الصادق المهدي
منذ أخذ البيعة ليزيد بن معاوية عنوة تأسس الاستبداد في تاريخ الأمة وصار له قبول خشية الفتنة كما قال ابن حجر العسقلانى: ?وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه?. ومنذ القرن الرابع الهجري استحكم التقليد مكرساً ركوداً فكرياً رغم تحذير أئمة الاجتهاد من مضاره وما قاله عنه ابن الجوزى: ?إن في التقليد إبطالاً لمنفعة العقل. لأنه إنما خلق للتدبر والتأمل. وقبيح من أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلام?.
الاستبداد والركود الفكري سببا التراكم الظلامي الذي قعد بالأمة وأورثها الحالة التي وصفها مالك بن نبي: حالة القابلية للاستعمار.
الاستعمار جاء بمفاسد استمر بعضها بعد رحيله في شكل تحالف منافع بين الهيمنة الدولية والطغاة. ما اتسمت به الحضارة الأوروبية من توقد فكري وثقافي وحرية وتقدم تكنولوجي بهر الصفوة التي قارنت بين هذه الحيوية الأوروبية والركود المخيم على مجتمعات الشرق فكرهت الذات وأعجبت بالوافد.
رواد الاستنارة في الشرق جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي رفعوا رايات الإصلاح ولكن الكواكبي امتاز بكشف الحجب عن طبائع الاستبداد والتركيز على ضرورة الديمقراطية مسجلاً رأيه في كتابيه المنشورين: أم القرى وطبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. كلمات حق في وجه سلطان جائر دفع حياته ثمناً لها ومات مسموماً.
تجربة النظم الليبرالية التي شهدتها المنطقة واجهت مشاكل كثيرة ثم عصفت بها الحركات الانقلابية رافعة شعارات قومية، اشتراكية، وإسلاموية. وتبنت برامج عدالية، وإسلامية وقومية. وطبقتها على حساب الديمقراطية فانتهى بها الأمر لنظم حكم مستمدة من الفاشستية الحديثة ومن التطبيق البيروقراطي للماركسية واحتلت مواقعها الى جانب نظم الاستبداد التقليدية.
تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول الصادر في عام 2002م، قدم تشخيصاً للحالة العربية ناقداً الاستبداد وقرينه الفساد ومشترطاً الحكم الراشد القائم على المشاركة، الشفافية، والمساءلة وسيادة حكم القانون أساساً للتنمية الإنسانية في المنطقة. هذا التقرير جاء معززاً لمبادرات حقوق الإنسان والتطلع الديموقراطي التي عمت المنطقة العربية وصارت تشكل مطلباً عاماً أعطاه التقرير الأول والتقارير السنوية اللاحقة دعماً قوياً. وفي عام 2004م عقدت طائفة من المؤتمرات الهامة للإصلاح السياسي في الإسكندرية، وصنعاء، وبيروت، كانت وثيقة بيروت بعنوان الاستقلال الثاني التعبير الأكثر وضوحاً وتفصيلاً لمطالب الإصلاح الديمقراطي العربي.
ومنذ حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001م في أميركا اتخذت الولايات المتحدة خطين هما: شن حرب أممية على (الإرهاب) وتبني الإصلاح الديمقراطي في البلدان العربية.
مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تبنته الدول الكبرى الثماني عاثر لسببين:
* أنه يطبع العلاقة بين دول الشرق الأوسط دون أن تدفع إسرائيل استحقاقات السلام العادل.
* أنه يقيد حركة الإصلاح بالسقوف التي تسمح بها الدول العربية كما أودى بمصداقية المبادرت الأميركية التضحية بحقوق الإنسان والقانون الدولي في الحرب على (الإرهاب).
الديمقراطيون في المنطقة انتقلوا من صياغة الأهداف الى تنسيق وتشبيك الأنشطة من أجل تحقيقها. وفي عام 2005م كونت في الدار البيضاء شبكة الديمقراطيين العرب. وفي عام 2006م كون في عمان المنتدى العالمي للوسطية الإسلامية متضمنا أهدافاً ديمقراطية. وفي عمان في منتصف يونيو الجاري اجتمعنا كخبراء من معظم الدول العربية واخترنا مجلس أمناء لمركز نسبناه لاسم الكواكبي باعتباره رائد الرفض للاستبداد: (مركز الكواكبي للتحول الديمقراطي). كتبنا وثيقة للمركز واخترنا مجلس أمناء لتنفيذها.
نصت الوثيقة على أهداف ووسائل المركز وحددت أولوياته: تحديد حاجيات الدول العربية للتحول الديمقراطي وقياس حركتها في سلم الديمقراطية، تحديد وسائل العدالة الانتقالية، دراسة العوائق السياسية والثقافية أمام التحول الديمقراطي، دراسة مشاكل الأقليات، والتنمية والعدالة الاجتماعية التي تدخل مع التحول الديمقراطي في منظومة التنمية، أهمية مراقبة الانتخابات وشروط نزاهتها، ربط عرب المهجر بالوطن الأم، تنظيم دورات تدريبية للقيام بالأنشطة المختلفة، دراسة فكر الكواكبي، الاستفادة من تجارب التحول الديمقراطي في العالم وترجمة الكتب المتعلقة به، دراسة وسائل فض المنازعات سلمياً، والتعاون مع الجهات ذات الأهداف المماثلة عربياً ودولياً.
بعد التجارب المرّة التي خاضتها الأمة اتضح للنخب الفكرية والسياسية محورية مطلبين هما الحرية واستقلال الإرادة الوطنية.
على الصعيد الفكري لم يعد نفي الإسلام من الحياة العامة ممكناً كما بدا لبعض العلمانيين. لقد ثبتت فاعلية الإسلام في التصدي للاحتلال الأجنبي، واتضح رسوخه في الإرادة الشعبية حتى لدى أكثر التجارب علمانيةً. التجربة التركية. ولكنه إسلام صحوي يستصحب الديمقراطية، وحرية البحث العلمي، والتعايش مع الأديان الأخرى، وبناء العلاقات الدولية على السلام العادل والتعاون.
لم يعد نفي التحديث وارداً، فكل البلدان التي حجبت نفسها عن العالم اضطرت للانفتاح عليه. لقد تأكد للكافة أهمية التنمية لتحقيق الكفاية والعدالة وتوازن البيئة وتوفير إمكانيات حفظ الأمن، والدفاع.
تحلقت النخب العربية في الغالب حول هذه الأهداف وبدا واضحاً أنها هي البديل الصحيح للآفات الثلاث المحيطة بالمنطقة وهي:
* الواقع الرسمي العاجز.
* أجندة الغلاة المنكفئة.
* أجندة الغزاة المذلة.
هذه الرؤى تشكل مشروعاً نهضوياً ومع قوة حجته فإنه مازال في فلك النخب ولا يقوى على مواجهة السلطان الرسمي وأجهزته الأمنية والإعلامية القوية، ولا على مواجهة هيمنة الغزاة وإمكاناتها الهائلة، ولا منازلة أجندة الغلاة وشبكاتها الفاعلة. لذلك سوف يبقى المشروع نخبوياً ما لم تصطف خلفه قوى اجتماعية قوية ذات مصلحة في إزالة الاستبداد والفساد، وفي التحرر من الهيمنة الأجنبية وفي إنقاذ مستقبل الأمة من طالبانية أممية. حجة الإصلاح الديمقراطي ضمن المشروع القومي النهضوي قوية، والحاجة إليه الآن حيوية، ومفرداته ومواثيقه بعد قرن ونيف من أذان الكواكبي له واضحة المعالم، والظروف الداخلية والخارجية لنجاحه مؤاتية، فبصرف النظر عن عثرات مشروع الشرق الأوسط الكبير توجد منابر وهيئات عالمية غير حكومية ذات صدقية عالية في دعم التحول الديمقراطي في كل مكان. ومع ذلك فإن القيادات والقوى الاجتماعية التي سوف تصطف وتعمل لنقل المشروع من القول للفعل لم تبرز بعد وإن كانت بعض معالمها في بعض البلدان قد أطلت برأسها بدرجات متفاوته. ليهنأ الكواكبي في عليين أنّ قتله لم يقتل فكره. إن القتل الحسي لداعية الحق يكفل لصاحبه خلوداً معنوياً في دنيا الناس. أما الآخرة فأمرها عند ربي.
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة السجدة الآية (17
مقالة ممتازة تقول رأيا ،قد نتفق أو نختلف ،وعلى كل ، أعجبتنى المقالة ،وأحببت أن يقرأها معى شموس الوراق ، فأنا مع الحرية والحرية هى الحل والحرية أولا وأخيرا0
عبدالرؤوف النويهى |