حديث عن دمشق - 3 كن أول من يقيّم
ولكي ندخل دمشق، لابد من استعراض ولو سريع، لشريط صور من التاريخ القريب.. نخبةٌ من المناضلين والمفكرين معلّقون على أعواد المشانق في ساحة المرجة بعد ثورتهم على الاتّحاديين. عددٌ قليل من أفراد الجيش العربي بقيادة وزير الحربية شخصياً (البطل يوسف العظمة) يواجه القوات الفرنسية في معركة غير متكافئة، ويستشهد أغلبهم في موقعة ميسلون. صورٌ متعدّدة لأهل الشام، وهم متوجهون إلى دمشق للاحتفال بعيد الجلاء، بعد عشرين عاماً شاقّة من الكفاح. إن مجرّد جولة في أنحاء دمشق تكشف معالم عبقرية موقعها، الذي يحدّده كلّ من جبل قاسيون ونهر بردى وبساتين الغوطة (بما تبقّى فيها من شجر)، فهذه لدمشق معالمها الثلاث كما هي الحال في معالم الأهرامات بالقاهرة، فمن فوق ربوة عالية تظهر دمشق كلها في منظر خلاّب، إن كان ليلاً أو مع الساعات الأولى للصباح. ودمشق كغيرها من المدن الكبرى تستيقظ والحركة تدبّ في أحيائها المختلفة وأسواقها وكنائسها ومساجدها. ويأتي جبل قاسيون عندنا نحن الدمشقيين بعد جبل عرفات، فعنده تتكسّر الرياح الباردة ،وهو لدمشق كتاج من ألماس فوق رأسها. ومن موقع آخر نُدرك الإحساس إلى أيّ مدى تدينُ دمشق بوجودها إلى الواحة الفيحاء التي تحيط بها من طريق دمشق - بيروت، ونهر بردى الذي يخترق الغوطة وبساتينها وعلى ضفتي النهر، حيث تنتشر المطاعم والمقاهي فوق الرّبى الى جانب ما تبقى من شلالات تجري من نهر بردى. هناك تمضي معظم العائلات أوقات العطل في أيام الجمعة والأحد مع النسمات العليلة، والاستمتاع بما لذ وطاب في جنبات وادي بردى وجارته، ومع دخان النرجيلة واحتساء القهوة والشاي في الهواء الطلق. رحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي إذ يقول: يا روضة في رُبوع الشـام يانعةً ترنّم الطــيرُ فيها وهو نشــوانُ تمايلَ الغصـن فيها وانثنى طرباً لمّـا شَــجَتهُ ترانيــمٌ وألحــانُ هذي ثمارك طابت في مغارسها وذاك غصنك يندى وهو فينانُ يا روضَ بردى في وَشـي بُردته يختــالُ بين رُباها وهو جَذلانُ هلمّوا نقرأ ما قاله الكاتب البريطاني ﭙاتريك سيل عن دمشق: »موقع دمشق تضافر على خطّه التاريخ والجغرافيا، فهي تقع على سيف الصّحراء على نقطة بين الرّمل والطين، بين البَدو والحَضَر، بين اللا معمور والمعمور. إنها شامةٌ على خدّ الصّحراء السورية،كوّنها نهر بردى الذي أقام أكبر واحة في الشام، مما وفّر القاعدة لمدينة خالدة، تقع في أهم محورين للحركة التاريخيّة والتجاريّة في الشام، ومن هنا كانت ميناءً صحراوياً هاماً منذ وقت مُبكر، وكانت بحقّ بوّابة صحراء الشام وصحراء العرب، وبوّابة بغداد بوجه خاصّ، وهي في هذا كانت مدينة القوافل المثالية، وكانت التّجارة عنصراً محورياً في نشأتها وازدهارها«. وعن أهميّة وضع سورية بشكل عام، ومنها وضع دمشق الجغرافي السياسي يضيف: »إنّ مَن يروم قيادة الشرق الأوسط لا بُدّ له من السيطرة على سورية، لأسباب عديدة، منها موقعها الاستراتيجي الذي يشرف على الممرّات الشمالية الموصلة الى مصر، وعلى الطريق البرّي بين العراق والبحر الأبيض المتوسّط، وعلى شمال الجزيرة العربية والحدود الشمالية للعالم العربي، فسورية بعاصمتها دمشق تعدّ مركزَ مراقبة جيداً، يمكن منه رصد سياسات الدّول الكبرى«. |