آخر جولة .... كن أول من يقيّم
رأي الوراق :     
السبت 07/08/2010 سلمنا مفاتيح الغرف على الساعة العاشرة صباحا، وجلسنا في انتظار الباص في صالة مريوط التي لم تتسع لنا ولحقائبنا، بعد فترة قصيرة جاء أحد عمال الاستقبال يطلب منا إخراجها وتخفيض أصواتنا، خرجنا مع الحقائب وجلسنا في الحديقة أمام الفندق، كنت مع قائدنا الجزائري كمال وزوجه وبعض رفاقنا من حفظة القرآن، تلونا بعض الآيات من كتاب الله الكريم منبهين إلى أحكام التجويد ومخارج الحروف حينا، ومتناقشين حول إعراب كلمة أو سبب كتابتها بهذا الشكل في الرسم العثماني آخر، ولم نشعر بمرور الوقت حتى وصل الباص الذي كان متأخرا على غير عادته بسبب مشكل طارئ في التنسيق مع رفاقنا الذين بقوا في الفيا بورت، الساعة كانت الثانية زوالا، فتوجهنا إلى فندق التيتانيك لنصطحب بقية الأصحاب ونتغدى سوية هناك، وهكذا لم نبدأ جولتنا إلا والساعة الثالثة مساءً. تأملت معالم الطريق لآخر مرة، النباتات التي نسقت على جانبيه بنظام بديع، لتصور العلم التركي في كل شبر، ولترسم لوحات لونية جميلة، أعمدة الكهرباء والمصابيح أيضا وعليها طوق من الأزهار، فكرت في أن هذا المشهد وحده يستحق أن تكتب عنه صفحات كاملة، مشيدة بالرقي الثقافي وعناية الدولة من خلال ما يعكسه من نظافة ونظام، حتى لتحسب نفسك في بلد أوربي حقا. لا داعي لأذكر هنا أحوال الطرق عندنا في بلادنا لأنها في هذه الحالة لم تعد تسمى طرقا، ولا حاجة للقول أن شعبنا يحتاج إلى الكثير من التربية، وإن كنت لا أغفل هنا كوننا في مدينة سياحية بالدرجة الأولى، ولكن ما حال السياحة عندنا أيضا؟ البوسفور كان كما عودنا، غير أن سحره كان هذه المرة مختلفا، ربما لأننا لم نعتد رؤيته في هذا الوقت من النهار، أو ربما لأنها آخر مرة نمتع أعيننا بمنظره، كان شارباه مفتولان وكتفاه عريضان، ووسام التاريخ على صدره يلمع في افتخار، لكنه في نفس الوقت كان رقيقا، يخفي وراء ابتسامته شيئا في قلبه من الفراق، هكذا رأيته، لأني تمنيت لو يحمل عني هذا الفراق الرهيب الذي بدأت أدخنته تخرج من صدري بعد أن حبستها زمنا لأخنق بها العبرات. تركت مقعدي واقتربت من النافذة لأترك له ابتسامة أخيرة، وقبلة وداع وإبرة، ليخيط ما تتركه عليه القوارب من جراح، ثم عدت إلى مكاني محاولة إخفاء دموعي. حين وصلنا إلى "تقسيم" تركت الجماعة وتسوقهم وقصدت جامع مراد باشا القريب لأداء صلاة الظهر، كلمة آبتيست كانت كافية ليدلني رجل تركي عجوز على مكان الوضوء، فالمساجد التي مررنا بها في كل رحلتنا -ما عدى جامع السلطان أحمد- لا تحتوي مكانا مخصصا لوضوء النساء، وهكذا نضطر في كل مرة إلى دخول الحمامات العمومية بمقابل لنتوضأ. في المصلى كانت امرأة تركية وحيدة في مقتبل العمر تصلي، أتمنى فقط لو أعلم سر حفاوة ترحيبها بي حين علمت أني من الجزائر وكذلك هو شأن كل الأتراك الذين قابلناهم، سر هذه المحبة الكبيرة التي يكنونها لنا والتي تجعلني فضولية لأعلم ما يعرفونه عن وطني وشعبي، وفي نفس الوقت معجبة بمشاعر المودة التي يكنونها للمسلمين عامة، والتي تجعلنا نفهم بعضنا دون حاجة لمعرفة كلمة من حديثهم. حين عدت إلى المجموعة، كان الوقت الحر قد انقضى فركبنا الباص لنتجه نحو شارع الاستقلال أين كان لا يزال بانتظارنا المزيد من التسوق، نزلنا ليكون أول ما يقابلنا نصب تذكاري للرئيس مصطفى كمال أتاتورك الذي أعفتنا إيميت من الحديث عن إنجازاته هذه المرة لضيق الوقت. تبعنا إيميت التي راحت تمشي بسرعة وهي تخبرنا عن الأماكن التي نشاهدها في الشارع بعد أن طلبت منا الحذر والانتباه لأغراضنا بسبب الازدحام، تجاوزنا فندق مرمرة ومحلات الزهور لندخل الشارع الذي تتوسطه سكتا ميترو، مررنا بالمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي والمكتبات التي على جانبي الشارع بسرعة وبثانوية لا أذكر اسمها، لنتفاجأ بحشد من المتظاهرين المنادين بسقوط حزب العدالة والتنمية ورئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان. أخبرتنا إيميت أن المظاهرات بسبب استفتاء سيقام في الثاني عشر من سبتمبر لتعديل الدستور، وأن الشعب ساخط لأن أردوغان يريد لنفسه ولحزبه السلطة المطلقة، وأضافت إن أردوغان ليس الشخصية التي كسبت تقديرنا بتأييد القضية الفلسطينية ولكن هو أيضا الشخص الذي باع مؤسسات الدولة للخواص ولا يزال يعقد الصفقات مع الجانب الإسرائيلي. أبدى قائدنا شكوكه حول ما أخبرتنا به مرشدتنا بسبب الميول التي تظهرها للعلمانية وتقديرها لشخص أتاتورك، وتابعنا سيرنا لنصل إلى مكان التسوق بعد مرورنا بفرقة موسيقية غجرية وقد التف حولها جمع من الناس بجوار أحد المطاعم، هناك أعطتنا إيميت نصف ساعة من الوقت الحر وعادت هي إلى مكان التجمع المتفق عليه. فضلت أنا وبعض الفتيات الرجوع معها، ليس خوفا من الضياع فقط ولكن لأننا لم نجد ما يجذب اهتمامنا في السوق، وطلبنا منها ترجمة ما كتب باللغة التركية على المطويات التي كان يوزعها المتظاهرون. في أحدها رسم كاريكاتوري يصور رمز العدالة المرأة المعصوبة العينين حاملة بيدها اليمنى سيفا وباليسرى الميزان، وبجوارها أردوغان وهو يضع لها في شرابها منوما ويقول أنا صاحبك، وصور أخرى ساخرة وتعليقات سياسية وشعارات ضد الحزب. أخبرْنا إيميت عما نعرفه عن الحكومة التركية وحدثناها عن الأوضاع السياسية عندنا وعن مظاهراتنا السلمية كيف تتحول إلى (حُڤْرَة) وقمع ونحن نرى أعوان الأمن واقفين بجوار المتظاهرين من غير محاولة إسكاتهم أو تفريقهم، إلى أن مررنا بكنيسة حسبناها من بعيد مسجدا بسبب قبتها وسألناها إن كان بإمكاننا دخولها، طلبت منا إيميت الانتظار قليلا وهي تدخن سيجارتها الرقيقة، ثم قالت لنا بعد أن استنكرت إحدى رفيقاتنا طلبنا إنها مسلمة وإنها تدخل أحيانا إلى الكنيسة وتقرأ الفاتحة. وقفنا تتأمل اللوحة المرسومة فوق الباب وفيها قد وقفت مريم العذراء باسطة كفيها وعند قدميها رجلان، أحدهما يحمل زنبقة والآخر مطرقة، ثم دخلنا بعد أن طلبت منا مرشدتنا التزام الصمت ونحن نعلق على لافتة تشير إلى منع ارتداء قبعة، متجاهلات الأنظار التي وجهت نحونا فور دخولنا بسبب الحجاب الذي نرتديه. الإضاءة في الداخل كانت خافتة والشموع متفرقة في أنحاء المكان، جعلتني الشموع الكثيرة المشتعلة يمينا أتجه إليها مباشرة لأتأمل ما بجانبها من لوحات وتماثيل. في الزاوية عند المدخل مكان لبيع كتب الدين، ثم ثقوب مستطيلة في الحائط بعرض أربعين سنتمترا تقريبا وطول ثمانين وسمك عشرين، وقد وضعت فيها شموع بيضاء طويلة مثبتة على حصى صغيرة وقد غمر أسفلها الماء، ثم تمثال راهب يحمل المسيح الرضيع بين يديه، ولوحة في الجدار المقابل بجوار مصطبة ومنبر، وقد جلس فيها المسيح عليه السلام مع اثنين من أصحابه على مائدة الطعام، إضافة إلى لوحات أخرى للعذراء وعيسى عليه السلام. اختفت إيميت لحظة لتعود ومعها كتاب صغير وشمعة أشعلتها ووضعتها وهي تقرأ الفاتحة، ثم قالت لنا: (ادعين الله إن شئتن، النصارى يتجهون في دعائهم إلى النور، والنور هو واحد وهو الله)، ذكرني قولها بأن الله نور السماوات والأرض، مع هذا لم أستطع أن أفعل مثلها، واتجهت مع رفيقاتي إلى الباب أين نبهنا عون أمن أن نلتزم الصمت ونحن مغادرات بسبب استفسار رفيقتي عن شيء. فكرت في أني دخلت ضريحا لأول مرة في إسطنبول ودعوت الله وحده، فما يضيرني أن أدعو الله وأنا أدخل كنسية لأول مرة أيضا في حياتي، هممت بالدعاء لما شاهدت تمثال المسيح مصلوبا أمامي، شعرت بالاشمئزاز، وسرت رعشة في كل جسدي، استدرت إلى المخرج لكي لا أرى الصليب، ودعوت الله أن يهدي عباده إلى سواء السبيل. بعد خروجنا تمشينا مع إيميت إلى أن وصلنا إلى مدخل الشارع مقابل نصب أتاتورك، تحدثنا مع رفاقنا حول مواضيع شتى ووصفنا لبقية أصحابنا الكنيسة التي زرناها، وروينا النكت والتقطنا الصور مع مرشدتنا ومظلتها المميزة، ثم غادرنا بعد أن قضينا لحظات لا تنسى لنكتشف مكان آخر سهرة لنا. لا تنتظروا مني أن أخبركم الآن عن سهرتنا الأخيرة في إسطنبول ولا عما همسته آخر مرة في أذني، فأنا لن أخبركم الآن في أي صورة رأيتها، لن أخبركم عن صوتها الذي سمعتها، ولن أخبركم كم دمعة ذرفت حين تركتها... سيكون عليكم الانتظار لأني لست مستعدة بعد للمغادرة، لا تستعجلوا إتمام الحكاية، لأني أشك أن تكون لها نهاية أبدا... |