البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات لمياء بن غربية

 20  21  22  23  24 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
العْجَارْ    كن أول من يقيّم

العجار وتأصله بالمنطقة
 
عرف (العْجَارْ) بمفهومه العامي في المجتمع اللمداني تطورا عبر التاريخ الثقافي للمنطقة التي تعاقبت عليها حضارات مختلفة تركت بصماتها على هذا الموروث الثقافي المادي، فالعائد إلى فجر التاريخ وتحديدا إلى الحقبة البربرية يجد أن المرأة الأمازيغية والتي معناها "المرأة الحرة" لم تتلثم ولم تعرف ما يسمى بـ "العجار" باعتبارها الفلاحة التي تشارك الرجل في حرث الأرض وبذرها وجني الزيتون، كما كانت تخوض المعارك الطاحنة سافرة الوجه، وخاضت غمار الحياة الاجتماعية والسياسية محافظة على زيها التقليدي المعروف إلى يومنا هذا.
ولما دخل الإسلام هذه الديار حث المرأة على ارتداء الحجاب الشرعي الذي يخفي مفاتنها، فالفاتحون العرب تزوجوا بالبربريات المعتنقات الدين الإسلامي أثناء تواجدهم بالمنطقة، وهكذا تحجبت المرأة وأطلق عليها أم البنين وصاحبة الخدر، لمكوثها في البيت، ولم تكن ترتدي العجار سوى المرأة الفائقة الجمال غيرة من الرجل عليها، وفي الغالب كان الخمار يستعمل كنقاب عند مرور المرأة بالرجال في الأزقة والأماكن العامة.
وجاءت الحضارة البربرية الإسلامية في عهد زيري بن مناد وتأسست المملكة الزيرية، فاحتشدت قصورها بالجواري اللاتي جيء بهن من المسيلة وتلمسان، وحدث امتزاج بين الحضارة العربية والبربرية والأندلسية في هذه المملكة المترامية الأطراف، ترك بصماته وأضفى على العجار لمسات جديدة وأشكالا متنوعة. وقد كانت نساء وجواري الأسرة الزيرية يجبن القصر واضعات النقاب الذي كان عبارة عن ستار شفاف ينزل من فوق قبعة الرأس الملفوفة بقماش ينزل مع الكتفين، ويقمن بتغطية وجوههن عند المرور برجال البلاط والحاشية بالقبض على طرفه بأصابعهن وإمالته جانبا عند أعلى الأذن.
ولم تعرف المرأة اللمدانية الستار، وهو عبارة عن قطعة قماش ملساء تغطي الرأس وتنسدل على الوجه، إلا بعد دخول المذهب الشيعي إلى المنطقة وانتشاره فيها قرابة نصف قرن، وهو الشكل الذي ترتديه المرأة الإيرانية الحالية (الشكل1)، ولم يكن الستار مع هذا عاما، فالمرأة البربرية في الجبال بقيت سافرة الوجه، لم تأثر فيها الثقافات الدخيلة.
 
 
والجدير بالذكر أن النزوح الهلالي إلى المنطقة هو الذي رسخ شكل العجار ليصبح عرفا من الأعراف السائدة، فقد فرض الرجل العربي الهلالي على المرأة ارتداءه، ومنذ ذلك العهد تأصل في المنطقة وشاع في المدن والأرياف، ولا زالت آثاره إلى يومنا هذا بالتيتري قبل التقسيم الإداري الحديث، أي في كل من قصر البخاري، أولاد عنتر، أولاد هلال، عين بوسيف (أشير قديما).
وقد لعب العربي الهلالي دورا كبيرا في نشر الإسلام وتعاليمه إلى جانب تعريب المنطقة.
وبمجيء الخلافة العثمانية، دخلت موضة جديدة إلى التيتري حملت معها الثقافة التركية، وهكذا يتأثر المغلوب مرة أخرى بثقافة الغالب، وتعرف المرأة اللمدانية (عجارا) دخيلا أطلق عليه اسم "العَبْرُوقْ" (1)، وهو عبارة عن ستار شفاف مرصع بالنجوم حسب التعبير العامي، تضعه المرأة عند زيارة الأهل والأحباب، وهو يختلف عن الذي تضعه العروس، بكونه ستارا يوضع على الرأس وينزل بقطعة قماش عمودية تبدأ من مؤخرة الجبهة، لتستقر فوق الأنف وتبقى العينان بارزتان، وينسدل على الطبقة السفلى من الوجه ليغطي الصدر (الشكل2).
 
 
ومن الملاحظ أن هذا النوع من العجار ظل سائدا في المجتمع الحضري لتمركز الحاميات التركية بالمدن، أما الأرياف فظلت محافظة على العجار بشكله الهلالي، وبالرغم من سقوط الخلافة العثمانية سياسيا إلا أن بصماتها الثقافية بقيت راسخة في المجتمع اللمداني.
وجاء العصر الحديث ليحمل معه زخما ثقافيا نتيجة تعاقب الحضارات على هذه المنطقة ظهر جليا في اللباس، وها هو العجار يتسم بالتنوع في الأشكال والأنواع والخصوصيات، إذ أن العجار اللمداني الحديث ينقسم إلى أربعة أنوع:
 
الأول هو ما يطلق عليه "عْجَارْ الشْبِيكَة"،(الشكل3)، ويتميّز بـغُرْزَة أي طرز دقيق يتطلب العمل عليه وقتا طويلا وإتقانا، تتفنن فيه اللمدانيات ولا تزال العائلات إلى اليوم محافظة على هذه الصنعة، وهو مخصص للأعراس والمناسبات العائلية، تضعه المرأة الحضرية الشابة والمسنة على حد سواء، وقد كانت العجوز في القديم تضع "بُو عْوِينَة"(2).
 
 
 
أما الثاني فهو "عْجَارْ لبْرُودِي"، نسبة إلى الطرز الذي ينجز عليه (broderie) ، وهو على شكل هرم، حجمه قصير -إلى غاية الذقن-، ولونه أزرق فاتح (3)، وترتديه الشابة (الشكل4)، أما الوردي، فهو مخصص للعروس (الشكل 5) إضافة إلى عجار البرودي المثقوب الذي تمتاز به المرأة الريفية التي لم تطوره أو تحد عنه.
 
 
 
والثالث هو "عْجارْ الشَّعْرَة والكنْتير"، فأما الشعرة فهي عبارة عن خيط ذهبي اللون، وأما الكنتير فهي حبات عدس ذهبية يرصع بها، ولا تملكه (العجار) إلا العروس الثرية، وهو جميل ونادر، وتحفة فنية أتقنتها أياد عبقرية (الشكل 6).
 
 
أما العجار الأكثر استعمالا فهو النوع الرابع والمسمى بـعْجارْ لَكْرُوشي (crochet) (4)، فهو عبارة عن قطعة قماش شفافة مبطنة تسمى بالعامية (لوقاندي) ، تلتصق بها دوائر (الكروشي)، وهو ينسب إلى الأداة التي يتم بها إنجازه (crochet) وتتنوع أشكاله حسب الرغبة، وترتديه المرأة في الأيام العادية (الشكل7).
 
 
أما النقاب الحالي فلا ترتديه إلا فئة تعد على الأصابع(5) ويبقى العجار بأشكاله المختلفة ميزة المرأة اللمدانية، التي لم تطمس هويتها مكائد الاستعمار ولا نكبات الدهر (6). 
 
فاطمة يونسي
مجلة أشير الفصلية/ ديسمبر 2007.      
                                                       بالتصرف
 
قلت:
 (1)  تقول أمي أن العبروق في العاصمة ليس عجارا، وإنما خمار شفاف مطرز بخيوط حريرية ومرصع بالذهب، يوضع فوق "البنيقة" التي تضعها المرأة عند الخروج من الحمام وهي الموضحة في الشكل أسفله. ويضرب بالعبروق المثل في الرقة (رقة القماش) فيقال: رْقِيقْ عَبْرُوقْ.
 
 
(2)  و "بُوعْوِينَة" هو أن تغطى المرأة وجهها بالحَايَكْ الذي تلتحف به بحيث لا يظهر من وجهاها إلا عين واحدة للرؤية، وهذا الأخير (الحايَك) هو قطعة قماش بيضاء كبيرة كانت تلتحف بها المرأة الجزائرية قبل خروجها من البيت والحديث عنه يتطلب تخصيص تعليق له .
 
 
 (3)  تقول أمي أنها لم تر يوما من تضع عجار برودي مطرز بالأزرق وكذلك لا أذكر أني فعلت. ويبقى الوردي خاصا بالعروس كما تقول.
(4)  العجار الأكثر انتشارا هو عجار الشبيكة وليس الكروشي.
(5) والملاحظ في الفترة الأخيرة الانتشار السريع للجلباب والنقاب الشرقي في المدية.
(6)  والنساء اللاتي يضعن العجار اليوم في تناقص مستمر، وهكذا يبدأ هذا التقليد بالتلاشي شيئا فشيئا كما هو الحال بالنسبة لباقي الموروثات بفعل العولمة وعوامل أخرى متعلقة بمواكبة الركب الحضاري وما إلى ذلك، والمحافظات على العجار في يومنا هذا هن في الغالب من جيل الثمانينات وما قبلها، ولا عجب إن اختفى معهن يوما. ويجدر التنبيه إلى أن العجار ليس خاصا بالمدية فقط فهو منتشر في الشمال الجزائري، غير أنه يميز اللباس النسوي اللمداني إلى جانب القَشَّابَة النسوية (وهي عباءة طويلة).
 

28 - يونيو - 2010
المدية ، في مرآة التاريخ
شمعة لأبي العلاء    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

أسعد الله مساء أستاذي بالخيرات،
لم أستطع المرور بملفكم أستاذي من دون إلقاء التحية وشكركم على المختارات الرائعة التي أعادت إلي حديث العلم، وذكرتني بشعر إقبال وأمور أخرى، متمنية أن تعذروا تطفلي، وأما الشمعة فهي لأبي العلاء رحمه الله في قبره، ﴿والله عليم بذات الصدور﴾.
 وكنت تركت لكم تعليقا في صفحة الصور ولكن يبدو أنكم لم تنتبهوا إليه وأن بريدكم معطل أيضا؟
في الأخير، سلامي إلى كل الأساتذة الذين أطلوا علينا في هذا المجلس الطيب.
 

29 - يونيو - 2010
نداء أبي العلاء
مبارك عليـــكم الشهر    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم

تحية عطرة إلى الجميع،
في البداية أحب أن أشكر أستاذنا زهير ظاظا على مبادرته الطيبة للتهنئة بقدوم شهر رمضان الكريم، جعل الله شهر آب عليكم أستاذي بردا وسلاما، وبارك للجميع في شهره الكريم، ولن أنسى طبعا تهنئة أساتذتي سراة الوراق وكل قرائه وزائريه بشهر التوبة والغفران، جعلنا الله فيه من عتقائه من النار وأعاده علينا والأمة الإسلامية بخير.
 
 
 
 
 

10 - أغسطس - 2010
بارك الله لكم في رمضان
من المدية إلى العاصمة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :

 
الخميس 29/07/2010
 
أخيرا خرجنا من البيت متأكدين أننا لم ننس وراءنا شيئا غير النظارات الشمسية التي تركتها بجوار الحاسوب، الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحا، والسماء لا يعكر صفوها إلا غمامات صغيرة متناثرة...كان بإمكاني التمهل قليلا لكتابة الحكاية، وتجاوز كل ما قد يصادفنا في طريقنا من المدية إلى الجزائر العاصمة، لكن وفائي لمدينتي منعني من ذلك. قد لا أجد ما أروي لكم عن هذا السفر الذي سيأخذ منا قرابة ساعتين مع هذا السير البطيء الذي تفرضه علينا شاحنة غاز، فالجبال في مكانها المعتاد، بشموخها وجلالها والسماء المستندة عليها كما السقف على الأعمدة، حين تخرج من المدية، هذه المدينة التي ظلمها أهلها قبل أن تظلمها الأقدار، يستحيل عليك أن لا تلاحظها، خضراء تنبض بالحياة، يصعب علي من عظمتها تصديق أننا سنشق أحدها. لم يعد شيء من هذه المناظر غريبا عني، النافورة التي تقابلنا عند مخرج الولاية يقابلها سور من الأقواس شيد في السنتين الأخيرتين، ثلاثة أقواس هي، يرتفع كل منها عن الأرض حوالي أربعة أمتار، فوق الجانبين تحط حمامتان بيضاوتان بحجم نسر تقريبا، يغريني حجمهما بجعلهما نسرين فعلا، فالحمامات التي تغزو ساحات المدية وقراميد مساكنها أعرفها، صغيرة ككل الحمام، بعضها بيضاء كحمامة السلم والمصالحة الوطنية التي لا تجرؤ على مزاحمة النسور في الجبال، مع أني لست متأكدة من وجود نسور في جبال المدية، كل ما أعرفه أني رأيت فيها خنازير برية يوما، وقردة لا تزال تنزل إلى الطريق لتتناول الخبر اليابس من أيدي المارة، عجيب أمر هذه القردة، هي لا تأكل الموز حين يقدم لها، الموز الذي صار ثمنه في أحد الأيام أرخص من البطاطا، نعم ، أنا لم أنس هذا يا أستاذ زين الدين، حتى البطاطا في الجزائر صار لها شأن وشوارب أيضا...
على بعد بضعة أمتار من النافورة نتوقف قليلا للتزود بالوقود الخالي من الرصاص، ربما علي أن أحدثكم عن السيارة أيضا فلن يكون من العدل إهمالها وذكر النافورة التي تصغرها بثماني عشرة سنة أو أكثر، في مؤخرتها أجلس مع إخوتي الثلاثة، رفقة إلى يساري، يليها حسين توأمها، ثم أخي نوفل الذي بدأ بتلاوة القرآن، أمي في المقعد أمامي، وأبي يسوق بهدوء لا يقطعه إلا بعض التعليقات بين حين وآخر، السيارة من نوع R4.
صرنا الآن في ولاية البليدة، كل الجبال التي كانت محيطة بنا انسحبت إلا بعض الجبال البعيدة وراء ستار من الهواء الملوث، صار واد شفة وراءنا، السد الجديد، والحمدانية بمسجدها الصغير ورائحة الشواء التي لا تنقطع فيها، وبالطبع بيت (عمو لخضر) الذي وافته المنية قبل أن يفي بوعده لنا أن يصحبنا لصعود الجبل، أين يضع صناديق النحل التي يأتينا منها بعسله اللذيذ...رحمك الله يا عمو لخضر.
على الطريق السريع الآن، المدية وراءنا بكل ما فيها ومن فيها، وبوفاريك أمامنا، بأرضها المنبسطة والمشاتل والحقول التي نصادفها على الطريق، على يسارنا حاجز من نوار الدفلة يفصلنا عن السيارات الآتية في الاتجاه المعاكس، ومن هنا يمكننا مشاهدة الطائرات العسكرية على مدرج البليدة، أتذكر مباراة أم درمان، يوم هبطت في السودان محملة بالمشجعين، يومها تكلموا عن استيراد اللحم من السودان، واليوم يستوردونه من طرف الدنيا، الهند؟!!
الحرارة شديدة والشمس حارقة، على طريق الدويرة الخضرة تتراجع تدريجيا، والفطير لم يبق منه سوى الفتات الذي على حجري، الوقت يمر بسرعة متوسطة خوفا من الرادارات بعد خروجنا من الطريق السريع، ولم نصل إلى دالي إبراهيم إلا على الساعة الحادية عشرة، أخواي يختبران رفقة في بعض سور القرآن بعد أن توقفت عن ترديد أغاني أفلام الكارتون، وأبي يقطع الجميع ليطرح علينا مسألة فقهية، قلت إني لا أجيد إلا المسائل التي تبدأ بــمات عن ومـاتت عن، لكنه أصر على كونه لا يمزح وسألنا عن حكم سجود السهو البعدي المترتب على الإمام بالنسبة للمأموم المتأخر، لا تنتظروا مني جوابا لأن الوقت كما تعلمون يمر على الرغم من الرادارات، ربما لأنه اكتشف أخيرا أنه أسرع من أن يسدد ضريبة مرورية، هنا أماما الحي الأولمبي والقاعة البيضاوية أترككم لأتم مشواري إلى بيت جدتي رحمها الله، إلى وقت آخر، لا تيأسوا من عودتي.
 

15 - أغسطس - 2010
من المدية إلى إسطنبول
أول يوم على تراب تركيا    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :

 
الجمعة –السبت 30-31/07/2010   
 
ستكونون محظوظين اليوم كثيرا، ليس لأني أكتب إليكم وحسب، وإنما لأني أدفع التعب والنعاس لأفعل ذلك ولما يتغلبا علي بعد، الساعة الآن الواحدة ليلا بتوقيت تركيا، في غرفة الفندق الفخمة، فندق الخمسة نجوم، زميلتي في الغرفة تغط في نوم عميق، وأنا فرغت منذ قليل من الاستحمام وأجدني عاجزة عن تجفيف شعري الذي لا يزال مبتلا، لا أدري إن كان اسمها كافيا ليذكرني بزميلتي في الصف، أسمـاء، حتى وهي تناقضها في كل شيء تقريبا، دون أن أنسى أن أسماء تأتيني بوردة حمراء كل صباح اثنين، لا أعلم لم تختار الاثنين دوما، لكنها تعلم تماما مدى افتتاني بالورود والأزهار...الغرفة تغرق في صمت جميل لا يخترقه إلا صوت المكيف الذي يشبه خرير المياه، وفي ظلام لا يبدده إلا نور مصباح وحيد على المكتب أجلس عليه لكي لا أزعج أسماء التي بدأت تتقلب في سريرها، وتشخر قليلا أيضا، وبعض الأشعة التي تدخل من النافذة لعدم تمريري الستائر، هكذا إن فاتني سماع المنبه ستكون أشعة الشمس كفيلة بإيقاظي. لا يزال بإمكاني رؤية اللوحات الخمسة المعلقة في الغرفة، تقابلني إحداها بتموجات من الألوان الباردة، لا تجعلني أشعر إلا بالمزيد من الدوار الذي سببه لي المصعد الذي نستعمله على الرغم من كون غرفتنا في الطابق الأول، لا أزال أشعر بحركته الشاقولية، بسرعته، وبفضول كبير لمعرفة مكان السلالم، لا بد من وجود سلالم في مكان ما، عار علي ركوب المصعد من أجل طابق وحيد، ومتعب أيضا العيش على إيقاعه هذا... أكتب إليكم ولا تزال الذبذبات سارية في جسدي بسببه، تصعد تدريجيا من قدمي لأحس بها في رأسي كتواتر الأمواج التي مررنا بها في مضيق البوسفور، لا أصدق حتى الآن أني عبرته حقا، أنني اجتزت ثلاث قارات في يوم واحد، إفريقيا وأوروبا وآسيا، بل ولا أصدق من كوني في تركيا إلا التعب الذي أشعر به...لقد كان يوما حافلا بالأحداث.
لا تصدقوا أني سأصمد لأكتب إليكم اليوم أكثر من هذا، ولا تدعوا للفضول أن ينسيكم أني مستيقظة منذ السادسة صباحا بتوقيت الجزائر التي صارت تبعد عني أكثر من ألفي كيلومتر، سأترككم لأنام قليلا، وسأترك الدفتر مفتوحا لأتم الحكاية عند استيقاظي بإذن الله.
 
أجمل ما في كتابتي إليكم هو أنكم لا تشعرون بمرور الوقت كما نحسه، على السادسة صباحا وبضعة دقائق من يوم السبت، الشمس على علو رمح تقريبا، وأسماء لا تزال نائمة، كان أول ما سألنا عنه عند وصولنا إلى الفندق اتجاه القبلة، فدرجنا كان الوحيد كما يبدو الذي ليس فيه سهم الاتجاه، اليوم حين أرى الشمس التي تتوسط إطار النافذة أتأكد من صحة القبلة التي أشاروا إليها إلى الجنوب الشرقي. الساعة ستكون الآن الرابعة ودقائق في الجزائر، لا أستطيع التوقف عن مقارنة الوقت منذ وصولنا، متسائلة أحيانا إن كان وجودي في إسطنبول حقيقيا، حتى وأنا أشعر أني لا أزال في بيتي، أحاول أن أكون منطقية وأتذكر الساعات التي قضيناها وقوفا في المطار من الساعة السابعة والنصف صباحا إلى غاية إقلاع طائرتنا على الثانية عشرة والربع، بين معرفة مجموعاتنا، مرشدينا، تسجيل الحقائب، المرور على مراقبة الجوازات، والصعود أخيرا إلى الطائرة التابعة للخطوط الجوية التركية.
حين أذكر الطائرة أتعجب كثيرا من دوار المصعد، فهي حتى في إقلاعها حنونة، لا نكاد نشعر بحركتها، من النافذة كل شيء يتضاءل بمفارقتنا الأرض، كم هي صغيرة الجزائر من موقعنا، وكم هي ضئيلة عتبة البحر الأبيض المتوسط.
بعد لحظات من استقرار الطائرة في السماء جاءت المضيفة تسألنا عن الغداء الذي نتناوله، السلطة من السلمون المدخن والبطاطا والميونيز، الجبن والزيتون والطماطم والخياركما أذكر أيضا، والطبق كباب مع الأرز والخضار المقلية، أما التحلية فكانت كعكة جبن وبسكويت، مرت مضيفة أخرى لتسألنا عما سنشرب، يسألها أحد المسؤولين عن الخيارات، كوكا، عصير، ويسكي؟ ....-تقول- ،أنا لم أعص الله بشربه على أرضه فكيف أعصيه بهذا في سمائه؟! هكذا تقول النكتة.
مرت ثلاث ساعات في الطائرة بسرعة، أسرع حتى من مرور نصف ساعة في باص عين الذهب، ولم نصدق أننا سنهبط فعلا، ولم نصدق أننا هبطنا. الحرارة كانت لافحة عند خروجنا، الجو مغيم والساعة الخامسة والربع، لا حاجة لأن أخبركم أننا توجهنا لاسترجاع الحقائب والمرور على ال(كونترول)، ولا حتى أننا ركبنا الباص متوجهين إلى الفندق الذي يقع في الجهة الأسيوية، via port، هكذا قالت مرشدتنا التركية التي تعرفنا عليها، لسانها السوري جعلنا نظنها سورية، إيميت قالت إننا سنمر على مضيق البوسفور كل يوم وسنتواجد في قارتين كل يوم كذلك، أحاول أن أتخيل هذا، أن أملأ عيني بمنظر الأمواج التي تطوى على صفحته، بأيا صوفيا التي تقابلنا وجامع السلطان أحمد ونحن نمر على الجسر، بمشهد البوسفور الذي لن أمله.
عند وصولنا إلى الفندق مر كل شيء بسرعة، واجهته تتوسطها نافورة جميلة سرعان ما نسينها عند دخولنا، كل شيء يختصر في عبارة الخمسة نجوم، الغرف رائعة، العشاء، "سالف سرفيس" self service ، والبقية تعرفونها قبل وداعي إياكم لأنام، موعدنا المساء إن شاء الله، سلاما من إسطنبول.
 

17 - أغسطس - 2010
من المدية إلى إسطنبول
شكرا أستاذي    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

 
شكرا لكم أستاذ عبد الحفيظ على مروركم الذي يسعدنا كما نعتز به، وعلى البطاقة اللطيفة كذلك، وصياما متقبلا إن شاء الله، وكما نقول: صَحَّه فْطُورْكم.
أما النصوص فارتأيت أن لا أنشرها مرة واحدة ليكون هناك متسع من الوقت لقراءتها، وهكذا تكون المسلسل الرمضاني لهذا العام، وأتمنى أن تنال رضاكم.
 

18 - أغسطس - 2010
من المدية إلى إسطنبول
على عتبة إسطنبول    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :

 
السبت 31/07/2010  
 
موعدنا الثامنة صباحا، هكذا قالت إيميت آخر مرة ... بعد تناول الفطور، اجتمعنا في صالة الفندق لأخذ مصروفنا لهذا اليوم، عشرون يورو، ثم توجهنا كل مجموعة إلى الحافلة المخصصة لها، وكما هو متوقع لم ننطلق إلا بعد أن تجاوزت الساعة التاسعة والنصف، متجهين إلى شبه الجزيرة التاريخية.
 ڤُونَـــــــايْدِنْ (Günaydın  هكذا نستهل صباحنا، صباح الفل والقشطة والياسمين وكل خير في هذه الكلمة الوحيدة التي ننطقها كلنا مع بعض.
بعد إخبارنا عن برنامجنا لليوم تشرح لنا مرشدتنا أصل تسمية إسطنبول، وتعطينا نبذة تاريخية عنها، لا تنتظروا مني نقل ما قالت فلست هنا اليوم لأعطيكم درسا في التاريخ، الكتب كفيلة بذلك والحاج ڤوڤل أيضا، ماذا كان ليفعل جيلنا الكسول من دونك يا ڤوڤل؟!
على الطريق، تعرفنا إيميت على الأماكن التي نمر بها، قصر دولمة بهجت الذي سكنه آخرالسلاطين العثمانيين وشهد موت الرئيس مصطفى كمال أتاتورك، بشكتاش، جامع مراد  -إن لم أخطئ في اسمه-، توب هانة المشهورة بالأرجيلة، القرية السوداء التي لم تعد قرية كما هو حال بقية قرى إسطنبول، هذا ما قالت إيميت، إن مررتم بهذه المنطقة وسمعتم كلمة "كُويْ" فهذا يعني قرية باللغة التركية، كلمة أخرى ندخلها قاموسنا التركي الفارغ إلا من  ڤُونَايْدِنْ وتَشَكُّرَدِريم (شكرا).
بعد المرور بجسر ڤَلَتَه (Galata) وصيادي السمك الهواة الذين تركناهم عليه، قصر توب كابي، السوق المصري وجامع أمين نو أو أمان الأمين كما تقول قصة تسميته، تحكي لنا إيميت عن "بيزاس" وتاريخ المنطقة الذي يرجع إلى آلاف السنين قبل الميلاد كما تشير إليه آخر الحفريات، ونحن نمر على صور المدينة القديم، مقابل بلاد العميان، مقابل بحر مرمرة ومياهه المتلألئة، القوارب البعيدة التي تشق صفحته، والناس على ضفته بين سباح وصياد، أتصور كل هذا، أبدأ بالتصديق شيئا فشيئا أني في إسطنبول.
بدخولنا إلى منطقة السلطان أحمد وتجاوزنا لأرستا بازار، صار بإمكاننا رؤية جامع السلطان يسارا وإلى اليمين أيا صوفيا التي فهمت من إيميت أننا لن ندخلها، لن أحدثكم عن خيبة الأمل التي شعرت بها، خيبة أمل واحدة كانت كفيلة بأن أمضي يوما خارج إسطنبول التي دخلتها منذ قليل، وقد كانت تلك خيبة الأمل المطلوبة، هكذا فقد يومي طعمه.
 بوصولنا إلى منطقة معينة لا تستطيع السيارات تجاوزها ننزل من الباص متجهين إلى الهيبودروم أو ساحة الألعاب كما تسمى، نتبع مرشدتنا التي تسير بخطى سريعة وشمسيتها الصينية البنفسجية اللون، قالت أن أحدا إلى الآن لا يملك شمسية مشابهة، لهذا فستكون مرجعنا لمعرفة مكان تجمعنا، نسير وراءها بسرعة تجعل التفاصيل لا مرئية، وتبعدني أكثر فأكثر عن إسطنبول التي صرت على عتبتها. أحاول أن لا أرى آيا صوفيا كلما التفت حولي، أتناسى وجودها، أتناسى وجودي على أبوابها.
لم أعد أذكر ماذا رأيت تماما في الهيبودروم الذي شعرت فيه بالعجز المطلق عن الملاحظة، في ساحته التي كانت ميدانا للفروسية في القسطنطينية القديمة، مجرد صور سطحية تستقبلها عيناي، أما فؤادي فكان فارغا من كل شيء، لم أعد أذكر إلا المساحات الخضراء التي كانت تملأ عيني، المسلة المصرية برموزها الهيروغليفية المبهمة الممجدة للفرعون، عمود قسطنطين أو المسلة المحاطة التي بقيت في مكانها على الرغم من الجميع  بموازاة جارتها المصرية، (غَصْبًا عَنّكْ أَنَا مَرْكوزة هُونْ) هذا ما تتصور مرشدتنا أنها تقوله، وبالطبع العمود الأفعواني البرونزي اليتيم بينهما. بعد ربع ساعة من الوقت الحر للتصوير تجمعنا عند بوابة مسجد السلطان أحمد، كان أسفي من عدم زيارة آيا صوفيا يغطي على كل شيء ويجرد الأماكن من هويتها وروحها أيضا، ربما فتح الجامع ذراعيه لاستقبالي وأنا غارقة في شعوري ذاك، ربما ابتسمت لي بوابته، ورحبت بي ساحته وأقواسه، لكني كنت في غفلة عن كل هذا.
دخلنا ساحة الجامع سوية وجلسنا في أحد أركانه نسمع حكاية بنائه، حكاية الجامع الأزرق كما يسميه الأوربيون، قصة معمار سنان الذي لازال اسمه يتكرر على مسامعنا منذ الصباح، وتحفته التي لا نملك أمامها إلا الشعور بالانبهار. بعد انتهاء الحكاية ندخل المسجد بعد خلع نعالنا ووضعها في أكياس بلاستيكية، الجميع يفعل ذلك، والنساء غير المحجبات يوتين بقماش يتسترن به، المشهد من الداخل فوق الوصف، القبب الموضونة على الأعمدة، السقف المزين بالآيات القرآنية والزخارف النباتية، الإضاءة الفريدة التي تصنعها النوافذ، الأقواس، البلاط الأزرق المزخرف، كل هذا منصهر ليشكل وحدة يستحيل تجزئتها، وذائب في لوحة ناطقة.
في المسجد تجتمع كل الأجناس وتزدحم، البعض منبهر بروعة المعمار، والبعض منشغل بالتصوير كرفيقاتي، البعض يدخل المسجد لأول مرة، وقلة يؤدون تحية المسجد من النساء والرجال، أجلس لأقرأ بعض الآيات من القرآن الكريم إلى أن  أنتبه إلى أن وقتنا الحر شارف على الانتهاء وأخرج مع زميلة لي إلى ساحة السلطان أحمد، التقطنا بعض الصور بجانب النافورة التي تتوسط الميدان، وتمشينا قليلا في المتنزه قبل أن نعود لنتجمع مجددا ونركب الباص متجهين إلى المطعم لنتناول الغداء والساعة قد قاربت الثالثة مساء، والجوع آخر شيء يمكنني الشعور أو التفكير به.
في المساء، قضينا ما تبقى لنا من الوقت في مركز جواهر، ثاني أكبر مركز تجاري في تركيا. والحقيقة أن ذلك كان مضيعة للوقت ومضيعة للطاقة التي كنت لا أزال أحتفظ بها، زرت جميع الطوابق بما في ذلك المخصص للسيارات، لم أكن مجنونة لأشتري شيئا من المركز بأسعاره الخيالية -على الأقل بالنسبة لنا- ولم أجد شيئا لأشتريه، هكذا مر الوقت وأنا أصعد وأهبط من طابق إلى آخر باستعمال السلم العادي في البداية وفي الأخير السلم المتحرك بعد أن تعبت من السير، حين عدنا إلى الحافلة شعرت برغبة لا تقاوم في النوم، حاولت تجاهلها قليلا إلى أن غفوت لأجدنا على بوابة الفندق حين أيقظتني زميلتي لطيفة، لم أغفل هذه المرة أيضا عن تأمل البوسفور، تركته في ذاكرتي، على بساط من حرير، لأقول له ولكم في يوم آخر، ڤُونَــــــايْدِنْ.
 

18 - أغسطس - 2010
من المدية إلى إسطنبول
إلى متى أظل على بابك !    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :

 
الأحد 01/08/2010 
 
 
على صوت أسماء استفقت لأعلم أن الساعة تجاوزت الثامنة، فارقت سريري غير مصدقة أني لم أسمع صوت المنبه، واستعددت بسرعة للحاق بموعدنا الذي كان هذه المرة على التاسعة صباحا. لم نكن الوحيدتين المتأخرتين فالجميع استيقظ متأخرا كما يبدو،  تناولنا الفطور على عجل، وملأنا قارورتي الماء الفارغتين اللتين كانتا معنا لنقتصد بعض الليرات أن تضيع في شراء الماء، الليرات غالية، والماء غال أيضا في إسطنبول، أين أنت يا عيون المدية التي نلقاها في كل مكان، وأين أنت يا ماءها العذب؟ حتى الماء هنا ليس كمائنا الذي اعتدنا عليه، هو أثقل، ويجعلنا نفكر حقا في مدى استهتارنا بقيمته عندنا في الجزائر.
في الباص، ڤُونَايْدِنْ كانت بطعم النعاس، كما لو أننا خفنا إيقاظ الطريق الذي كان أكثر حياة، كانت آثار السهر لا تزال بادية على الوجوه وكان الهدوء يوحي بكوننا نياما، وهكذا استمر الحال إلى أن حدثتنا إيميت عن تربة أبي أيوب الأنصاري التي سنزورها على ساحل خليج القرن الذهبي المتفرع عن مضيق البوسفور، وعن إسطنبول في محاولة لإعادة الحياة التي بدأت تدب تدريجيا، قالت إيميت إن أحد الشعراء يصف إسطنبول قائلا إن نصفها عصفور ونصفها سمكة، نصفها فضة ونصفها رغوة، كان وما كان، خيال! وطلبت منا أن لا نعاملها كمدينة وإنما كإنسان نعرفه، حاولت أن أشعر بما قالت لكن خيبة أيا صوفيا كانت لا تزال حاضرة أمامي غشاوة تمنعني من الإبصار، كذلك قررتْ إسطنبول أن تكون في يومي هذا الرغوة التي لا أستطيع الإمساك بها، وكذلك قررتْ أني لا أستحق رؤيتها بعد.
 
عند مدخل جامع أبي أيوب الأنصاري أو جامع أيوب سلطان كما يدعى يتجمع حشد كبير من الناس، أغلبهم أتراك جاؤوا للتبرك بالصحابي الجليل، في الضريح أخبرني أحدهم  أنني سأرى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، لم أتمالك نفسي حينها وأجهشت بالبكاء، كانت صورته قد تمثلت أمامي كما رأيته في حلمي منذ سنوات، وأبت العبرات أن تتوقف من مدامعي، كان الأمر فوق طاقتي وشعرت لأول مرة منذ وصولي إلى تركيا  أني على أرض غير أرضي. لا بد أن الحاضرين ظنوا أني أتضرع للصحابي الجليل و أستعين به لقضاء أمر من الأمور، لم يخطر ذلك على بالي حينها، فلست ممن يؤمن بمثل هذه الخرافات ولا ممن يسأل الموتى شيئا، كنت أعيش لحظة خارج الزمان والمكان، ولم يكن يعنيني شيء مما حولي، كان مجرد التفكير بأني أرى أثر قدمه صلى الله عليه وسلم يجعل دموعي تسيل حتى وإن كنت لا أجزم بأن هذا أثره، كان الأمر معنويا محضا، ولم يكن يتعلق أبدا بما أراه أمامي، كانت لحظة لا يمكن تفسيرها. 
 حين خرجت إلى الساحة الداخلية للجامع كنت بالكاد أستطيع حبس دموعي، جلست مع لطيفة التي وجدتها  أمام شجرة كبيرة تظلل الضريح، لم أكلف نفسي عناء الإجابة عن سؤالها فحتى أنا لم أكن أعلم لما أبكي، كل ما أعرفه أن غسل وجهي كان كفيلا بتهدئتي وجعل الحمرة تزول منه... تأملت الشجرة الباسقة طويلا دون أن أفهم ما كتب عندها باللغة التركية، العين المجاورة لها، والآية الكريمة المكتوبة عليها بخط الثلث: (عينا فيها تسمى سلسبيلا)، شعرت أخيرا بالراحة وباللون الأخضر يطغى على ذهني، وبدأت الألوان تعود إلى العالم حولي، بدأت أرى الصبية الصغار ولباس الأمراء الذي يرتدونه، الصولجان في أيديهم، والبسمة مرتسمة على شفاههم، تذكرت ما قالت إيميت عن كون هذا من مراسم الختان، تذكر أن استلام سيف عثمان الأول بعد ترسيم السلاطين العثمانيين كان يتم هنا أيضا، وأغمضت عيني لأفتحهما على إسطنبول جديدة بدأت تتخلى عن إعراضها عني. بعد دقائق معدودة غادرنا الجامع لنتمشى قليلا، كانت صاحبتي صامتة تماما كالناس الذين لم يعد ضجيجهم يصل إلى مسامعي، لم أجد حديثا أحملها عليه، ولم تبد انزعاجا من السكوت الذي لم تكن تتخلله إلا ملاحظات عابرة، اتفقنا أخيرا على ضرورة التصوير فور وصولنا إلى النافورة التي كانت أول ما نصادف، صوتها كان يفرض نفسه على كل ما عداه من أصوات، ومنظرها أعاد إلي صورة أختها في ساحة السلطان أحمد، لم نتوقف عندها حتى عدنا للسير الذي قادنا إلى سوق شعبي صغير، تجولنا فيه قليلا قبل أن نلحق بالمجموعة والساعة الثانية عشرة إلا الربع. في طريق خروجنا من التربة مررنا مجددا بمقبرة قديمة نبهتنا مرشدتنا إلى اختلاف شواهد قبورها على حسب وظائف أصحابها عليهم رحمة الله ومكانتهم، فمنها ما هو على شكل طربوش ومنها ما عليه عمامة كما على قبر أبي أيوب رضي الله عنه وهكذا، أما نحن فكان أول ما شغلنا من كل هذا مسألة تحريم  بناء القبور، فالناظر إلى هذه الترب لا يكاد يذكر الموت أو الآخرة بل وينسى أنه يمر على مقبرة، الناظر إليها يحسب أنه يرى تحفة معمارية. 
بخروجنا إلى الطريق وجدنا أنفسنا على الساحل، لم نكن بعد قد تصورنا جيدا موقعنا على الخريطة، وكنا لا نزال نخلط بين مرمرة والبوسفور، كان الخليج يقابلنا بزرقة تشعرنا بالضياع، لابد أن قمة الغباء هي السفر من دون خريطة مفصلة.
على مسافة أمتار قليلة كانت الحافلة بانتظارنا، الشمس الحارقة فوقنا لم تعطنا خيارا آخر غير الإسراع في الركوب والتوجه إلى منياتورك، حديقة تركيا المصغرة على الضفة المقابلة، ومجسماتها التي تشعرك بنشوة العوالم القديمة وبعبق التاريخ، ساعتان لم تكنا كافيتين لتأمل كل المعالم المجسمة بدقة وإتقان حتى لتظن أنك أنت العملاق لا أنها المصغرة، وسماع كل الشروح المقدمة عنها من خلال الجهاز الصوتي الذي تجده عند كل مجسم. في الحديقة أماكن للعب الأطفال ومطاعم أيضا ومحلات لبيع المجسمات والتحف التذكارية.
توجهنا بعدها لتناول الغداء في مطعم يطل على حوض لعرض ألعاب الدلافين، أخبرتنا مرشدتنا أن ثمن السباحة لمدة عشر دقائق مع الدلافين 100 يورو، تلك كانت بمثابة نكتة لنا، واكتفينا بالتقاط بعض الصور بعد فراغنا من تناول الطعام. بعد ذلك ذهبنا إلى السوق المصري الواقع بالقرب من الجامع الجديد (يني جامع) مقابل ميناء أمين نو، هو ليس بزارا مصريا وإنما سمي كذلك لأن أغلب البضائع التي كانت تباع فيه قديما كانت تجلب من مصر، لن أحدثكم عنه اليوم طويلا ولا عن الخوف من الضياع الذي يراودكم عند دخوله من فرط تشعب طرقه لأن لنا عودة إليه مجددا، ولأني لا أجد رغبة في ذلك  فقد تعبت منه حقا، وتعبت من الوقوف على أبواب إسطنبول، إلى يوم آخر، إلى اللقاء.
 

20 - أغسطس - 2010
من المدية إلى إسطنبول
شكرا لك يــالووا    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :

 
الإثنين 02/08/2010 
 
أخيرا أمسكت بطرف حكايتك يا إسطنبول، نصفك السمكة رأيته بالقرب من صفحة الماء باسما مطمئنا، لا يخشى شيئا ولا يهاب النوارس المتصيدة، إنه هناك لا ريب، مختف في الرغوة، رغوة بحرك حين تشقه العبارات الضخمة، رغوتك يا بحر مرمرة، هناك تركته، حرا مطمئنا، أحس حركته حولي، بخفة يتحرك، يلمسني فجأة، بحنان يلمسني، أملس وناعم، بارد، لا بد أنه نصف ليس ككل الأنصاف، ولابد أن يكون نصفا أسطوريا أيضا... لن تهربي مني مجددا يا حكايتها، لن تهرب يا عصفورها الطليق فقد رأيتك، أنا لن أحبسك، مثلك أهوى العيش طليقة، مثلك أهوى رونق الحياة، مثلك يا طائرها لو كان لي ريشك وجناحاك، مثلك لو كان لي تغريدك...حين ناديت عليك كان اسمك يتردد في أذني، ربما لم يكن يتردد إلا في خيالي، ربما لم أنادك، ربما وربما وربما حيـن لا أجزم أني أراك يا إسطنبول من غير لثام.
حين تركتك صباحا و ركبت العبارة لأفارقك، لم أكن أعلم أني سألقاك، نصف ساعة على ظهر مرمرة، نصف ساعة حين علمت أني أبتعد عنك لأعرفك حقا، على ظهر العبارة الضخمة التي حملتنا من خليج القرن الذهبي، الأمواج تطوى كما الأوراق بسرعة، والمياه آه لو استطعت أن ألمسها، ووجهك، كان يختفي من عيني ويرتسم على قلبي، على قلبي كان يرتسم، رويدا رويدا كلما ابتعدت عنك.
يَالُـووَا (yalova)، لا تغاري إن قلت إنها فتنة، هي أختك، أعلم، لكنها آية الله أيضا في الجمال... هي علمتني كيف أراك حين أغمض عيني، يالووا همست في أذني حين تركتك، حدثتني طويلا عن جمالها لكنها لم تنس أن تحدثني عن جمالك، أعادت إلى قلبي عينه التي تبصر، وأعادت إلى نفسي سكينتها.
 
في يالووا كان أول ما زرنا الحمامات المعدنية، لم ندخل لنستحم، وأمضينا ساعة ونصف في التجول بمنطقة الحمامات، صعدنا سلالم العشاق أنا ورفيقتاي لا لشيء سوى أنها تدعى كذلك، تمشينا قليلا وضحكنا، وتركنا على كل شجرة مررنا بها ابتسامة، مررنا على باعة التوت والفراولة والذرة وبعض الفواكه، ثم عدنا أدراجنا فور وصولنا إلى محلات لبيع الملابس، ولما مللت من أخذ الصور في كل شبر تركتهما لأسير وحدي مع يالووا، لم أكن في حاجة إلى تصوير لحظات تحفظها ذاكرتي دون سلطان مني، تبعت مجرى الماء بين الأشجار الكثيفة، شعرت بأني في وطني، في كل خطوة أخطوها نحو مكان لا أعرفه، أحسست بالطبيعة تحتضنني بقوة، صعدت السلالم الحجرية، مررت بأتاتورك دون إلقاء التحية، هو يدري أني لا أحبه، وأنا لا أبذل جهدا لأخفي ذلك، لهذا فأنا لا ألقي بالا لتماثيله المنتصبة في كل مكان، في القمة جلست لأرتاح قليلا، على يميني نزل فاخر، ومن تحتي يبدو كل شيء مختلفا، كل شيء رائعا، تذكرت نزهاتنا الجميلة مع خالي;  الخضرة وروائح الأشجار نفسها، والهدوء وصوت تغريد الطيور. نحن نحتاج إلى الكثير من الهدوء لنسمع أنفسنا أحيانا، ولنفهم ما تريد أن تقوله أيضا، الصخب يجعل الأمور مبهمة والضياع لا يترك لشيء معنى، وأنا لا أستطيع صبرا على شعور مشابه. وحدها الطبيعة تملك هذه المقدرة العجيبة على إعادة إيقاع الحياة إلى القلوب، تذكرك بروعة الخالق، وتريك عظمة الله في مخلوقاته.
تمشيت أغلب الوقت وحيدة، والتقيت أناسا من مختلف الدول العربية في مكان مخصص لبخار الوجه، وأتراكا يتكلمون اللغة العربية يتنزهون، ومررت بعيون كثيرة أكثر ما أثار انتباهي منها مجموعة من الصنابير المتفرعة من جذع شجرة ميتة بمائها البارد الآتي من الجبال، وتحدثت مع أمي من حجرة هاتفية، وتجولت إلى أن التقيت برفيقتي مجددا، كنا معا حين سمعنا أذان الظهر يرتفع، حتى الأذان يبدو مختلفا، مشرقيا حنونا.
بعد مرورنا بالمطعم ذهبنا إلى السوق، الصرافات تخبرنا أن سعر اليورو منخفض، لم نستطع مقاومة زيارة الشاطئ الذي كان على بعد أمتار فقط، كنت مع لطيفة حين اكتشفنا  أنه بالقرب من ميناء سفن الصيد الصغير، رائحة الملوحة كانت قوية والرطوبة شديدة، ولم يكن لدينا إلا ربع ساعة لنعود إلى المجموعة، أسرعنا في تجاوز الرمال الحارقة فقط لنبلل أقدامنا بالماء، حين خرجنا كانت ملابسنا متسخة حتى الركبتين بالرمل المبلل، الحمد لله أن ثيابي كانت سوداء واستطعت تنظيفها عند مرش قابلنا عند خروجنا، عدنا بسرعة إلى الحافلة مفتخرتين بإنجازنا العظيم ومنتشيتين بجمال اللحظات التي قضيناها على الساحل.
في طريق عودتنا إلى العبارة مررنا بمحل لبيع الحلقوم وحلوة الترك، تذوقنا كل العينات المعروضة، واشترينا منها أيضا، كانت بحلاوة يومنا هذا، الفندق يعني البندق بالتركية والفستق هو نفسه،  وإسطنبول، لا تسألوني عنها، لا تسألوني كيف رأيتها في مخيلتي، كيف عدت إليها بعد مفارقة قرص الشمس الذي كان أنيسي فوق صفحة مياه مرمرة، كيف قلت لها ڤُونَايْدِنْ ونحن في المساء. حين عدت إلى إسطنبول أحسست أني أراها فعلا وأسمع صوتها، أحسست أنها فتحت لي ذراعيها كما لم تفعل من قبل، وعدت إلى الفندق مرتاحة رغم الإعياء الذي شعرت به.
شكرا لك يـالووا، أنا لن أنسى صوتك الحنون أبدا، ولن أنسى لمستك التي أعادتني إلى الحياة.
 

22 - أغسطس - 2010
من المدية إلى إسطنبول
إنما ذلك ظنكم الحسن منعكس على الحروف    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :

وعليكم سلام الله ورحمته تعالى وبركاته أساتذتي،

الشكر لكم معلمي وشيخي الأستاذ ياسين على ظنكم الحسن وثنائكم الذي لا أستحقه، وعلى كلماتكم الطيبة، وما توفيقي إلا بالله تعالى، والله ذو الفضل العظيم، ولا تعلمون مقدار سعادتي لأنكم تكرمتم وقرأتم نصوصي على بساطتها وعفويتها، فقد أحببت أن أنقل لكم رحلتي كما عشتها لأني أحسست أنها تجربة شخصية تستحق الصدق ويفسدها التكلف والعناية بذكر تاريخ المعالم وجغرافيتها الدقيقة، وأما تركيا فقد ارتحت لها واطمأننت لطيبة أهلها، حتى إني تهت في إسطنبول يوما ووجدت نفسي وحيدة لا أستطيع كبت دموعي، فلم ألبث دقيقة حتى اهتموا بإرشادي إلى الطريق، واتصلوا بالفندق وبالدليل السياحي التركي ثم العربي إلى أن اطمأنوا إلى أني بخير، وتلك قصة أذكرها في أوانها، ولم أنزعج خلال رحلتي إلا من شيء وحيد هو صعوبة التواصل مع الأتراك، فالشعب التركي لا يجيد غير لغته، وقلة هم من يتحدثون العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية باستثناء الباعة الذين لا يعرفون من اللغة إلا ما يخدم تجارتهم، أما غير ذلك فتركيا بلد منظم وشعبه (مْرَبِّي) يحترم الغريب والاختلاف.
 
شكرا جزيلا لكم أستاذنا عامر، ولا أقول لكم إلا كما قلت للأستاذ ياسين، عسى الله أن نكون دوما عند حسن ظنكم، وأن ييسر لنا ذكره وشكره على ما أغدق به علينا من وافر نعمه.
لا شك عندي أن توثيق التجارب الشخصية في زمن من الأزمان ليس فقط مرآة للأوضاع السائدة آن ذاك، في تقاطع بين السيرة الذاتية والتاريخ، ولكن وسيلة أيضا لمعرفة النفس الإنسانية، فحتى أنا حين أعود لكتاباتي أكتشف نفسي كما لم أكن أعرفها، وأدرك حقيقة أمور كانت تختفي وراء بديهيتها، ربما هذا ما يجعل من التجربة الإنسانية تجربة عالمية. أتمنى أن تنال كتاباتي رضاكم، وأكرر امتناني على مروركم بملفي المتواضع، والله ولي التوفيق.

إلى لقاء قريب، تحياتي الحارة إليكم وصوما متقبلا إن شاء الله.

23 - أغسطس - 2010
من المدية إلى إسطنبول
 20  21  22  23  24