رأي المرحوم الطاهر ابن عاشور في حديث سحر الرسول كن أول من يقيّم
المرحوم محمد الطاهر ابن عاشور من كبار العلماء الذين تصدوا للجواب على مشاكل صحيح البخاري، وذلك في كتابه النفيس (النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح) (الدار العربية للكتاب: ليبيا، تونس 1399هـ 1979م) وقد تناول في هذا الكتاب حديث سحر الرسول عليه الصلاة والسلام، في الصفحة (296) فقال بعدما ذكر نص الحديث: هذا الحديث من مشكلات الآثار، ليس من جهة انه يثير شكا في تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم الواقع في مدة هذا السحر الذي أصابه، لأن العوارض البدنية لا علاقة لها بالاتصال النبوي في الوحي والتبليغ، ولأن العالم وصاحب الصناعة يعتريه المرض في جسده والضعف في حافظته ولا يقدح ذلك في صحة ما يتذكره، وقد بسط عياض في "الشفا" كشف ذلك. ولكن الإشكال في تسلط السحر على نفس الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف نال منه الساحر، وهو الذي علمه الله التعوذ من السحر وغيره، وهو القائل: (من تصبح سبع تمرات من عجوة لم يضره سحر ولا سم) والروايات في هذا الحديث مضطربة، فأما ما في البخاري ففي رواية عيسى بن يونس وابي الزناد أنها "أي عائشة" قالت له : (أفلا استخرجته ؟ قال: قد عافاني الله فكرهت أن أثوّر على الناس فيه شرا) وفي رواية ابن جريج أنها قالت: (فأتى النبيء البئر حتى استخرجه ثم دفنه) ولعه توهم من ابن جريج، وإنما أتى رسول الله البئر ووجدها على الوصف الذي أريه في المنام، ولم يخرج ما قذفه فيها لبيد بن الأعصم من السحر. والذي يظهر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه مرض في مدة قارنه فيها محاولة لبيد بن الأعصم أن يسحره وأن الله بشره في المنام بالشفاء وجعل له علامة على ذلك ان أطلعه على ما حاوله لبيد بن الأعصم ليكون ذلك خاسئا لليهود، إذ كانوا يرهبون المسلمين بانهم يسحرونهم، وكانوا زعموا عند مبدأ الهجرة أنهم سحروهم، فلا يولد لهم: حتى ولد للزبير ابنه عبد الله، وكانت تلك علامة كعلامة نسيان الحوت لموسى على موضع لقاء الخضر عليهما السلام، وأن الراوي خلط الخبرين فجعلهما خبرا واحدا، فشفى رسوله وشفى قلوب المؤمنين من خوفهم سحر اليهود. وأما قوله تعالى عن موسى "فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم انها تسعى" فذلك تخييل بسبب اضطرابات من عقاقير ونحوها، كما يخيل لناظر من يدير جمرة بشدة السرعة أن بيده دائرة من نار، وذلك جائز لأنه يعلم أنه ليس كذلك. هذا قصارى ما يتأول به ظاهر هذا الخبر. وبعد: فهو حديث غريب، لم يروه غير هشام بن عروة عن أبيه لا غير عن عائشة لا غير، مع أنه مما تتوافر الدواعي على نقله لأنه حادث عظيم. على أنه روي أن عائشة قالت: (فأتى رسول الله بئر ذروان في جمع من أصحابه) فكيف لم يرو ها الخبر أحد ممن حضره، والحديث الغريب لا يقبل في الأمور التي تتوفر الدواعي على نقلها. وأيضا هو يقتضي تأثر عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر، وذلك لا يجوز عليه، وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول بعض أصحابه في مرضه الذي مات فيه "إن رسول الله يهجر" وأمرهم بأن يقوموا عنه. ولابد في هذا الحديث من آفة من وهم، أو سقوط ما يزيل الوهم، وأن الخبر إذا خالف أصول التشريع وما يجب لمقام النبوة يجب رده ودحضه. |