التصوف (8)     ( من قبل 3 أعضاء ) قيّم
وثَالثاً، فإنَّ الغَربيِّينَ، وتَحتَ ضَغْطِ المادَّةِ الجاثِم، قَد بَحثُوا عَن خَلاصٍ أَو دَواءٍ يَنجُو بأَرواحِهِم التي باتَتْ بجَنْبِ المادَّةِ المَعرُوشَةِ خَاوِيةً علَى عُروشِها، فتَنادَوا مُصبِحينَ: أَنِ اغْدُوا علَى أَرواحِكُمْ مُنعِشينَ، فَوَجَدُوا في الصُّوفيَّةِ طَلِبَتَهُم، ووَقعُوا منهَا علَى الدَّواءِ الذي يُزكِّي القَلْبَ ويُطهِّرُ السِّرَّ ويَصِلُ بالحيِّ القيُّومِ ويُحرِّرُ الأَرواحَ مِن أَصفَادِ المادَّةِ النَّاهِكَةِ، ومَا إلَى ذلِكَ مِن خَواصٍّ ارتقائِيَّةٍ، فهَلْ مِن مُدَّكِر؟. وأَخيراً، فإنَّ التَّصوُّفَ قَد أَعطَى المَرأةَ حقَّها الذي يُريدُهُ لَها الغَربُ المتطوِّرُ، ومنحَها الوَضعَ الأَكثرَ مُناسَبةً لَها في تِلكَ البلادِ، ولهذَا قالَت الباحثَةُ الأَلمانيَّةُ أَنّيماري شيمِل (ت:2003م): "إنَّ التَّصوُّفَ كانَ أكثرَ تَأييداً لتَطوُّرِ النَّشاطَاتِ الأُنثَويَّةِ ممَّا كانَتْ علَيهِ أَفْرُعُ الإسلامِ الأُخَر". وإِذا مَا رُحْتَ تَحكي حكايةَ رَبائِبِ التَّصوُّفِ منَ الشَّخصيَّاتِ النِّسائيِّةِ فسَيُعييكَ الحصرُ لكَثرَتِهِنَّ، فمِنْ نَفيسَةِ العلُومِ، إلَى رابعةَ العدَويَّةِ، ومِن مَرْيمَ البَصريَّةَ إلى رَيحانةَ الوالِهَة، ومِن فاطِمةَ النَّيسابُوريَّةِ إلى فاطِمةَ القُرطبيَّة، ونظَائِرُهُنَّ كُثُر، حتَّى لَقَد قالَ ابنُ عربيٍّ عَن المَرأةِ عامَّةً أَو نَوعاً: (إنَّها مَجْلَى الكمالِ الإِلهيِّ أكثرَ مِن الرَّجُل)، بَلْ لَم يتَحرَّز منَ القَولِ بإمكانِ أَن تَكُونَ المرأةُ بينَ الأَبدالِ والأَقطابِ في هرَميَّةِ الأَولياءِ، ولَم تكُن أَمثالُ تلكَ الأَحوالِ والأَفكارِ قَصْراً علَى فئةٍ منَ المتصوِّفةِ دُونَ أُخرَى، بلْ كانَتْ دَيْدَنَ الجميعِ حيثُما وُجِدُوا؛ مِنَ المَشرِقِ إلَى المَغرِبِ، ومنَ الشَّمالِ إلى الجَنُوبِ. واللَّافِتُ للنَّظَرِ أنَّ لِربائبِ التَّصوُّفِ استِمراراً وحضُوراً في العَصرِ الحديثِ أَيضَاً، ولا يَزالُ شأنُ (الشَّيخاتِ) أَو المُوجِّهاتِ في فَاعليَّةٍ وتنامٍ. * ج. التَّصوُّفُ ؛ هَل هُو الحلُّ للأَزَماتِ ( العَوْلَمةِ ) الإِنْسَانيَّة: لا أُرانِي مُبالِغاً إذا قُلتُ ابتِداءً: إِنِّي وَجدتُّ في التَّصوُّفِ حلَّاً لأَزَماتي النَّفسيَّة، ومَا أَزَماتي -في طبيعَتِها- إلَّا تَقطيرٌ لِغَمامِ أَزَماتِ عالَمٍ أَعيشُهُ وأُحِسُّه، فتَتهاوَى تلكَ الأَزماتُ كِسَفاً في وعَاءاتِ عَقلي وقَلبي وجَوارِحي. وبعدَ ذلِكَ، إنْ أَنا أَو أَنتَ سأَلْنا العالَم اليَومَ عَن أَزماتِه بَادرَنا بِعَدِّها دِراكاً: العُنفُ، والإِرهابُ، والبَطَرُ، والأَثَرةُ، والبَغضاءُ، وطُغيانُ المادَّةِ، والتَّفحُّشُ، والجِنْسُ، والعُجْبُ، والكِبْرُ...، ويكادُ لا ينتَهي. فَبماذا نُجيبُه؟ وجَوابِي الذي أَرتَضيهِ: إنَّ التَّصوُّفَ في أَوْلَى وَظائفِه لا يَعدُو أَن يَتناولَ أَجناسَ هذِه الصِّفاتِ والأَحوالِ المَريضَةِ، ليَأْتيَ علَيها بالعافِيَة والإِبراءِ، فيَمحُوَهَا مِن القَاموسِ الإنسانيِّ مَحواً تامَّاً، في مُستَوَياتِ الفِكرِ والعمَلِ والسُّلوكِ جميعاً، يَفْعَلُ هذَا باسمِ (التَّخلِيَة)؛ يُخلِّي النَّفسَ الإنسانيَّةَ والمُجتَمَعَ الإنسانيَّ مِن تلكَ الصِّفاتِ المَريضَةِ المُتخلِّفَةِ ليُحلَّ محلَّها -في خُطوةٍ تَالِيةٍ- صِفاتِ الصحَّةِ والحضَارَةِ مِن: تَسامُحٍ، وطُمَأنينَةٍ، وأَمنٍ، وزُهْدٍ، وإيثارٍ، وعلاقاتٍ متَوازِنَةٍ في كلِّ مجالٍ، يفعَلُ هذَا باسمِ (التَّحلِيَة)، فالتَّصوُّفُ إذاً: تَخلِيةٌ وتَحلِيةٌ، فأَخلِق بهِ حلَّاً جديراً بالتَّبنِّي والاعتبارِ، ولاسيَّما أَنَّهُ يُؤسِّسُ ما يُؤسِّسُ مِن سُلُوكاتٍ وصِفَاتٍ علَى قاعدةٍ مِن عِرفانٍ شفَّافٍ ويَقينيٍّ. أَجَلْ، التَّصوُّفُ هُو الحلُّ الذي ليسَ منهُ بدٌّ أَو بَديلٌ، ودَعني مِن تَصوُّفٍ فاسدٍ أَو مُدَّعًى أَو خَمولٍ أَو كَسُولٍ أَو جَهولٍ، فأَنا لا أَبغيهِ مُدافِعاً عنهُ، بل الذي أَعنيهِ وأَحفَلُ بهِ في قَصدٍ وعنايَةٍ هُو الذي يُحاكِي ما أَورَدناهُ مِن تَعريفاتٍ في مُستَهَلِّ بَحثِنا، وهوَ الذي يتناسَبُ حَالاً وقَالاً وسلُوكاً معَ تلكَ الشَّخصيَّاتِ المُؤسِّسَةِ التي عَرَّجْنا علَى ذكرِ بَعضِها، وهوَ الذي يَقْبلُ -بعدَ ذلِكَ- أَن يكونَ استِمراراً صالِحاً يُجانِسُ سَيرُورةَ التَّصوُّفِ التي أَشَدْنا بهَا ونوَّهنا بِتأثيراتِها الإيجابيَّةِ غَرباً وشَرقاً. التَّصوُّفُ المَنشُودُ -يا ناسُ- هُوَ: راحةُ الأَجسامِ في قلَّةِ الطَّعامِ، وراحةُ النَّفسِ في قلَّة الآثامِ، وراحةُ القلبِ في قلَّةِ الاغتمامِ؛ الاغتمامِ اللَّافِتِ عَن التَّفكيرِ والتَّفكُّر، وراحةُ اللِّسانِ في قلَّةِ الكلامِ. التَّصوُّفُ: أَن تُحِبَّ اللهَ فيدفعَكَ هذا الحبُّ إلى تَحسينِ عَملِكَ، وتَسديدِ قَولِكَ، وتَحريرِ نيَّتكَ؛ أَن تكونَ مُوجَّهةً لغَيرِ الله. التَّصوُّف: تَخلُّقٌ بأَخلاقٍ حسَنَةٍ؛ تَبتدِىءُ بالإخلاصِ، وتَمرُّ بِكفِّ الأَذى وكَسْبِ الحلالِ، وتَؤولُ إلى احتمالِ الأَذى والمُواجهَةِ بِالإنصافِ والحِلْمِ والكَرَمِ. التَّصوُّف: انتِقالٌ مِنَ الشَّكِّ إلى اليَقينِ، ومِنَ التَّردُّدِ إلى العَزْمِ، ومِنَ التَّكبُّرِ إلى التَّواضُع، ومِنَ العَداوةِ إلى المحبَّة، ومِنَ الضِّيقِ إلى السَّعَة، ومِنَ الطَّمعِ إلى القَناعةِ، ومِن سَفاسِفِ الأُمورِ إلَى المَعالِي. التَّصوُّفُ: مُجاهَدَةُ الهوَى، وكَبْحُ جماحِ دَاعي الشَّهَواتِ، واحترازٌ شَديدٌ عَن الاتِّهام، والخطأُ في تَركِ أَلفِ كافرٍ في الحياةِ أَهْوَنُ مِن الخطَأ في سَفْكِ دمِ مُسلِمٍ واحدٍ. أمَّا بعضُ التَّصوُّفِ المَرفُوضِ اليومَ فقَد أَمسَى خِرقَةً علَى الجسَدِ بعدَ أَن كانَ حُرقةً في القَلْبِ، وغَدا اكتِسَاباً بعدَ أَن كانَ احتِسَاباً، وهَاهُو يُرى جَريَاً وراءَ الطَّعامِ والشَّرابِ بعدَ أَن كان قَفْواً واتِّباعاً للآلِ والأَصحابِ..، فَـ﴿ حَسْبُنا اللهُ ونِعمَ الوَكيلِ ﴾ امْتِثالاً للآيةِ الكَريمَة. ورُغمَ هذَا، فكَبيرُ الأَملِ يَحدُوني وأَنا أَقرأُ الآيةَ التي بعدَها، وأُعيدُ قراءَتها: ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ [آل عِمران:174]، علَى أَنَّ واوَ الجماعَةِ شاخِصةٌ في العالَمِ كلِّه، أمَّا النِّعمةُ فهيَ الإسلامُ الحقُّ، يُعلِنُهُ الإنسانُ بكلِّهِ، طواعيةً للهِ، ووَفاءً بعَهدِهِ، وتَصديقاً بوَعدِه. والحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمَينَ ( الدكتور محمود عكام: مفتي حلب، وخطيب الجامع الكبير). |