أتيت أستاذنا بديع الزمان بهذه الهدية، وهي أبيات مشهورة على لسان كل وراق منذ أن صدح بها أبو الفتح السكندري، والمقصود بالعين الأولى في البيت الأول (الذهب) ويروى (وأفنيت فيها العمر حتى تبددا) وهذه ترجمة أبي الفتح من كتاب الوافي للصفدي.
نصر بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن علي بن الحسين بن زياد بن عبد القوي بن عامر بن محمد بن جعفر بن أشعث بن يزيد بن حاتم بن حمل بن بدرٍ الفَزاريُّ أبو الفتح الإسكندري النحوي، كان شاباً فاضلاً ذكياً له معرفة تامة بالأدب، وصنف كتاباً في أسماء البلدان والأمكنة والجبال والمياه كبيراً مليحاً في معناه، وقدم بغداد بعد الستين وخمسمائة، وسمع بها من شيوخ ذلك الوقت وجالس العلماء وحدث بشيء يسير عن الحافظ أبي القاسم ابن عساكرٍ وهو يومئذ حيٌّ بدمشق، ودخل إصبهان، قال ابن النجار: وأظنه توفي هناك. ومن شعره:
أطلعني شيخنا عبد الله الحبشي (سلمه الله) على هذه النادرة وطلب إلي أن ألحقها بكتاب الوالد رحمه الله، وهو ما ذكره شمس الدين ابن الجزري (ت 738هـ) في كتابه (تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه) في ترجمة عماد الدين محمد بن رمضان (ج2 ص 84) وفي النص، وفي الأبيات أخطاء طفيفة تركتها على علتها. قال: (مررت في أشهر ذي الحجة سنة خمس وعشرين وسبعمائة بمقابر باب الصغير وباب الجابية عند مسجد الذبان فرأيت القبر الذي مكتوب على نصيبته هذه الأبيات الآتي ذكرها، وقد خرب بعض خشخاشته الفوقانية فقلت لبعض الحفارين ولطيان اسمه الحاج محمد المغربي أن يبنوه وأعطيهم أجرته فقالوا: إن صاحب هذا القبر ما دفن فيه وإنه لما بناه ملأه مرة خبز ومرة ثياب ومرة فواكه خمسة، وقيل: سبعة أصناف، وبقي يتصدق بما يملأه وأنه بعد ذلك سافر إلى بغداد وتوفي بها. والنصيبة مكتوب عليها: (هذا قبر عماد الدين محمد بن رمضان المصنف لهذه الأبيات:
بداية أتوجه إليكم بعميق الشكر والامتنان على تلبيتكم رجائي في نشر هذا الموضوع،والمعذرة من أنني رأيت أن يكون عنوان مشاركتي هو رأي رجالات الدين المسيحي في إنجيل برنابا والذي يتلخص في قولهم:(إنجيل برنابا شهادة زور على القرآن)ويكفي أن نبحث عن هذه الجملة التي أصبحت بمثابة الشعار والخاتم الكنسي لإنجيل برنابا، لنرى سيلا من المقالات والردود، وكلها تحمل هذا العنوان.فكيف تنظرون إلى ما تضمنته كل هذه المقالات من شبه ومؤاخذات.وهل يمكن أن تفردوا لنا فصلا تذكرون فيه الفوارق بين ترجمتكم والترجمة المشهورة، سيما في المسائل التي أثيرت حولها الشبهات، كهذا النص مثلا: (الحق اقول لكم انه لو لم يمح الحق من كتاب موسى لما اعطى الله داود ابانا الكتاب الثاني . ولو لم يفسد كتاب داود لم يعهد الله بانجيله الي لان الرب الهنا غير متغير ولقد نطق رسالة واحدة لكل البشر .. فمتى جاء رسول الله يجيء ليطهر كل ما افسد الفجار من كتابي) أو كهذا النص: (الحق اقول لكم اني لست مسيا فقالوا انت ايليا او ارميا او احد الانبياء القدماء ؟ فأجاب يسوع كلا . حينئذ قالوا من انت قل لنشهد للذين ارسلونا ؟ فقال يسوع انا صوت صارخ في اليهودية اعدوا طريق رسول الرب) وقوله: ("... أجاب يسوع: إن اسم المسيح (ماسيّا) عجيب... إن اسمه المبارَك: محمد. حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: يا الله أرسل لنا رسولك. يا محمد، تعال سريعاً لخلاص العالم" ) أو قوله لبرنابا: (: فاعلم يا برنابا انه لاجل هذا يجب علي التحفظ وسيبيعني احد تلاميذي بثلاثين قطعة نقود . وعليه فاني على يقين ما ان من يبيعني يقتل باسمي . لان الله سيصعدني من الارض ، وسيغير منظر الخائن حتى يظنه كل واحد اياي . ومع ذلك فانه لما يموت شر ميتة ، امكث في ذلك العار زماناً طويلاً في العالم . ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة) أو قوله: (لما انتصب آدم على قدميه رأى في الهواء كتابة تتألق كالشمس، نصها: "لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله"، وكذلك كتب الله على ظفر إبهام يد آدم اليمنى: "لا إله إلاّ الله"، وعلى ظفر إبهام اليد اليسرى: "محمد رسول الله". وعند خروج آدم من الجنّة رأى فوق بابها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله")
هل يمكن يا أستاذنا أن تذكروا لنا كيف وردت هذه النصوص في ترجمتكم
. أكرر شكري وامتناني وإكباري لما بذلتموه من جهود ثمينة في إعادة ترجمة هذا الأثر المحير كما قالت الأستاذة ضياء خانم
بين يدي كتاب في "الطريق إلى مكة" للمرحوم محمد أسد، ترجمة د رفعت السيد علي، منشورات مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض، 1424هـ تفاجأت جدا بالمعلومات التي يزخر بها الكتاب، وودت لو أنه منشور في أحد المواقع ليطلع عليه أصدقاؤنا ، ويشتمل أيضا على صور طريفة ونادرة لأهم الشخصيات التي التقاها أو اتصلت به، ومنها طبعا صورة زوجته العربية منيرة وابنه (طلال) (ص 94) ولا أدري هل تصرف المترجم بحذف أسماء من التقاهم المؤلف في دمشق، أم أن المؤلف أعفى نفسه من ذكر أسماء أصدقائه في دمشق التي تكبد أصعب المشاق لزيارتها عام 1923م بجواز سفر مزور، ثم زارها أيضا بعد عام مبعوثا من قبل جريدة (فرانكفوتر ذيتونج) التي كان يعمل مراسلا لها وأصدرت الجريدة في غيابه نص رحلته بعنوان (رحلة غير حالمة إلى أرض الأحلام). ولم يكن قد اعتنق الإسلام في ذلك التاريخ،.. وقد اخترت هذه المقتطفات من كلامه عن زيارته الأولى لدمشق، ولا أدري هل الأستاذ أحمد إيبش يعرف البيت الذي سيرد ذكره في النص قال ص191 (ذهبت مع صديقي ومضيفي إلى الجامع الأموي يوم الجمعة... الأعمدة الرخامية التي تعلوها قبة عظيمة كانت تلمع تحت ضوء الشمس الساقط من النوافذ ... اصطف مئات المصلين في صفوف طويلة منتظمة خلف الإمام، ركعوا سجدوا، مسوا الأرض بجباههم ثم نهضوا من جديد، كلهم في توحد مثل الجنود ... أدركت في تلك اللحظة مدى قرب الله منهم وقربهم منه ،بدا لي أن صلاتهم لا تنفصل عن حياتهم اليومية بل كانت جزءا منها، ولا تعينهم على نسيان الحياة بل تعمقها أكثر ...
(ص194: دعاني صديقي ذات مساء لمصاحبته إلى الاحتفال في منزل أحد أصدقائه الأثرياء من أهل دمشق بمناسبة مولد ابن له.. سرنا عبر شوارع متعرجة في المدينة القديمة، كانت حارات ضيقة، حتى إن الشرفات توشك أن تتلامس توقف صديقي في النهاية أمام باب لا يتميز من غيره من الأبواب، كان الباب في منتصف سور من الطين المكسو بالجص، ودق بقبضته الباب المغلق، فتح الباب وأصدر صريرا، وجدنا أمامنا رجلا طاعنا في السن يرحب بنا بفم خلا من الأسنان (أهلا أهلا وسهلا) مضينا عبر ردهة قصية دارت بنا مرتين بزاوية قائمة أفضت بنا في النهاية إلى فناء ذلك المنزل الذي لا يشي مظهره الخارجي بأكثر من سور طيني مدهون بالجص.. كان الفناء واسعا ومكشوفا، أرضه مصممة وكانها رقعة شطرنج، هائلة الاتساع بمربعات من الرخام الأبيض والأسود، وفي المنطقة المنخفضة كان هناك حوض نافورة (بحرة) من الحجر ثماني الأضلاع، من منتصفها يخرج ماء النافورة موسوسا رقراقا. وفي مربعات بين رخام الأرضية نمت أشجار الليمون والدفلى تنشر أريج أزهارها عبر الفناء بأجمعه إلى داخل المنزل. أما جدران المنزل التي تحيط بالفناء فقد غطتها من الأرض حتى قمتها نقوش من الرخام دقيقة الصنعة رقيقة الجمال، في أشكال هندسية عربية متداخلة لا يقطعها إلا نوافذ الغرف التي تطل على الفناء ويؤطرها رخام عريض محزم بأشكال بديعة الصنعة.. وعلى أحد جوانب الفناء كان هناك فراغ على ارتفاع ثلاث أقدام من الأرض ترتقي إليه بدرج عريض من الرخام، وعلى جوانب هذا الفراغ (ويسمى ليوان) صنعت أرائك مقصبة، بينما فرشت أرضه بأبسطة ثمينة. كانت جدران الليوان مغطاة بمرايا ضخمة، يصل ارتفاعها إلى خمس عشرة قدما.. وكان الفناء بأشجاره ورخامه وازياء ضيوفه المجتمعين حول النافورة تضاعف كله خلال مرايا الليوان، وحين تنظر إلى المرايا التي تقابلها ينعكس المشهد مئات المرات بلا نهاية ... مساء يشبه الحلم يتألق تحت سماء المساء ... ص 195 أجلسني صاحب الدار إلى يمينه على الأريكة ودار خادم حافي القدمين بأقداح صغيرة من القهوة مصفوفة على صينية من نحاس ...واختلط الدخان المتصاعد من النراجيل برائحة ماء الورد بالليوان، وارتفع في موجات تجاه الفوانيس الزجاجية التي كانت تضاء واحدا بعد الآخر على امتداد الجدران وبين الخضرة الدكناء للأشجار .. كان جمع الضيوف وكلهم رجال في أزياء متنباينة... رجال في قفاطين من الحرير الدمشقي أو الصيني الخالص بلون العاج، عليها جبة من الصوف بألوان خفيفة متداخلة، وعمامات ذات حواف مذهبة، تحكم وضع الطربوش على الرأس، وبعضهم بملابس أوربية إلا أنهم كانوا يجلسون متربعين على الأرائك، وبعض زعماء البدو بشكله المعتاد: عيون سوداء تلمع ببريق يشي بالعظمة، ولحى صغيرة جول وجوه نحيلة دكناء... ملابسهم الجديدة تصدر حفيفا مع كل حركة، ويحملون جميعا سيوفا في أغماد فضية. كان جميع الضيوف مسترخين في دعة واطمئنان عميق. أرستقراطية حقيقية. كان يحيط بالجميع جو طيب، طقس جاف وصاف يحيط بهم ببساطة ولا يقتحمهم، بدوا مثل أصدقاء متباعدين، مثل مارين بمكان: حياتهم الحرة الخالية تنتظرهم في مكان آخر غير هذا. ودخلت فتاة راقصة من أحد الأبواب، صعدت الدرج حتى الليوان، كانت في مقتبل شبابها، ولا تتجاوز العشرين من عمرها، ذات جمال طاغ، ترتدي سروالا فضفاضا من الحرير الشفاف، وله ثنيات، وزوج من الأخفاف الذهبية بقدميها، وصدرية موشاة بما يشبه اللؤلؤ، ولا تستر جسمها، كانت تتحرك بإحساس من العظمة يحسه من اعتاد أن يكون موضع إعجاب، سرت همسات الاستحسان والسرور بين الرجال عند رؤيتهم فتاة تنبض بالحيوية والشباب، وبشرتها المشدودة في لون العاج. رقصت بمصاحبة ضابط إيقاع دخل في إثرها رقصة تقليدية تموج بالإيماءات البدنية الموحية، وهو رقص يلقى إقبالا في الشرق، رقص يثير كوامن الرغبات، همس صديقي وهو ينظر باتجاهها "ما أجملك، ما أروعك" ثم ضرب بكفه على ركبتي بخفة وقال: "أليست كالكف الحانية على الجرح" وكما ظهرت بسرعة اختفت بسرعة، لم يتبق منها إلا بريق خافت في أعين الرجال، واحتل مكانها على البساط في الليوان أربعة موسيقيين، بعضهم من أفضل العازفين في سورية كما أخبرني أحد الضيوف. كان يحمل واحد منهم عودا طويل العنق، وآخر كان يحمل طبلة، والثالث يحمل آلة القانون الوترية، وكان الرابع يحمل طبلة نحاسية مصرية. بدأوا في شد الأوتار ونقر الطبول برقة، كل واحد منهم على آلته دون توافق، كل منهم يضبط آلته وإيقاعها قبل أن يبدأ العزف في إيقاع متناغم...جر صاحب القانون أصابعه على الأوتار؛ أما حامل الطبلة النحاسية فقد كان ينقر عليها بأصابعه ويتوقف برهة ثم يعاود النقر؛ وعازف العود راح يجرب أوتاره كأنه شارد الذهن في تتابع سريع. نغمات أوتار بدت كأنها تتوافق بالمصادفة مع إيقاع الطبلة ثم نغمات القانون.. وقبل أن تعي تماما ما يحدث يبدأ اللحن الجماعي يربط العازفين الأربعة معا في لحن متناغم واحد ؛ لحن ! لا أستطيع أن أقول لحن ؟ فقد بدا لي أنني أستمع إلى أداء موسيقي بقدر ما أشاهد حدثا مثيرا... فعدا النغمات الصادرة عن الآلات الوترية نما إيقاع جديد يرتفع في دوامات حادة، ثم فجأة يهبط ويتخافت مثل إيقاع ارتفاع أداة معدنية وانخفاضها... أسرع ثم أبطأ ، أرق ثم أشد ؛ ثم في هدوء ودوام تنويعات لا نهائية... نغم يشي بالدوام ... صوت يرتجف في خمول ينمو ، ثم ينتشر بقوة، فيقتحم العقل، ثم فجأة وبعد أن يصل إلى قمة عالية من التناغم ينتهي ويسود صمت... أحسست أني وقعت في هوى تلك الموسيقى... شدتني النغمات التي كانت أحادية؛ وإيقاعها يستدعي إلى ذهني رتابة وقوع الظواهر الأبدية وتكرارها في هذا الوجود، وتدق أبواب المشاعر الدفينة، وتستل منها خطوة بعد خطوة كل ما يموج داخلها دون أن نعيه ... تعري أمامنا أشياء كانت داخلنا على الدوام، وتجعلها واضحة حميمة، وحارة صادقة تدفع قلبك إلى الخفقان. لقد اعتدت بالطبع الموسيقى الغربية التي تتدفق فيها كل انفعالات المؤدي في أداء فردي يعكس على المستمع حالته المزاجية، إلا أن تلك الموسيقى العربية تبدو كأنها تتدفق من مستوى ما في اللاوعي، من توتر واحد إلا أنه ليس إلا توتر يمثل مشاعر شخصية لدى كل مستمع على حدة... بعد ثوان من الصمت تدفقت إيقاعات الطبلة النحاسية من جديد، ثم تبعتها كل الآلات معا ... نغمات راقصة رقيقة، لحن أنثوي أرق من سابقه.. وراح المغنون يضبطون أصواتهم في إيقاع واحد، يحتضن كل صوت الآخر بدفء ونعومة، ثم كأنها اتحدت معا في دفقة واحدة، زادت بهجة وابتهاجا... كانت الأصوات يلاحق بعضها بعضا، ويتدفق بعضها حول بعض، في موجات ناعمة، تتصادم في البداية مرة بعد أخرى مع إيقاع الطبلة النحاسية الذي يبدو كحاجز تتصادم عنده الأصوات... تصاعدت فغلبت ذلك الحاجز وقهرته وسيرته طبقا لإيقاعها وجرته إلى إيقاع عام حلزوني متصاعد. أما الطبلة النحاسية التي قاومت في البداية فسرعان ما سقطت فريسة للطرب العام المتصاعد من الأصوات المنشدة التي اتحدت في نشوة بعضها مع بعض، وفقد لحن البداية المتماوج رقته النسائية وراح يعدو بعنف متزايد، أسرع، وأعلى وأكثر حدة، إلى غضب بارد من عاطفة واعية تخلصت من كل الكوابح، وتحولت إلى تصاعد متسق إلى قمم غير مرئية من القوة والامتلاك.... ومن تدفق النغمات الدائرة بعضها حول بعض انبثق تناوب عظيم من اتساق النغمات... اندفاع عجلات مندفعة من ديمومة إلى ديمومة، دون قياس ولا حدود ولا هدف، مبهورة النفس، كالسير مقيد على حد سكين، عبر حاضر المرء الأبدي إلى وعي بالحرية والقوة فوق كل فكر. وفجأة في منتصف تدفق حميم توقف مباغت وصمت مطلق، قاس ، أمين، ونقي... استعاد المستمعون أنفاسهم مثل خشخشة أوراق الشجر وهمسات تسري: (الله الله) كانوا مثل أطفال حكماء عقلاء، يلعبون ألعابا طالما حفظوها عن ظهر قلب إلا انها ما زالت تغريهم بلعبها، كان كل من بالفناء يبتسم في سرور وبهجة.
في بدايات صيف 1924 انطلقت من القاهرة في جولة طويلة خططت لها أن تدوم عامين، مررت بمناطق عريقة في تقاليدها، تركت تأثيرا واضحا في تفكيري. زرت بعدها شرق الأردن مرة أخرى، وقضيت بعض الأيام مع الأمير عبد الله مستمتعا بأصالة الطبيعة البدوية التي لم تكن قد تأثرت بعد بأنماط الحياة الغربية، وحصلت على تأشيرة فرنسية بجهود جريدة "فرانكفوتر ذيتونج" ودخلت سورية مرة أخرى. جاءت دمشق ومضت، واحتضنتني الحياة الشرقية في بيروت بعض الوقت، ومنها توجهت إلى مدينة طرابلس التي كانت تتبع سورية في ذلك الوقت. كانت مدينة خارج نطاق الأحداث، وتحيا حياة سعيدة هادئة أقرب إلى النعاس. كانت القوارب الشراعية البسيطة ترسو في الميناء المفتوح، وأشرعتها اللاتينية تتماوج وتئن من وهن، وأبناء المدينة يقضون أوقاتهم بالجلوس على مقاعد منخفضة أمام المقاهي في مواجهة الميناء، يتناولون في استراخاء أقداح القهوة ذات الرائحة النفاذة، ويدخنون الأراجيل في الأمسيات تحت أشعة الشمس في وقت الأصيل، لا تجد في أنحائها إلا الهدوء والسلام والرضا مع توفر الرزق. حتى المتسولون بدوا كأنهم يستمتعون في أوقات المغيب، كأنهم يقولون في سريرتهم: ما اجمل أن تكون شحاذا في طرابلس (الطريق إلى مكة: ترجمة د رفعت السيد علي: نشرة مكتبة الملك عبد العزيز: ص 281)
هذا النص متصل تماما بالنص السابق المتعلق بزيارته طرابلس، قال (ص 281): (وصلت إلى مدينة حلب. ذكرتني شوارعها ومبانيها بمدينة القدس: مبان حجرية قديمة كأنها نبتت من الأرض، ذات ممرات مظلمة مسقوفة، وميادين هادئة صامتة، ونوافذ منحوتة. أما قلب حلب فقد كان يختلف تماما عن القدس، فالجو السائد في القدس يسوده صراع التيارات الدولية، وكانت تلك الصراعات مثل التقلص العضلي المؤلم الشديد التعقيد، يعكس هو الأخير تعقيدات المواقف الدولية، وولدت المعتقدات الدينية المتباينة سحابة من سموم الكراهية على ساكنيها. أما حلب فعلى الرغم من أنها كانت خليطا من البدو العرب والشرقيين، مع مسحة تركية لقربها منها فقد كانت متآلفة وهادئة وصافية، والمنازل الحجرية بشرفاتها الخشبية تبدو حية حتى في صمتها. كان سوقها القديم يتميز بالصناعات اليدوية الشرقية الدقيقة، وأحواشها ذات العقود الحجرية المملوءة بصنوف البضائع وتنافس مرح بين تجارها الخالين من أنواع الحسد والضغينة: الكل متمهل، ارتخاء وراحة تحتضن حتى الغريب وتجعله يتمنى أن تكون حياته كلها بتلك الراحة والاسترخاء؛ عتاصر كثيرة تجتمع في حلب تتدفق معا لتؤلف لحنا قويا رائعا. توجهت بالسيارة من حلب إلى مدينة دير الزور وهي مدينة صغيرة بأقصى شمال سورية، ونويت ان أتوجه منها إلى بغداد عبر طريق التجارة القديم المجاور لنهر الفرات.
كان الشارع التجاري يمتد من بداية مدينة دير الزور حتى نهايتها، وكان يعد شكلا غير رسمي من أشكال التقسيم، يفصل بين الجزء الحضري السوري وبين القسم البدوي. ومع أن المدينة بأجمعها كانت أقرب إلى الطابع البدوي في أحد المحلات الحديثة كانت توجد البطاقات التذكارية بطباعة بدائية، وفيما يليه تجد بعض البدو واقفين يتناقشون في أحوال سقوط الأمطار على الصحراء، وعن النزاع الذي نشب ين قبيلة بشر "عنزة" السورية وقبائل "شمر" العراقية: وراح أحدهم يحكي عن الغارة التي شنها زعيم بدو نجد "فيصل الدويش" على جنوب العراق، كما ورد على لسانهم اسم رجل الجزيرة العربية العظيم عبد العزيز آل سعود. كانت المتاجر تعرض بنادق قديمة ذات مواسير طويلة ومقابض مزينة بالفضة ذات طراز قديم لم يعد أحد يشتريها الآن، لأن البنادق الحديثة الآلية أصبحت أكثر فعالية.. ومحلات أخرى تعرض أزياء رسمية مستعملة من أرجاء القارات الثلاث، ورجال جمال من نجد، وإطارات سيارات ماركة "جوديير" ومصابيح عواصف من "لايبزج" وعباءات بدوية منسوجة من الصوف. لم تبد البضائع الغربية دخيلة بين الأنواع والأصناف الأخرى، كانت فوائدها العملية تعطيها شرعية وجودها. كان البدو بوعيهم العملي يعتادون بسرعة تلك السلع الجديدة وكأنها من إبداعهم، لم اكن أدرك تماما حتى ذلك الوقت ما يمك أن تسببه "الحداثة" الغربية لأولئك الناس البسطاء الأميين