلبث أن ينمي مكانه ، ويطول ؛ لأن المكان مجاج الثرى ريَّان بالماء .
  ولم أَرَ في تلك الحقول الخضراء زرعًا غير الذرة ، وهي غضَّة حسنة النماء فيما قبل ميلان من الأرض ، وأكثرها ضئيل فيما بعدها ، وبالقرب من المدن والقرى حقول ، وبساتين مزروعة بقولاً كالفاصوليا ، والكرنب ، والطماطم ، وأما شجرها فمنه التفاح والكمثرى ، وقد أينع ثمره ، وطابت فاكهته .
  وأجمل مناظر هذه البلاد - على الإطلاق - البحيرات فقد مررنا ببعضها عن بُعد ، وببعضها من كثب ، ولم أنسَ لا أنسى أصيل ذلك اليوم ؛ إذ بلغنا بحيرة ماجور أو ( ميجارو ) ، فراعني ذلك المنظر البهيج ، الذي لم أَرَ له فيما سبق من عمري من شبيه ولا نظير ، وإنما رأيت نظيره بعد ذلك في سويسرة ، فأقول : إن مثل هذه البحيرة وبحيرة لوسرن من البحيرات التي بين الجبال هو أجمل ما خلقه الله في هذه الأرض .
  البحيرة واسعة ، بين جبال شاهقة ، مزدانة بالجنات الألفاف ، والأجم الغبياء ، من أدنَى الغور المساوي للماء ، إلى الشماريخ التي تناطح السماء ، وترى فيما يدنو منك من هذه الجنات ، المعروشات منها وغير المعروشات ، أصناف الأعناب وأنواع الثمرات ، وهي ذات تعاريج كثيرة ، وفيها جزائر صغيرة ، بُنيت فيها قصور نضيرة ، يصلون إليها بزوارق جميلة ، ومياهها زرقاء صافية ، وهي تتسع في مكان ، وتضيق في آخر ، وأخياف الجبال المحيطة بها تمتد على بعض الضفاف ، وتتقلَّص عن بعض ، ولبعضها ألسنة مستطيلة فيها ، ورؤوس مقنعة في بعض نواحيها ، والقطار يسايرها في جوانبها ، ويلتفُّ على معاطفها ، فيدنو ويبعد ، ويغير وينجد ، ويصوب ويصعد ، ونحن فيه متلعو الرؤوس شاخصو الأبصار ، نقلب الطرف ذات اليمين وذات اليسار ، فمنظر البحيرة العجيب عن أيماننا ، ومنظر الجبال الغريب عن شمائلنا ، وفي كل منهما آيات للناظرين ، ومعانٍ للمتفكرين ، تثير في الخيال هواجس الشعر ، وتنفث في الوهم رقي السحر ، وتُلقي في العقول معاني الفنون ، وتوحي إلى القلوب حقائق الإيمان بمَن يقول للشيء كن فيكون .
 

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
تابع الرحلة 2...    كن أول من يقيّم

  تذكرت برؤية تلك الجنات الغَنَّاء ، والغابات الغبياء ، والرياض الفيحاء - وَصْفي لروضة من روضات الوطن في مقصورتي ، وهو :
وروضةٍ تجلى بثوب سندس *** رصَّعها النَّوْرُ بأصناف الحُلَى [[1]]
ما صوَّح البارحُ غضَّ نجمها *** وناضرُ الأفنانِ منها ما ذَوَى [[2]]
والباسقاتُ رفعت أكفَّها ***  تَسْتَنْزل الغيث وتطلب النَّدَى [[3]]
 تمتلجُ ( الكربون ) من ضرع الهوا *** تؤثرنا بالأكسجين المنتقَى [[4]]
مدَّت على الصعيد ظلاًّ وارفًا *** فلا ذَأَى العودُ ولا الظلُّ أَزَى [[5]]
 والشمسُ تبدو من خلال دوحها *** آونةً تخفَى وتارة تُرَى [[6]]
كغادةٍ وضَّاحةٍ قد أتْلعَتْ *** من خَلَلِ السُّجوف ترنو والكُوى [[7]]
 تلقي على الروض نَثِير عسجد *** فتسحب الروض عروسًا تُجتلَى [[8]]
  وأين هذا الوصف القاصر ، من هذا المنظر الناضر ، والجمال الساحر ، وأَنَّى لي بتخيل مثله في طرابلس والقلمون ، وإن كانت كثيرة الجنات جارية العيون .
 
  كل هذا الجمال والجلال ، الذي تجلى علينا بمناظر البحيرة ، وما يحيط بها من الجبال ، وما يزين ضفافها ، وجزائرها من القصور والفنادق ، والجنات والحدائق ، والفُلْك والزوارق ، وما تولده من المعاني الشعرية ، والخواطر الاجتماعية والروحية ، لم تكن لتنسيني أن ولدي مريض ما أدري ما فعل الله به ، ولا لتصرفني عن الخوف عليه ، والدعاء له ، ولا سيما في أعقاب الصلوات ، وما وفقت له من تلاوة القرآن والوضوء والصلاة في هذه القطر من أسهل الأمور ، ومعرفة سَمْت القبلة فيها ميسور .
 
  وانتهينا عند الساعة السابعة مساءً إلى محطة وقف فيها القطار نصف ساعة لانكسار مركبة الطعام هنالك ، وقد ظننا أنها أصلحت في تلك المدة ، ولكن خاب الظن ، وبقينا بغير عشاء ، على أننا مكثنا زمنًا طويلاً في المحطة التي بعدها ، وهي آخر محطة طليانية ، وفيها مطعم عام ، إلا أننا شغلنا عن الطعام فيها بعرض جوازات السفر وتفتيش الصناديق ، وبما اتخذ من المعاملات الجمركية بشأن لفائف التبغ التي يحملها الرفاق .
 
  ثم سار القطار بنا ، ولم يلبث أن دخل في النفق الكبير الفاصل بين إيطالية وسويسرة ، ومكث في بطن الأرض 25 دقيقة ، ثم تجاوزه ، ووقف بنا بعد نصف ساعة في أول محطة سويسرية ، فمكثنا فيها مدة ؛ لأجل معاملات الأجوزة ، وقد أخذوها منها واعدين بإعادتها لنا في جنيف ، ثم سرنا فوصلنا إلى مدينة لوزان في منتصف الليل ، فلم ندرك القطار الذي يسافر ليلاً إلى جنيف لتأخرنا عن الموعد ، فبيتنا بقية ليلتنا في فندق فيكتوريا بقرب المحطة ، وقد طلبنا فيه طعامًا ، فقيل لنا إن المطعم قد أقفل ولا طعام إلا الخبز ، والجبن ، والزبد ، والمربى ، والفاكهة ، فجاءونا من ذلك بأفضل أنواعه مع الماء المثلوج والثلج لتبريد الفاكهة ، وهي موز وتفاح وكمثرى ، فكان هذا العشاء أشهى وألذّ من كل طعام أكلناه في أوربة ؛ إذ كان عقب جوع صحيح وتعب طويل .
 
  أكلنا طعامًا لطيفًا لذيذًا ، ونمنا نومًا هادئًا مريحًا ، على سُرُر مرفوعة وفُرُش وثيرة نظيفة ، ولكل حجرة من حجرات النوم حمام خاص ، تمتعنا بها في ليلنا وفي صبيحته .
 


[1] الروضة : الموضع المعجب بالزهور قاله في المصباح ، وأصله مجتمع الماء ، ثم أطلق على ما يُحْدثه الماء من النبات والزهر ، وهو الترويض والنَّوْر بالفتح : زهر النبات ، والشجر واحِده نورة ، فهو كتمر وتمرة ، وجمعه أنوار ونوار بوزن تفاح ، والحلَى بالكسر وبالضم جمع حلية بالكسر ، وهو ما يتزيَّن به النساء من الجواهر ، والترصيع تزيين الحلي ، والحلل بالجواهر التي شبه بها هنا أصناف النوار .
[2] البارح : الريح الحارة وتصويحها للنبات تجفيفه ، والنجم : النبات الذي لا ساق له ، ويقابله الشجر ، وأشير إليه بالأفنان ، وهي الأغصان وذَوَى يذوي : ذبل .
[3] الباسقات : جمع باسق وباسقة ، وهو ما ارتفع وذهب في الأفق طولاً وارتفاعًا ، وأكثر ما استعمل في وصف النخل والسحاب ، والمراد هنا كل ما ارتفع من الشجر كالحور والسرو ، وأكفها أغصانها المورقة ، وارتفاع الشجر سبب من أسباب المطر ، والندى : المطر أو ما دون الغيث من ماء السماء ، أي ما يتكاثف من بخار الماء بالتدريج فيُحدث بللاً ، ومنه الندى بمعنى : الجود والسخاء ، وفي اللفظ هنا تورية لطيفة ، على ما فيه - وفيما قبله - من استعارات طريفة .
[4] ـ تمتلج : ترتضع ، والكربون : عنصر كيماوي يكثر في الفحم ، والأكسجين : عنصر آخر يدخل في تركيب الهواء والماء ، وهو علة أو سبب من أسباب حياة الحيوان والنبات ، وباستنشاقه في الهواء يطهر الدم من المواد السامة ، والشجر ينتشق حمض الكربون السام من الهواء ، ويفرز الأكسجين النافع المطهر للدم منه ومن غيره .
[5] ـ ) الصعيد : وجه الأرض والظل الوارف المتسع الممتد ، وذأى ذأيًا وذأوًا : ذبل كزوى ، وأزى يأزي وأزا يأزو : تقبض وتقلص .
[6] ـ الدوح : جمع دوحة ، وهي الشجرة العظيمة .
[7] ـ ) الغادة : الحسناء الناعمة الليِّنة العنق والقوام ، وأتلعت : مدت عنقها متطاولة لتنظر ، والسجوف : جمع سجف بفتح السين وكسرها ، وهي الستور التي تُنصب على الأبواب والنوافذ ، مؤلفًا كل منها من سِترين ، بينهما فرجة ، وقيل السجف : الشق بين السترين المقرونين ، والكوى بالضم : جمع كوة ، وهي النافذة الصغيرة والخلل بالتحريك : ما بين الأشياء من فرجة ، ورنا إليه وله رنا ورنوا : نظر ، بل هو إطالة النظر مع سكون الطرف كنظر العاشق .
[8] ـ العسجد : الذهب ، والنثار والنثير : ما يُنثر أي يُلقَى متفرقًا ، وكانوا ينثرون الدنانير حول العروس .

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
تابع الرحلة 2....    كن أول من يقيّم

  كان الجو في ذلك اليوم الذي قطعنا به أرض إيطالية يوم صيف معتدل ، وإن كانت أرضها أرض ربيع مُدْبرٍ ومقبلٍ ، ولولا غمام رقيق كان يكفكف بعض أشعة الشمس - لعُدَّ هنالك من أيام الحر ، وقد تغير الجو علينا في سويسرة بعد نصف الليل ، فهبَّ الهواء البليل ، ولما أصبحنا رأينا السحاب يتكاثف في الأفق ، ثم طفق يجود برذاذ لطيف ، ثم تكاثف السحاب قبل الظهر ، واشتد المطر بعد العصر ، فكان كما وصفه ابن دريد بقوله :
 جَوْن أعارته الجنوبُ جانبًا *** منها وواصتْ صَوبه يَدُ الصَّبا [[1]]
نَاءَ يمانيًّا فلما انتشرت *** أحضانُه وامتدَّ كِسراه غَطا [[2]]
 وجلَّل الأفْق فكل جانب *** منها كأنْ من قُطره المُزْنُ حبا [[3]]
وطبّق الأرضَ فكل بقعة *** منها تقولُ الغيث في هاتا ثوى [[4]]
 إذا خَبَتْ بروقه عنَّت له *** ريحُ الصَّبا تَشُبُّ منه ما خبا [[5]]
 وإن وَنَت رعودُه حدا بها *** حادي الجنوب فحدتْ كما حدا [[6]]
كأن في أحضانه وبَرْكه *** بَرْكًا تداعى بين سَجْرٍ ووَحَى [[7]]
 لم تَرَ كالمُزْن سَوامًا بُهَّلاً *** تحسَبها مَرعيَّة وهي سُدى [[8]]
 يقول للأجْرَاز لما استوسقت *** بسَوْقه ثِقِي بِرِيٍّ وحيا [[9]]
 فأوسع الأحداب سَيْبًا مُحسِبًا *** وطبَّقَ البُطنان بالماء الرِّوَى [[10]]
كأنما البَيْدَاء غِبَّ صَوْبه *** بحرٌ طما تياره ثم سجا [[11]]
   هذا ، وإننا كنا نريد أن نسافر إلى جنيف قبل الظهر ، ولكن جاء منها لاستقبالنا مَن كان فيها من إخواننا السوريين - نجيب بك شقير ، وصلاح الدين أفندي قاسم ، وتوفيق أفندي اليازجي - الذي كان سبق من قبل حزبنا للاستعداد للمؤتمر ، فتأخرنا إلى المساء ، ولم نتمكَّن من التجوال في لوزان لشدة المطر ، ثم سافرنا عند انتهاء الساعة الخامسة مساءً ، والمطر يهطل ، والريح تمنعنا من فتح نوافذ القطار ، ومناظر سويسرة تأخذ بأبصارنا ذات اليمن وذات اليسار ، فوصلنا إلى جنيف في خمسين دقيقة .
 
________________________


[1] ـ قوله : جَوْن : صفة لمحذوف تقديره سحاب جون ، وهو فاعل لقوله سقى العقيق إلخ في بيت سابق ، والجون الأسود - ويطلق على الأبيض - فهو من أسماء الأضداد التي يتعين المراد منها بالقرينة ، والمراد بالجنوب : الريح التي تهب من جهة الجنوب ، فتجيء بالمطر ، والصبا : الريح الشرقية ، وهي تتحد مع الجنوبية كثيرًا ، وتُشْبهها ، كما أن الريح الغربية تتحد مع الشمالية ، وتشبهها ، ويكثر مجيء المطر بعدهما في نصف الأرض الشمالي ، كما يكثر مجيء المطر بعد الأوليين في النصف الجنوبي ، ووصاه : واصله ، والمعنى أن هذا السحاب بدأت الجنوب بإثارته بحركتها ، وبتلقيحه ببردها ، ثم واصلت الصبا بهبوبها ما بدأت به أختها .
[2] ـ ناء : نهض بثقل وجهد وبالأمر : نهض به بتعب ، ومشقة ، وأحضان الشيء : نواحيه ، وأصله ما دون الإبط إلى الكشح من الإنسان ، والكسر بكسر الكاف وفتحها : ما تكسَّر وتدلى من الخباء إلى جهة الأرض ، وهو استعارة جميلة ، وغطا يغطو : ارتفع وقيل انبسط ، والمعنى أن هذا السحاب الجون ناء بحمل الماء حال كونه يمانيًّا ؛ إذ اليمن من بلاد العرب في الجنوب ، وقد بدأ ظهوره منها ، فلما انتشرت جوانبه بمواصاة الصبا ومواصلتها لعمل الجنوب فيه ، وامتد كسراه الجنوبي والشرقي في سائر الأفق : ارتفع إذ خفَّ حمله بما أفرغ من ثقله ، أو انتشر ، وصار عامًّا ، كما صرح به في البيتين التاليين لهذا .
[3] ـ جلل الأفق : غطَّاه وعمَّه بستره إياه ، والمزن : السحاب الممطر ، وحبا : زحف ودنا يقال حبا الصبي إذا زحف ، والمعنى أنه بعد أن عَمَّ الأفق ، وجلله ، صار كل قَطْر من أقطاره كان المزن قد زحف بصَيْبه منه ؛ إذ لم يعد خاصًّا بالجنوب ، حيث نهض ، ولا بالشرق حيث امتد .
[4] ـ ) طبَّق الأرض : غطاها وجللها بمطره كما طبق هو الأفق بنفسه - وعدَّه في الأساس مجازًا - فكل بقعة منها تقول إن الغيث قد ثوى في هذه دون غيرها ، كما يؤخذ من تقديم الظرف والمعنى يقتضيه ، وهاتا : اسم إشارة للمؤنث معروف كهذه وهذي ، وتُستعمل كلها بدون هاء التنبيه أيضًا .
[5] ـ خبا البرق : سكن كالسراج إذا طفئ يقول إذا خبت بروق هذا الجون عنت ، وعرضت له ريح الصبا ، فأعادت وميضه ولمعانه ، كما تشب النار السراج بعد انطفائه .
[6] ـ ونت : ضعفت أو فترت ، وحدا الإبل وحدا بها : غنَّى لها ينشطها على السير ، وحادي الجنوب - وفي رواية راعي الجنوب - معناه الجنوب الذي هو كالحادي أو الراعي للإبل ؛ لأنه هو الذي يسوق السحاب ، يقول : وإن ضعفت أو فترت رعوده انبرى له من ريح الجنوب عاصفة ما يصيح به ، كما يصيح حادي الإبل بها إذا ونت وضعف سيرها ، فعادت تجلجل بصوتها ، كأنها تجيبه عن حدائه بمثله ، وليس المراد أن البرق ومض بتأثير ريح الصبا وحدها في السحاب والرعد يقصف بتأثير ريح الجنوب وحدها ، بل المراد أن هذا السحاب الذي تعاونت الجنوب والصبا على إثارته ، ولفحته ببردها ، فحمل القطر ، ثم ألقى حمله على الأرض تتعاون الريحان في شب بروقه ، وقصف رعوده بجمْعهما بين زوجَيْ الكهربائية الإيجابي والسلبي ، الذي يشب البرق ، فيحدث بشبوبه تفريغ الهواء الذي هو سبب الرعد ، وفي الكلام من ظريف الاستعارات ما ترى وتسمع ، وقد فسر الاستعارات من مكنية وتمثيلية بالتشبيه الصريح في البيت التالي ، وبما بعده .
[7] ـ البرك الأول : الصدر ، والثاني جماعة الإبل الباركة ، وإنما يقال برك البعير ؛ لأنه يُلقي بصدره إلى الأرض ، وتداعى : أصله تتداعى ، أي يدعو بعضها بعضًا ، والسجر والسجور حنين الناقة ، وجعله الراغب استعارة من سجر النار لالتهابها في العدو ، وفي مجاز الأساس : سجرت الناقة سجرًا، وسجرت تسجيرًا : أمدت حنينها في أثر ولدها ، وملأت به فاها ، قال : حنت إلى برق فقلت لها قري بعض الحنين فإن سجرك سائقي وإنما قيد الحنين هنا بالممتد الذي يملأ الفم ؛ لأن حقيقة السجر الملء ، يقال سجر التنور إذا ملأها لهبًا ، وسجر المطر الوادي ؛ إذ ملأه ، والبحر المسجور : الممتلئ ، وقوله : (قري) في الشاهد : أمر من الوقار والسكون ، يقول للناقة : لا تجعلي حنينك ممتدًا دائمًا ، بل اكتفي ببعضه ، والتزمي أقله ؛ فإن سجرك يشوقني إلى وطني ، ومَن أحب فيه ، فأحن إليه كما تحنين إلى فصيلك ، والوَحَى- كفَتَى - الصوت الذي ينقضي بسرعة ، والعجلة والسرعة ، ويقال : الوحى الوحى والوحاء الوحاء : في طلب النجدة والإغاثة السريعة ، والمعنى : كأنَّ ما في جوانب ذلك الجون وفي صدره وهو وسطه من قطع السحاب التي تجتمع ، وتفترق ، وتتحول من جانب من جوانب الأفق إلى آخر بين وميض البروق وقعقعة الرعود التي تمتد وتقوى أحيانًا ، وتنقضي أحيانًا بسرعة - كأن في ذلك - إبلاً باركة، يدعو بعضها بعضًا إلى التحول والانتقال ، فتنتقل بين حنين خفي قصير وحنين ممتد طويل .
[8] ـ  السوام : الإبل السائمة أي الراعية ، وأسامها رعاها فهو مسيم ، والبُهل : التي لم تُحلب ، فهي ملأى الضروع بالألبان ، وناقة باهل غير محلوبة ، ولا مصرورة أي : ولا مربوطة الضرع ، يحلبها مَن شاء ، وقيل المتروكة الرعي ، والسدى : المهملة التي لا راعي لها ، والمعني أن هذه السحب الممطرة في كل مكان - التي تشبه السوام البهل المبذول لبنها لكل إنسان - تحسبها في انتقالها وحركاتها بتأثير الرياح كالمرعية التي يسوقها الراعي إلى حيث يشاء ، وهي في نفس الأمر سدى مهملة لا راعي لها ؛ لأن الرياح ليس لها إرادة في تحريكها وسوقها .
[9] ـ  الأجْرَاز : جمع جُرُز (بضمتين) : وهو الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لجفافها ، واستوسقت: حملت من أوساق الماء ما جمعت ، والتوسق : جمع المتفرق ، ومنه الوسق بالضم : للكيل المعلوم ، والري بالكسر : الشبع من الشرب ، والحيا بالقصر : يطلق على المطر ، وعلى ما ينشأ عنه من النبات والخصب والمعنى ظاهر .
[10] ـ  ) الأحداب : جمع حدب : وهو ما ارتفع من الأرض ، والبطنان بالضم : جمع بطن ، والسيْب : العطاء ، والمُحسب : الكافي الذي يحمل المعطى على أن يقول : حسبي حسبي ، والماء الروى - بكسر الراء المشددة والقصر - : الغزير المروي كروي ورواء بالفتح ، والمعنى : أنه أروى ظاهر الأرض وباطنها ، وأحدابها وأيفاعها التي ينحدر عنها الماء ، فلا ترتوي إلا بالغزير المتصل .
[11] ـ البيداء : الصحراء ، وصوب المطر : نزوله وانحداره ، وطما : ارتفع ، وتياره : موجه ، وسجا : سكن ، والمعنى : أن البيداء كانت غب نزوله - أي بعده - كبحر ارتفع موجه واضطرب ، وسكن بعد ذلك ، ثم ذهب ؛ وبذلك كان رحمة لا نقمة .

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
الرحلة الأوربية ( 3 )الفنادق في سويسرة :    كن أول من يقيّم

الرحلة الأوربية  ( 3 )
الفنادق في سويسرة :
 
 كان الأمير ميشيل بك لطف الله أوصى توفيق أفندي اليازجي بأن يحجز لنا حجرات في فندق من أرقى فنادق ( جنيف ) وأحسنها ؛ إذ كان بلغنا أن هذه الفنادق ستكتظ على كثرتها بالمسافرين عند اجتماع عصبة الأمم ، وأن يستأجرها إذا توقف حجزها على استئجارها ، وصح ما قيل من تسابق الناس إلى مثل ذلك .
 فلما وصلنا إلى جنيف ذهب بنا إلى فندق إنكلترة ، وهو من الفنادق الوسطى ، وموقعه أمام البحيرة جميل ، فلم يعجب الأمير ميشيل بك ، وعاتب توفيقًا على إنزالنا فيه ، فاعتذر بأن الخديوِ كان ينزل فيه ، فقلنا لعله كان يراه أعون له على التنكر ، وقد نزل فيه في وقتنا الأمير عزيز حسن .
 ثم عهد الأمير ميشيل إلى جورج أفندي يوسف سالم بأن يبحث لنا عن 4 حجرات في فندق من الدرجة الأولى ، يكثر فيه كبار أعضاء جمعية الأمم ؛ ليسهل التعرف بهم ، ويكون وجودنا معهم مذكِّرًا لهم دائمًا بوجود وفد سوري يطالب باستقلال بلاده ، وبعد جهد في البحث والتجوال وجد لنا مطلوبنا في فندق ( دي برك ) ، وكان الأمير ميشيل قد أوصاه بأن يساوم صاحب الفندق في أجرة الحجرات ، وثمن الطعام وأجرة غسل الثياب ، فلم يُعنَ بالتدقيق في ذلك بل رضي بأن نعاملهم بالتعريفة التي يطلبونها ؛ لظنه أن ذلك محدود كما يقولون ، ثم تبين أن الأمير ميشيل هو المصيب ، وأنه أعلم بشئون البلاد من سالم الذي هو أكثر منه أسفارًا وتجوالاً في الممالك كما قلنا من قبل ، وأنه كان يمكن أن يقتصد بالمساومة مبلغًا من الجنيهات ، لا ينبغي التسامح في مثله !  وقبل أن أبيِّن الفائدة التي أقصد إليها من ذكر هذه المسألة أذكر دقيقة أخرى للأمير ميشيل هي دونها في باب الاقتصاد ، ولكنها تدل على حذقٍ ، وذكاءٍ ، واختبارٍ ، وهي أن أصحاب فندق فيكتوريا في مدينة لوزان لما قدموا لنا جريدة الطعام - وهي مطبوعة - ألفينا فيها الأثمان المطبوعة مرمجة ، وبجانبها أثمان مكتوبة بالحبر هي أكثر منها ، فلم ينتبه أحد منا إلى سبب ذلك غيره فقد قال : إن هذه الأثمان المطبوعة هي أثمان الطعام لأهل البلد ، وإنهم إنما زادوا فيها لأجلنا ؛ فإن لأهل سويسرة حِذقًا في اجتلاب الأموال من السياح ، لا يضارعهم فيه غيرهم ، وسبب ذلك أن ما يربحونه من الأجانب معظمه من الذين يقصدون بلادهم من جميع أقطار العالم المدني للتمتع بمناظر جبالها ، ومروجها الخضراء ، وبحيراتها الزرقاء ، واستنشاق نسيمها العليل ، وتفيُّؤ ظل حدائقها الظليل ، فما ينفقه فيها السائحون والسائحات هو عند أهلها من قبيل دخل الصادرات ، وأما الصادرات التي تخرج منها إلى غيرها - فهي قليلة ، أهمها الساعات من المصنوعات المعدِنية ، فهي أشهر بلاد أوربة إتقانًا لها ، والزبدة والجبن والفاكهة من نتائج الزراعة .    هذا ، وإن جميع الأسعار في بلاد سويسرة محدودة لجميع أنواع البضائع ، وأهلها يغلب عليهم الصدق والأمانة ، وقد قيل لنا : إن أكثر بلاد أوربة ، ولا سيما العواصم والثغور العظيمة كباريس ومارسيلية يبيعون الغرباء بأسعار أعلى من الأسعار التي يبيعون بها الوطنيين ، وأما سويسرة فقلما تجد هذه المعاملة فيها للغرباء في غير الفنادق ، ومن أسباب ذلك أن أكثر أصحابها من اليهود .
 

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
يتبع:    كن أول من يقيّم

  أما بعد : فإن غرضنا من الإلمام بهذا البحث تنبيه القراء إلى ما يجب على المسافر من بلاده إلى أوربة وغيرها من الدقة والاقتصاد في النفقة ، وحفظ ماله أن يضيع فيما لا يفيد صاحبه حمدًا في الدنيا ، ولا ثوابًا في الآخرة ، بل هو من إسراف الغباوة الذي يحتقر فاعله كل عاقلٍ وقف على حاله .

  إن مَن لا يعرف ميشيل لطف الله إذا سمع أنه يساوم في أثمان طعام الفنادق ، وينبه مَن يوليه أمر نفقته إلى أمثال هذه الدقائق - يظن أنه ممن يصح أن تُكتب أخبارهم في نوادر البخلاء ، أو أن الدافع له إلى مثل هذا التوفير الفقر والإملاق ، أما وكُلُّ مَن يعرف الرجل يعلم أنه من أكبر أهل النعمة والثراء ، ومن أشهر الأجواد والأسخياء ، وأنه مُقري الضيوف ، ووهَّاب الألوف ، فكيف يفهمون بعد هذا منه ، ما روينا من هذه الدقة في التوفير عنه ? !  لا شك أن سفهاء الوارثين المعروفين في هذه البلاد - وهم لا يعقلون معنى لكلمتي التوفير والاقتصاد ، الذي عليه مدار ثروة الأمم والأفراد - يعدون ذلك من الهنَّات المستهجَنَات ، ويكثرون التنادُر بها ، واختراع النكات لها ، وأما أهل العلم والبصيرة فهم الذين يقدرونه قدره ، ويعلمون أنه من العقل والحكمة ، والشكر الذي تدوم به النعمة ، وإنني - قبل التثريب على أولئك السفهاء المسرفين - أذكر لهم مثلاً من قصد الأجواد المتقدمين والمتأخرين .
  روي في مناقب الإمام الحسن السبط - عليه السلام - أنه جاء المدينة المنورة تاجر من العراق بأحمال من أجود الثياب ، فاشتراها منه الحسن بعد أن بالغ في المساومة معه ، ولم يترك له من الربح إلا القليل ، ثم أخذ منها ثوبًا أو ثوبين ، ووزع الباقي على الحاضرين ، فقال له التاجر : يا ابن رسول الله ، لقد بالغت في مساومتي حتى لم يكن لي من الربح على تعبي إلا القليل ، وقد كنت أحق من هؤلاء الناس بمثل ما أعطيتهم - أو ما هذا معناه - فقال له الحسن : ( المغبون لا محمود ولا مأجور ) ، أي لا هو مهدي هدية فيُحمد ، ولا متصدق فيُؤجر ، وهذا حديث مرفوع رواه الخطيب عن أبيه والطبراني عنه وأبو يعلى عن أخيه الحسين - عليهم السلام - .
  وما رأيت أحدًا من الأغنياء العقلاء أشبه بالأمير ميشيل في إنفاقه وتوفيره ، من الشيخ قاسم آل إبراهيم التاجر العربي الشهير في بومبي ( الهند ) ؛ فقد عهدناه ينفق من سَعَته في الأعمال العامة كالمدارس ، والإعانات للدولة العثمانية ، فيهب المئات والألوف من الجنيهات ، ولا يطمع أهل الكدية والاستجداء منه بدينارٍ ، ولا درهم ، وإن وقف على بابه طول النهار ، وأطراه بالبليغ من الأشعار ، على أن ميشيل لطف الله كثيرًا ما يعطي الشعراء والأدباء ، ولكن دون ما يهب للمدارس والجمعيات الخيرية والأعمال السياسية .
  فأمثال هؤلاء الأغنياء هم الذين يعرفون كيف يحفظون نعمة الله عليهم بالثروة ، ويكونون أهلاً للمزيد ، والزكاء فيها على كثرة النفقة .
 

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
تابع...    كن أول من يقيّم

  هذا ، وإن ما يمكن توفيره من نفقات السفر في أوربة من غير إزراء بصاحبه ، ولا نقص في تمتُّعه - ليس بالشيء التافه الذي لا يُعتَد به ، وناهيك باختيار المواقع ، ومساومة أصحاب المنازل والفنادق ، وقد علمنا أن أهم سبب غلاء المواد الغذائية في سويسرة وغيرها وارتفاع أجور الفنادق - هو جعْل ورقها النقدي ( بنك نوت ) بسعر الذهب لا ينقص شيئًا ، وقد كان هذا سببًا لقلة قصد السائحين إليها بعد الحرب ، كما كان يعهد قبلها ، حتى سائحي الإنكليز والأميركيين الذين هم أكثر الشعوب سياحةً وأوسعهم فيها نفقةً ، فقد تجولنا بعد فضّ مؤتمرنا في أشهر بلادها ، ورأينا أشهر فنادقها ، فلم نجد إلا القليل من السائحين فيها ، ولما ذهبنا إلى ألمانية وجدنا الفنادق غاصَّة بالناس من أهل سويسرة وغيرهم ، حتى إنك لَتطوف على الكثير منها ، فلا تجد لك حجرة فيها ، كما سيأتي في محله ، وإنما كثر الغرباء في مدينة جنيف وحدها لما ذكرنا من اجتماع جمعية الأمم فيها ، وكثرة قصد المشتغلين بالسياسة إليها .

  الفرنك السويسري كالفرنك الفرنسي ، والليرة الإيطالية وغيرهما من نقد دول الاتحاد اللاتيني ، كلها متساوية في وزنها الفضي وسعرها الذهبي ، ولكن التعامل العام قد انحصر منذ اشتعلت نار الحرب في الورق ، وهو مختلف السعر الآن ، حتى في البلاد التي يُطبع فيها بحسب الثقة المالية قوةً وضعفًا ، والمعيار العام في أوربة لهذا الورق ( البون ) الإنكليزي ؛ لأن مالية إنكلترة أثبتُ من غيرها من الدول الأوربية التي اشتركت في الحرب ، ولا يعلوها في ذلك إلا الولايات المتحدة وسويسرة ؛ فإنها كالولايات المتحدة في سعر القطع ، ففرنكها لا يقل عن أربعة قروش مصرية صحيحة .
  وإن شئت مثالاً من أمثلة غلاء الفنادق الغريب في سويسرة ، فاعلم أن ثمن البيضة في السوق قرشان مصريان ، كما أخبرنا توفيق أفندي اليازجي ، وهي في الفندق أغلى ، وأن أجرة غسل بعض الثياب في شهر واحد قد يزيد على ثمنها ضعفًا أو ضعفين أو أكثر ؛ فإن أجرة غسل كل من المنديل والجورب وكيّه لا يقل عن فرنكين سويسريين كأجرة القميص واللباس ، وقد يكون في بعضها أكثر ، أفليس شراء جديد بدلاً من المتَّسخ هنالك خيرًا من غسله ، كلما استعمل كما هي العادة ? ، وقد هال رياض بك صلح أنه دفع جنيهين أجرة لغسل ثيابه في الفندق الذي نقيم فيه ( أوتيل دي برج ) ، ومتوسط نفقة الطعام في سويسرة جنيه إنكليزي أو مصري في اليوم وفي فندقنا وما ماثله أكثر ، وفي بعض مطاعم السوق أقل .
  وهذا الفندق من أغلى الفنادق أجرةً وطعامًا إن لم يكن أغلاها ، والطعام فيه أجود وأكثر منه في فندق فيكتوريا الذي نزلنا فيه أولاً ( وكتب أولاً فندق إنكلترة سهوًا وطُبع ) ، فالألوان هنالك قليلة ، وهنا كثيرة جدًّا ، ولكن لكل يوم بل كل وجبة- ألوانًا معدودة لها ثمن معين ، ومن طلب غيرها مما يوجد دائمًا رهن الطلب كالفراخ والسمك والطير وسائر اللحوم بأنواعها فعليه أن يدفع ثمنه ، ومن عاف شيئًا من طعام الوجبة فله أن يطلب بدلاً منه بغير ثمن جديد ، وكنت دائمًا أطلب بدلاً من الألوان التي يدخل فيها لحم الخِنزير ، والجبنُ من متممات الطعام يجوز أن يستبدل به بعض الفاكهة ، وهي كثيرة وجيدة الا التين ؛ فإنه قليل ورديء ، وقيل لنا إنه يأتي من أسبانية وأكثر العنب غير جيد أيضًا .
 

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
*** استطراد في أغبياء الأغنياء المسرفين :    كن أول من يقيّم

 *** استطراد في أغبياء الأغنياء المسرفين :
  هؤلاء الأغنياء المسرفون هم الذين يبذرون الأموال في سبيل الشهوات المحرمة والفخفخة ، الجديرون بأن يُسلبوا ما وُهبوا من النعمة ، يتوهم الجاهل المغرور منهم أن الشرف والفخار ، في استمالة الفواجر والفجار ، وتملق سماسرة الفسق من قواد وخُمار ، وشخوص الأبصار على موائد القمار ، وإطراء المخادعين من الطامعين والشطار ، وتغرير السماسرة الأشرار ، فتراه بينهم يعطي باليمين واليسار ، ويشتري سلعة الدرهم بالدينار .
  إلا أن هؤلاء الأغنياء الأغبياء ، والمبذرين السفهاء ، هم أعداء الله تعالى وأعداء دينه ، وأعداء أوليائه من فضلاء الناس وخيارهم ، وأولياء أعدائه من أشرارهم ، وأعداء أمتهم ووطنهم ، وأعداء ذوي قُرباهم ، ولا سيما أزواجهم وأولادهم ، فهم إذًا أعدى أعداء أنفسهم .
  أما كونهم أعداء الله وأعداء دينه ، فهو أنهم يكفرون نِعَمه عليهم بالمال وبالجوارح ، والمشاعر ، والحواس باستعمالها فيما يخالف شرعه الحكيم ، ويضل عن صراطه المستقيم ، وقد وصفهم في كتابه بقوله : [ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ]( الإسراء : 27 ) ، ويدخلون في عموم قوله : [ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ]( غافر : 43 ) ، ولا نطيل في تذكيرهم بآيات ربهم ؛ فهم عن ذكره معرضون .
  وأما كونهم أعداء أولياء الله أهل الفضائل ، فهو أن الإسراف قد هبط بهم إلى أسفل دركات الرذائل ، وإنما يحب الإنسان شبيهه ، ويكره بمقتضى الطبع مخالفه وضده ؛ ولهذا وصفهم الله بأنهم إخوان الشياطين ، وهو يصدق بشياطين الإنس والجن ؛ ولذلك جمع ، فأما شياطين الجن فهي ما يجدون أثره في خواطرهم ، ووساوس أنفسهم ، التي تزين لهم الفسق وتلبِّس عليهم الحقائق ، بتسمية الرذائل بأسماء الفضائل ، كتسمية الإسراف جودًا وكرمًا ، وتملق المنافقين ( النصابين ) جاهًا ومجدًا ، وتهافت العواهر وخدمة الحانات والمواخير عِزًّا وشرفًا ، وأما شياطين الإنس فهم قرناء السوء المنافقون المتملقون الذي يتهافتون على الأغنياء المسرفين ، ولا سيما الشبان الوارثين ، فيزينون لهم في الظاهر ، ما يوسوس به الشيطان في الباطن ، فهم شر منه وأقدر على الإغواء ؛ لأن التناسب بين شيطان الجن والشرير من الناس نفساني فقط ، وأما التناسب بينه وبين شيطان الإنس فهو نفساني وجسداني ، ذاك يشغل قلبه وخاطره ، وهذا يملك باطنه وظاهره ، فيشغل سمعه وبصره ، وذوقه ولمسه ، ويكون قدوة سيئة له في جميع الرذائل ، وشاغلاً ، بل منفِّرًا له عن معاشرة الأفاضل .    وأما كوْنهم أعداء وطنهم وأمتهم فله مظاهر كثيرة أدبية : كسوء القدوة في إفساد الأخلاق ، وشرحه يطول ، واقتصادية كتحويل ثروة البلاد إلى الأجانب ، أنبأني نخلة باشا المطران في القسطنطينية سنة 1329 ، قال : أنبأني رجل من كبار الماليين في باريس أن متوسط ما تربحه باريس وحدها من المصريين في كل صيفٍ ثلاثون مليون فرنك ( وهو مليون ونصف مليون دينار ( بنتو ) إفرنسي من الذهب ) ، ومثل هذا الإحصاء خاص بما يمكن العلم به، ويتناوله الإحصاء عادة كأجور الفنادق ، والملاهي ، والملاعب ، والحانات ، وربما كان منه مواخير البغاء الرسمية دون ما يُعطَى للأخدان ، ويقال : إنه قلما يوجد رجل من الذين اعتادوا الاصطياف في أوربة من المصريين ؛ لأجل التمتع بالشهوات ، ليس له خِدن يكثر الاختلاف إليها في بيتها ، أو تختلف إليه في البيت الذي يقيم فيه من الفنادق العامة أو الدور الخاصة التي يُعرف واحدها ( بالبنسيون ) .
 

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
القمار...    كن أول من يقيّم

وللقمار مَقامِر عامة يمكن إحصاء ربحها وخسائر الشعوب فيها ، ولكن المبتلين به لا يحصرون مقامرتهم فيها ، بل يقامرون أصدقاءهم وأخدانهم من النساء والرجال في البيوت والملاهي والمنتزهات ، وقد بلغنا أن عمر باشا سلطان قد خسر بالمقامرة في صيف سنة واحدة ( لعلها السنة التي مات فيها ، أو السنة التي قبلها ) ثلاثين ألف جنيه مصري .

  إن أكثر الأغنياء الأغبياء - ولا سيما الشبان الوارثين منهم - يخوضون بحار هذه الموبقات بغير عقلٍ ، ولا حساب ، ولا تقدير ؛ فهم ليسوا كالإفرنج الذين لهم من العلم والتربية ما يقف بهم عند حدود من الاقتصاد فيها كغيرها من النفقات المشروعة ، بلغني أن المقامرين منهم يضعون في ميزانية نفقاتهم السنوية مبلغًا معينًا من الدخل ، يوزعونه على الشهر ، لا يتجاوزون قسط الشهر ربحوا أم خسروا .
 والمقامرون - ولا سيما المسلمين الجغرافيين أو الرسميين من أهل بلادنا - قلما يقف أحد منهم عند حد ، أو يتقيد بنظام، وإن خسر دخل السنة كلها في أسابيع أو أيام ، بل يقترض بعد ذلك بالربا الفاحش ، ويرهن أملاكه لعدم قدرته على كبح جماح نفسه ، والوقوف بها عند حد من شهواته ، ولو أن الجرائد تنشر أخبار هؤلاء السفهاء ، وما يخسرون في القمار وسائر طرق الفسق والفجور - لكان لها تأثير عظيم في ردعهم ، واعتبار الناس بسوء حالهم .
  إن آخر ما سمعت من أخبار هؤلاء المسرفين خبر شاب من الوارثين كان قد أنفق مبلغًا عظيمًا في سبيل العلم ، فظننت أنه سيكون كالشيخ قاسم إبراهيم في جده وعقله في بذله ، وبُعده عن اللهو الباطل وأهله ، أو كالأمير لطف الله في جمْعه بين منتهى أبهة التمتع بزينة الدنيا وطيباتها ، وبين أعمال البر والمعروف مع النظام والتدبير فيهما ، ولكن خاب الأمل فيه ؛ إذ علمت أنه غلا في الإسراف والتبذير غلوًّا كبيرًا ، لعله لا يدَع له فتيلاً ولا نقيرًا ولا قِطْمِيرًا ، فهو ينفق أضعاف ما ترك له والده الحريص من الدخل الكبير ، وطفق يقترض بالربا الفاحش ، ويرهن ويبيع ، فحزنت وأنا لا أعرفه عليه ، وتمنيت لو تخلُص مثل هذه النصيحة إليه ، وأن لا يكون إن نصح ممن قال الله فيهم : [ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ]( الفرقان : 44 ) ، ومَن قال فيهم : [ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ ]( الأنفال : 23 ) .
  وكذلك ما ينفقه هؤلاء في وطنهم يتسرب أكثره إلى جيوب الأجانب أيضًا ؛ فإنه إنما يذهب في الفجور ، وأكثر الفواجر منهم ، والخمور وجميعها من صادرات بلادهم ، والقمار وهم أصحاب القدح المعلى فيه ، أَوْ رِبا الديون وهم أصحاب المصارف ورؤوس الأموال له .
 

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
عداوة الوطن:    كن أول من يقيّم

  أي عداوة للوطن وجناية عليه أكبر من نزح ثروته منه وإعطائها للأجانب ? ، ولو أن هؤلاء السفهاء يجعلون ما ينفقون في غير الضارّ لهم من شهواتهم ، وفيما ينفع الوطن من المشروعات العلمية والعملية لأمكن لمصر أن تضارع أوربة ، وتباريها في زمن قصير ، سواء كان هذا البذل تبرُّعًا في سبيل المصالح العامة ، أو استغلالاً للمال فيما يرقي الزراعة ، والصناعة ، والتجارة ، ويحفظ ثروة البلاد من الضياع ، ولو أنهم يشترون به سندات دَيْن الحكومة وسهام الشركات والمصارف العقارية وغيرها - لأمكنهم إعتاق حكومتهم وأمتهم من استرقاق الإفرنج الاقتصادي لها ، وجعْلها حرة مستقلة في إدارة ثروتها ، والاستقلال الاقتصادي أنجح ذرائع الاستقلال السياسي إذا كان مفقودًا ، وأقوى دعائمه إذا كان موجودًا .

  وأما عداوة هؤلاء الأغنياء الأغبياء لأهلهم وأولادهم فهي أنهم أسوأ الناس قدوةً لهم في الفساد الذي أشرنا إليه ، وأقلهم عنايةً بتربيتهم الصالحة ، فكثيرًا ما يفنون ثروتهم كلها في حياتهم ، فلا يتركون لأولادهم ما يعيشون به كما اعتادوا ، فيكونون أشقى الناس ، ونتيجة ما ذُكر أنهم أعدى أعداء أنفسهم ، والجناة عليها في دنياها وآخرتها .
  إننا بالتجوال في أوربة ورؤية مناظرها الجميلة والتمتع بهوائها المعتدل في فصل الصيف ، ووجدان جميع أسباب الراحة - عرفنا تجربة ذوق ، واختبار عذر أغنيائنا في إقبالهم على الاصطياف فيها هربًا من حر قطرهم وغباره ، ولكننا لا نرى لأحد منهم عذرًا ما في إنفاق شيء من ثروة الوطن في غير أثمان ما يتمتعون به من طيبات الرزق ، وأجور السكن ، والتنقل في البر والبحر ، إلا أن يكون فيما فيه منفعة معنوية لهم أو لأمتهم ووطنهم في علم ، أو ثروة ، أو سياسة ؛ فإن في أوربة من ينابيع العلم ، ومصادر المعارف ، ومجال الأعمال السياسية ما ليس في مصر ولا في غيرها من البلاد ، ولكن لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من اللذات الجسدية لا يوجد مثله في مصر ، وسيأتي بيان ما تمتاز به في مكان آخر .
 
________________________
 

13 - فبراير - 2007
الرحلة الأوربية للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
 23  24  25  26  27