كتاب قرأته كن أول من يقيّم
قرأت كثيرا وليس لدي شك في فائدة أي كتاب وقع عليه نظري ، ولكن الفائدة قد تعظم وقد يقل نفعها غير أنها تظل تحت مسمى الفائدة ؛ لذلك لا أستحقرها ولا أستعظمها وإنما أدع لها قدرها تقدره حين تأتي الحاجة إليها والنفع منها .
ومن الكتب التراثية في اللغة والأدب طائفة بَنَتْ عقلي وبقيت منارا لكل قراءة أستزيد بها علما ، فهكذا حال الكتب البنائية ( وأعني بالبنائية : التي تبني الثقافة الفردية ، والتي لا يستغني عنها أي متخصص في علم ما ، أما الكتب التي تغير منهج القارئ وتؤثر في مسيرته الفكرية أو الأخلاقية أو السلوكية فأسميها الكتب التوجيهية ) فالكتب البنائية أقرب إلى العلم ، والكتب التوجيهية أقرب إلى الفلسفة الارتقائية .
ولعل أول كتاب حفر في نفسي أثره وعمقه هو كتاب ( قصة نفس ) للدكتور زكي نجيب محمود - رحمه الله - فقد عرفت ذلك المفكر في ندوات أستاذنا عباس محمود العقاد - رحمه الله - ثم حرصت على حضور بعض محاضراته وبعض الندوات واللقاءات التي يكون له نصيب من الحديث فيها ، وقرأت جميع كتبه فيما بعد . أما كتاب قصة نفس ، فقد جعله الرجل ترجمة ذاتية لنفس ما وهذه أغرب ترجمة نفسية عرفتها المكتبة العربية ، ثم كتب بعدها ( قصة عقل ) ، وجعل كتاب ( حصاد السنين ) ثالثا لسابقيه لتكتمل بذلك سيرة مفكر يسطرها قلمه لأنه أيقن أن لا أحد سيذكره بعد غيابه عن الدار الفانية ، وشبه عمله هذا بآخر صوت تطلقه البجعة قبل موتها وهو أجمل صوت يُسْمع منها وقد كان صوتها طوال حياتها بغيضا إلى سامعيها .
كانت ثلاثية زكي نجيب محمود قريبة إلى نفسي وقد يعجب قارئ هذه السطور إذا قلت : إني قرأتها نحو عشرين مرة ، وفي كل مرة كانت نفسي تتزحزح شيئا قليلا عما ينتابها أحيانا من ضجر أو تفلت من مخالطة المجتمع الذي أعيش فيه ، فتتنبه دواعي التغيير والتمييز لأجدني شخصا آخر وعقلا آخر ونفسا آخرى ، فتتغير نظرتي حالا في مشكلات الحياة وتتحدد لي درجات الهمة ، ويتجدد إيماني بخالقي فيستنير أمامي سبيل الفكر فيما أقرأ من آيات القرآن الكريم ، ولا يحسبن أحد أن كتابات هذا شأنها تعين على تفسير القرآن مثلا ... كلا . كلا ؛ بل أعني ما قلته فقط من أنها تفتح للعقل مجالات للتفكير والفهم فمن سلك بالتفكير والفهم سبيل القراة والتدبر للقرآن وجد مجال المعرفة ذا سعة على مناحٍ شتى .
ليست ( قصة نفس ) و( قصة عقل ) مما يألفه قراء الترجمة الذاتية من سرد للحوادث وانطباعات عنها ، ولكنها تأملات في تدرج النفس والعقل عبر مسيرة الحياة وكيف يكون الانتقال من حال إلى حال للنفس والعقل ، وما يعتريهما من علل وآفات وسبيل العلاج منها ، والنفس من أعقد المخلوقات تركيبا ومحاولات الغوص فيه بدأ مع بدء الخليقة ولن تنتهي من غوصها إلا مع انتهاء الخليقة ، فكان كل غواص يمسك بطرف من صيده ولما يبلغ منتهاه ، وهكذا كان نصيب زكي نجيب من غوصه ، فهو لا يدعي بلوغ المنتهى ولكنه يدعي فهم الطريق ومعرفة علاماتها ، وهذا من تواضعه لقارئه ولسائله ، فإذا عن للقارئ سؤال فلربما وجد الجواب بعد سطور أو صفحات وهذا بسبب نظام الفكرة وعمل الفكر ، ذلك جيل الرواد الذين عرفناهم ورحم الله من غاب عنا وأطال عمر الأحياء منهم ونفع بهم . |