ومضات من الذاكرة     ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
أول ما يتبادر إلى ذهني حين أكتب عن طفولتي هو جدتي، بحنانها ودفئها والأيام التي تفوح بعبيرها في ذاكرتي وفي قلبي. كنت حينها أميرة الأفراح، والطفلة الطيبة البريئة ولا أزال، وفي بيتها كنت شعلة من السعادة والنشاط لا تنطفئ، وفراشة بيضاء حالمة كالتي كان يصيدها لي أبناء خالي. الأيام كانت زهرية بطعم العسل، ثملة بألحان المقنين (الحسون) والكناري في قفصه الصغير وعالمه الكبير الساحر، وندية كأزهار الياسمين التي كنت أجمعها لها لتضعها على وسادتها الفواحة. منذ ذلك الحين لم يأت الكحل على أهدابي مجددا، منذ آخر مرة اغتسلت على يدها وعطرتني برائحة الخزامى التي تحب وكحلت أجفاني لآخر مرة. ولا أزال أحن إلى أوقاتي العزيزة معها منذ أن كنت صبية لا هم لها في الحياة إلى أن التحقت بالمدرسة وصرت أمضي عندها العطل، إلى صوتها العذب يوقظني على السابعة صباحا مغنيا « صباح الخِير يا مْدلّل » كأنه نسمة صباحية منعشة، إلى النوم معها وسماع حكاية البَلّارَجْ (الملك الحزين) التي لا أملها، وأكل البوظة خفية عن أعين أخوالي الذين يذكرونها بأنها مصابة بالسكري بينما لا تستطيع التخلي هي عنها، وإلى بهجة الحياة في كل زاوية من زوايا البيت الذي ينبض بإيقاع قلبها الكبير المليء بالآلام، والذي صار الآن منزلا للأشباح التائهة. جدتي "دوجة" كانت كنجوم الدجى متألقة وبارقة، فم صغير وعينان عسليتان وثغر باسم أبدا، وكف طيبة مباركة لا تضع شيئا في التراب إلا (شعشع)، ولا أزال أذكر كيف فقدت نقطة في اختبار العلوم حين اخترت لشجرة فاكهة أن تغرس بالبذور لا الفسائل، فهذا ما علمتني إياه رؤيتها تضع بذور الليمون والتفاح في القطن تعتني بها إلى أن تصير شجرة مثمرة في البستان. مع جدتي فقط كنت أشاهد الأفلام المكسيكية المدبلجة التي ينهاني والداي عنها، وفي بيتها كنت أجد الحرية في الركض واللعب كما أشاء، أطعم الأرانب والدجاج والحمام، وآكل التوت من الشجرة يرفعني إليها خالي والمْشِيمْشَة (nèfle) والكَرْمُوسْ (من أنواع التين) يقطفها بقصبته الطويلة. كانت (مانِي) دائما ما تضع كبة مما يسقط من شعرها الفضي في الدرج بعد مشطه، وكنت أنا أتأملها وهي تضفره كأنه فتائل حريرية مبتلة، وهي تعقد مْحِيرْمَتْها (تضعها النساء على رؤوسهن ، تغطي الشعر وتعقد إلى الخلف) البيضاء بأزهار زرقاء صغيرة، وأسألها « ماني وعْلَاشْ تْخَبِّي شعْرَكْ فَ الْقْجَرْ؟ » فتجيبني مازحة بأنها ستملأ به وسادة...وكلما أشعلت المصباح مساءً أتذكر قولها لي « قُولي مْسا الخِيرْ عْلِيكُم ! » فأذكر بساطة حياتها والحلاوة الكامنة في أدق تفاصيلها، وترتسم على شفتي ابتسامة هادئة. رحم الله جدتي وأسكنها فسيح جنانه وكل موتانا وموتى المسلمين، آمين. |