من واجبنا (1)     ( من قبل 3 أعضاء ) قيّم
رحيل المفكر محمد عابد الجابري محمد عابد الجابري: الفكر في لوائح الكتب الأكثر مبيعًا - إبراهيم العريس كان محمد عابد الجابري، المفكر المغربي الراحل عن عمر ناهز الخامسة والسبعين، واحدًا من أشهر المفكرين النهضويين العرب خلال العقود الأخيرة. بل لعله كان المفكر العربي الوحيد الذي صارت كتبه كلها، ومنذ بدايات نشر سلسلته الفكرية نقد العقل العربي، الأكثر مبيعًا في أي لائحة من هذا النوع. في هذا الإطار كان ظاهرة يصعب تفسيرها: لماذا يقبل القراء العرب، وربما بعشرات الألوف، على قراءة أعماله؟ ولماذا يشتري نسخًا من هذه الأعمال قراء من الصعب القول إنهم، كلهم، يقرأون ما يشترون. في الوقت نفسه عرف بكونه الأكثر مشرقية بين كتَّاب المغرب العربي، في فترة ازدهرت فيها الكتابات الفكرية المغربية متغلبة على المشرقية، لاسيما بعد هزيمة حزيران (يونيو)، وفي سياق النجاح الكبير الذي افتتحه مواطنه عبدالله العروي بكتابه الأيديولوجية العربية المعاصرة. وربما اعتبر كثيرون من القراء المشارقة أن اليقين الفكري والمنهجي الذي جاء به الجابري في كتاباته، هو تعويض عن الارتجاج الذي أحدثه العروي. ففي كتابات العروي كان السؤال يطغى، أما لدى الجابري فاليقين لمن يحب أن يطمئن إلى تاريخه. من هنا كان الجابري المولود عام 1935 والدارس، خصوصًا في دمشق والرباط، مثيرًا للسجال، لاسيما في المغرب، حيث يؤدي الرواج إلى شتى ضروب الشك. وهكذا في وقت راحت كتبه الكثيرة، بدءًا من العصبية والدولة أطروحته للدكتوراه حول ابن خلدون (1971) وحتى أعماله الأخيرة، لاسيما منها ما دار حول فلسفة العلوم ومعرفة القرآن الكريم، مرورًا برباعيته حول نقد الفكر العربي، تفتن قراء المشرق، لاسيما أنصاف المثقفين منهم، فيما راح السجال يكبر حول صوابية آرائه في المغرب. وأخيرًا حين بدأ انتقاده في المشرق، تمحور أول الأمر حول عصبيته المغربية وتأكيداته بأن الفكر العقلاني العربي انتهى في المشرق مع الغزالي وابن سينا ليتواصل فقط في المغرب بعد الأندلس. كان ثمة الكثير مما يمكن الموافقة عليه في المتن الجابري، ولكن، كان ثمة الكثير مما يمكن مخالفته، أو اعتباره من قبيل البديهيات التي لا تطرب سوى أنصاف العارفين. وفي هذا السياق لم يكن غريبًا أن يساجله جورج طرابيشي في سلسلة كتب حملت عنوانًا رئيسًا هو نقد نقد الفكر العربي، وفيها تناول طرابيشي بالبحث الدقيق عددًا من يقينيات الجابري، لاسيما قسمة العقل إلى عقل عربي وآخر غربي، وامتدادية الفكر اليوناني وما إلى ذلك. والغريب في الأمر هنا هو أن الجابري الذي كثيرًا ما أنفق وقتًا لمساجلة مناوئيه، المغاربة والمشارقة (ومنهم فتحي التريكي وعلي حرب)، تصرف دائمًا كأن أجزاء كتاب طرابيشي غير موجودة، وكان حادًا في تجاهله إلى درجة أنه ذات يوم فيما كان كاتب هذه السطور يحاوره في مقابلة نشرت لاحقًا في إحدى الصحف اللبنانية، نظر باستغراب إلى محاوره حين سأله عن رأيه في سجال جورج طرابيشي له ولأعماله. بدا عليه أنه لم يسمع بهذا الاسم! كان الجابري تنويريًا ونهضويًا وغزير الإنتاج، كما كان – حتمًا – قوميًا عربيًا من النمط الشعبي. لكنه لم يكن مساجلاً جيدًا بالتأكيد. غير أن هذا كله سينسى وتبقى منه كتب شيقة ممتعة حاملة كل أنواع اليقين والمواعظ. أهمها على الإطلاق كتابه الأول عن ابن خلدون. ترى من قال يومًا إن العرب هم دائمًا أهل البدايات الجيدة؟ الحياة، 4-5-2010 * * * بين العلمانية والسلفية - ياسين تملالي رحل محمد عابد الجابري بعد رحلة طويلة نجح خلالها في خلع هالة القدسية عن الموروث الفلسفي واللاهوتي العربي ووضعه في دائرة الضوء النقدي. لم يبتدع الجابري الدراسة النقدية للتراث. هي من مكوِّنات الفكر العربي منذ مطلع القرن العشرين، مع أعمال مثل في الشعر الجاهلي لطه حسين والإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق. لكن هذا التوجُّه النقدي أخذ منحىً مختلفًا في السبعينيات والثمانينيات، بفضل أعمال الجابري ومنجزات باحثين آخرين. زاوج المنحى الجديد بين الحس النقدي والرغبة في اكتشاف «خصوصيات الفكر العربي»، نائيًا عن وهم تمثيل الحركات الفلسفية الأوروبية الحديثة. يمكن تلخيصُ مشروع الجابري في هذه الكلمات التي نقرأها في التراث والحداثة: ما لم نمارس العقلانية في تراثنا، وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة «العالمية» كفاعلين لا كمجرد منفعلين. هنا، يدافع الراحل عن ضرورة «حداثة عربية» خاصة، منتقدًا المشاريع السلفية والليبرالية والماركسية التقليدية للاندماج في العالم المعاصر. تبدو «وسطية» الجابري محاولةً للتموضع بمعزل عن الصراعات الدائرة بين التيارات العلمانية والتيار الديني بعد انحسار المد «التقدمي» في العالم العربي. محاولةٌ جاءت تؤدي دور الحَكَم بين اليسار الماركسي المتراجع واليمين الإسلامي الصاعد. وتجلَّت هذه الوسطية في جرأة دراسته للنص القرآني من ناحية، وفي رفض العلمنة من ناحية أخرى. ويلاحظ أن الجابري برر استحالة تطبيق نظام علماني في العالم العربي بنفس تبريرات الإسلاميين. فهو مثلهم كان يرى «العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام، لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة». وقد عدَّ كثيرٌ من العلمانيين العرب هذا الموقف تنازلاً إراديًا للحركة الإسلامية. ورغم أن مشروع الجابري لرصد تكوين العقل العربي كان قطيعة نسبية مع ماضي الفكر الليبرالي في المنطقة العربية، فإنه بقي مطبوعًا بطابعه المثالي ذاته. قلما كان هذا الفكر يعد التراث نتاج ظروف تاريخية أدى فيها الاقتصاد دورًا حيويًا. وهو حتى إن ألقى عليه هذه النظرة المادية، فإنه كان يعدُّ «النهضة» أساسًا عملية «تراكم فكري» سيقدَّرُ لها يومًا أن تغيِّر الواقع السياسي والاقتصادي. صحيح أن في استخدام مصطلح «العقل المستقيل» لوصف جزء من الإنتاج الفكري واللاهوتي العربي تنويهًا بتباين هذا الإنتاج وتنوعه، لكن ألا تشير عبارةُ «العقل العربي» في حدِّ ذاتها إلى أن موضوعها معطى ثابت عبر العصور؟ ألا يعني ذلك افتراض تمايز جوهري بين «عقل عربي» وعقل آخر «غربي» يختلف عنه جذريًا؟ أما الدعوة إلى بناء «حداثة عربية فعَّالة لا منفعلة»، فتحمل في طياتها الإيمان بأنَّ بلورة فكر حداثي هي أولى مراحل الحدثنة العربية، وهو ما يفترض للفكر استقلاليةً كبيرةً عن سياقه التاريخي ودورًا جوهريًا في تغييره. الأخبار، 4-5-2010 * * * |