
كان اليهود والنصارى في عداء دائم وشرس منذ أن بزغ نجم النصرانية في سماء فلسطين في أول عهدها على يد المسيح عيسى عليه السلام ، ولم يتوقف هذا العداء أبداً طيلة القرون الماضية ، بل ظل عداء سافراً يلحظه كل أحد ، قال تعالى :
{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } البقرة .
ولكن .. هناك سؤال مهم جداً ومتكرر ، ألا وهو كيف انقلب الأعداء إلى أصدقاء ، ومتى ؟
بداية لنأخذ لمحة تاريخية موجزة عن أصل هذا العداء ومنشأه حتى تتضح لنا الرؤية :
- تـمـهـيـد مهم .. !
كان الرومان في فترة ماقبل الميلاد يسيطرون على أجزاء كبيرة من العالم ومن ضمنها فلسطين ، وفي هذه الفترة من التاريخ بعث الله عيسى عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل ، فدعاهم إلى توحيد الله وإصلاح ما أفسدوه من شريعة موسى عليه السلام ، فاستجاب له بعض اليهود ، ولكن الكهنة جاهروه بالعداوة لكشفه عن فساد أحوالهم وخداعهم بني إسرائيل ، عند ذلك إنقسم بنو إسرائيل إلى فرقتين كما ذكر الله تعالى : { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } (الصف) ، فاللفرقة الأولى هم النصارى والثانية هم اليهود .
بعد ذلك سعى كهنة اليهود والأحبار إلى الحاكم الروماني وحرضوه على قتل عيسى عليه السلام ، فاستجاب لهم وأمر الجنود بهذا ولكن الله عز وجل رفع إليه ، وألقى شبهه على غيره فصلبوا الشبيه ، قال تعالى : { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } (النساء) .
فاليهود منذ ذك الوقت وإلى اليوم يطعنون في مولد عيسى عليه السلام لأنه ولد من أم بلا أب ، ويكفرون بدعوته ونبوته ، كما أنهم تآمروا على قتله ، ثم بعد أن رفعه الله قاموا بالكيد بأتباعه ومن هو على ملته فقتلوهم وأحرقوهم وفعلوا بهم أشنع الأفاعيل .
ثم أنَّ الأيام استدارت وقويت شوكة النصارى بعد دخول الرومان في النصرانية ، فنكلوا باليهود الذين شُردوا في الأرض وانتقموا منهم شر انتقام ، حتى أنهم قاموا بعد انتصارهم بالحملة الصليبية على بيت المقدس بحرق اليهود في معابدهم حرقاً جماعياً ، وكذلك طردهم المتكرر من أوربا ، وما كان من هتلر تجاههم .
- مـارتــن لـــوثـــر ؟
كانت الكنسية تمارس أبشع أنواع الإضطهاد والتسلط على رقاب النصارى وتكبت حرياتهم وتنتقم من كل من خالف رأيها مهما كان ذلك الرأي ، والأدهى من ذلك أنها استأثرت بفهم الكتاب المقدس وتفسيره دون سائر النصارى ، وعليهم قبول ما تفسره دون نقاش ، فأصدرت صكوك الغفران للمذنبين يشتريها المذنب من الكنسية من أجل غفران خطاياه !
في هذا الوقت قام قسيس ألماني يدعى مارتن لوثر المولود عام 1482م ، بثورة ضد الكنسية وانحرافاتها واضعاً مبادئاً لثورته من أهمها :
1 - الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للمسيحية ، ورد كل ما جاء به البابوات .
2 - من حق كل مسيحي أن يقرأ الكتاب المقدس وأن يفسره .
3 - عدم إعترافه بنظام البابوية في الكنائس .
4 - مطالبته بجواز زواج القساوسة .
ولكن هذه الحركة لاقت تضييقاً شديداً من الكنسية الكاثولكية وتم دعوة مارتن لوثر الى روما أكثر من مرة من قبل البابا ، ولكنه لم يجب فبادر البابا الى حرمانه ، فلم يأبه مارتن لوثر بهذا الحرمان بل أحرقه ، بعد ذلك أُهدر دمه وحرمت قراءة كتاباته ولكن شعبيته تصاعدت أكثر فأكثر مما حدا الكنسية إلى إلغاء قرارتها تجاه الحرمان وهدر الدم ، وبعد وفاة مارتن لوثر قامت الكنسية بملاحقة أتباعه في صراع دموي رهيب ، مما اضطرهم الى الهجرة هرباً بمعتقداتهم (البروتستانتية) فكانت الوجهة الرئيسية لهم هي العالم الجديد ، امريكا التي اكتشفت قريباً وكانت بعد ذلك القاعدة الكبرى والأهم لدعم اليهود وتذليل جميع العقبات أمامهم ، وعن هذه القاعدة انبثقت عدة منظمات تُعنى بأمن وبقاء إسرائيل أو ما يُسمى بجماعات الضغط أو اللوبي الصهيوني ، لا سيما كبرى المنظمات الصهيونية مثل إيباك وغيرهــا .
ومن الذين بقوا في أوربا والذين هاجروا إلى أمريكا من البروتستانت تشكلت الطريقة الجديدة في فهم الكتاب المقدس ، بل أنها بعثت العهد القديم (التوراة) الذي ظل قابعاً في أديرة كهان اليهود أكثر من 1500 عام إلى الوجود ، وفسرته تفسيراً يخالف ما اتفقت عليه الكنسية منذ نشأتها على أنه يُفسر التفسير المجازي وليس النصي، وبذلك تم إحياء النص التوراتي وبدأت النظرة تجاه اليهود تتغير تدريجياً .
وبذلك جاءت النصرانية بفكرة إقامة الحقيقية الدينية على أساس الفهم الشخصي ، فكان كل بروتستانتي حراً في دراسة الكتاب المقدس واستنتاج معاني النصوص التي كانت الكنسية تفسرها تفسيراً مجازياً ، فوقعت أعين الكثير على التنبؤات والوعود اليهودية ، من أجل ذلك أصبح العهد القديم المرجع الأعلى لفهم العقيدة المسيحية ، وأصبحت اللغة العبرية اللغة المعتمدة للدراسات الدينية باعتبارها اللسان المقدس ، فأصبحت هذه اللغة جزءاً من الثقافة الأوربية في القرن السادس عشر .
- أدبـيـات الـيـهــود ؟
إنكب المسيحيون العاديون ورجال الدين على دراسة أدب الأحبار وذلك تزامناً مع ارتفاع وتيرة الفنون الأخرى في أوربا ، فأعجب المسيحيون بالعبرية وتسربت الروح العبرية اليهودية إلى الفنون والآداب ، فكان الفنانون يرسمون ويحفرون مناظر الكتاب المقدس ، وحلت قصص وتفسيرات العهد القديم محل المسرحيات التي كانت تمثل حياة القديسين اليهود ، فأصبح شأنهم معظماً في نفوس العامة والخاصة ، وهكذا تسربت الأدبيات اليهودية إلى صميم العقيدة والفكر المسيحي .
وكانت هذه الأدبيات تدور حول 3 أمور :
1 - اليهود هم شعب الله المختار .
2 - أن الله أعطاهم ميثاقاً يربطهم بالأرض المقدسة في فلسطين .
3 - ربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح بقيام دولة صهيون وتجميع اليهود فيها .
جراء ذلك آمن النصارى البروتستانت أن مساعدة اليهود لتحقيق هذه الغاية أمر يريده الله ، لأنه يعجل بمجيء المسيح الذي يحمل الخلاص والسلام وأنهم سوف يعيشون معه في سلام مدة 1000 سنة ، صبقاً لتفسيرات سفر رؤيا يوحنا .
كما أنه لا يجب إغفال أن لليهود في جميع ما سبق الحصة الكبرى في دعم هذا الإتجاه بكل الوسائل والفرص المتاحة ، خصوصاً أن الكثير منهم قد توجه إلى أمريكا وشارك بوضع اللبنات الأولى لبناء العقلية الأمريكية التي تنظر لليهود على أنهم شعب الله المختار ، ولقد كان لهؤلاء المسيحيين المتهودين قبل أكثر من 250 سنة ، إعتقاد جازم بأن هناك 3 إشارات تسبق عودة المسيح :
-الإشارة 1 : قيام إسرائيل كدولة ، وحدث هذا عام 1948م .
-الإشارة 2 : هي إحتلال مدينة القدس وقد حدث هذا عام 1967م .
-الإشارة 3 : هي إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى وقد وضعت الخطة لذلك وجمعت الأموال ( صندوق مشروع بناء الهيكل ) ، وتمت بداية تفعيل تلك بالحفريات تحت المسجد الأقصى بدعوى البحث عن آثار ذلك الهيكل المزعوم .
مما سبق يتضح لنا كيف كان لحركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) التي أشعل شرارتها مارتن لوثر الدور الأكبر والأساسي لتحويل مسار العلاقة بين اليهود والنصارى من صراع دموي إلى تحالف إستراتيجي آثم تبنته كبرى الدول فأثرت بطبيعة الحال على أغلب الدول الأوربية خصوصاً بعد انسلاخ أوربا من الدين وخروجه من حياة الناس ، فكانت الضحية الكبرى لهذا التحالف هم المسلمون بالرغم من إيمانهم بالمسيح عليه السلام وإقرارهم بالكتاب الذي جاء به.
