أدب الخلاف     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
- هذه كلمةٌ بينها وبين الكلمة السابقة مشاكهةٌُ ومشابهةٌ ، كانت تقديـمًا لبَحْثٍ من الأبحاث . بسم اللـه الرحمن الرحيم قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ ) هذا تقديم بين يدي بحث : ( ... ) = عن أدب الخلاف في المسائل الاجتهادية ؛ تبصرةً وتذكرةً بالجادَّة الحميدة التي ينبغي أن تستتبَّ عليها الخطى لطالب العلم ومريد الحق على سواءٍ . فإن مما دَمِيَ له قلب الإنصاف هذه الناجمة تكدَّرت فيها موداتٌ وتفرَّقت كلمةٌ كان في ائتلافها خير ٌ = بين أجلاء نعرف لهم في العلم والفضل أقدارهم ، فلسنا نزيدهم علمًا أو نفيدهم فضيلةً ؛ وإنما هي النصيحة لنا ولهم في جمحات الهوى المستعاذِ بالله منه ، فإنه متى ملك من القلب عِنانًا كان حِجازًا عن التوفيق . لقد كانت بهجةً لمهجة الدين والعلم أن أذن الله بحميد العود إلى ينابيع السنة المطهرة ، وآثار السلف الصالح ، فانتعشت أكباد وحييت قلوب ، بعد عنتٍ من التقليد وأليمٍ من صَفَدِه ، أليس من جفاء النعمة أن لا يفيق أقوامٌ من عقابيل الهوى - وقد أخرجهم الله إلى سَعَةٍ ونورٍ ؟! ، ثم أليس من فِتنة النعمة أن يأخذ سَمْتَ العلماءِ أدعياءُ نفَّاجون - وليتهم بعافيةٍ من التواضع يستترون ! ، ولإن كان العلماء من قبل تأثَّموا حرجًا وورعًا ليس في دين الله لِما ارتضوه من رِبْقَة التقليد - مع ما بلغوه من كمالات العلوم والفهوم ؛= فحريُّ ألا نتواقع نحن في نار الله فَرَاشًا ، وذلك : الجرأةُ تعالُمًا في دين الله بالتحليل والتحريم - زهوًا واغترارًا بحروفٍ من العلم ما بلغت مبلغ الفقه والبصيرة . ما هي الحمِيَّة لله أو الأنفة للدين أن تبيح من عرض أخيك حرامًا عند الله ودينه ! ، وما هي النصيحة تمحضها لله والأمة أو الإخلاص في البلاغ والدعوة = أن تجعل وسيلةَ ما بينك وبين من تأمل رشده وهداه كلامًا جارحًا ولفظًا مهينًا !. ومهما بلغ الخلاف ، ولو كان المخالف غير منصور بشيءٍ من الأدلة ؛ = فما دام له تأويله، وعلمنا أو آنَسْنا أن له من وراء ذلك القصد الحسن والغرض النزيه ، وأنه لم يعالن بخلافه هذا على مركب التشهِّي والهوى أو المحادِّة للدين – والله العاصم – ؛= فحرام حرام أن يُصال عليه بقبيح الأنباز ، أو أن يتهم مثله في دينه ، أو أن نفتات على الله تعالى الذي جعل للمخطئ أجرًا = فنعاجله نحن بالعقوبة . حتى لو بلغ المخالف بخلافه إلى البدعة ، بل لو صار من البغاة - والبغي ليس وصفًا مذمومًا كما يعلمه من عنده طرف من الفقه - فليس هذا بجرحٍ في عدالته ولا ديانته ، نعم تكشف سَوْأة بدعته ، ويقاتل بسيف بغيه ، حتى يفيء إلى الجماعة ، ولكن نعلم أنه ليس في دينه بالمغموز ، ولا في علمه بالْمُطَّرح ، فلا نهدر له مقامًا محفوظًا ، ولا نطلق فيه ألسنةً معقولةً . وكل من حصَّل أثارة من العلم والفقه في الشريعة يعلم هذا ، وكل من ألمَّ بطرفٍ من أخبار الخلاف والجدل بين العلماء يعلم هذا ، وإن كان هذا الورع والتعفُّف فيما للإنكار فيه وجْهٌ وذريعة ، فما الشأن في ما ليس على المخطئين من سبيلٍ فيه لكون الخلاف محضَ اجتهاد ! - فما ثَمَّ غير الجدال بالتي أحسن ليس إلا ! . وإذا كان الخلاف يتعلق بقضيةٍ عامَّةٍ من النوازل - والمستفتي هنا الإمام ، فالإمام ابتداءً - شأن المقلدين جميعًا - لا يتوجه بطلب الفتوى إلا ممن يعتقده من أهل الاجتهاد وكانت له في العلم والصلاح أمارات ظاهرة يتمايز بها عن غيره ، فإن وافق وجود جماعة من أهل الاجتهاد واختلفت آراؤهم وجنح الأكثر إلى قولٍ - كان التعويل عليه ، وإن تفرَّقت أقوالهم أخذنا بالقول الأوفق الأرفق لمصالح المسلمين . نعم إذا كانت البادرة من المخالف أن استطال على مقامات السابقين من العلماء ، أو توجَّه إلى معاصريه بالنقد العنيف السخيف ؛= فهنا لا ينبغي أن يكون الرد عليه تشفِّيًا وتنكيلاً، وإنما يزجر زجر العظة والتأديب ، أو يهجر هجر الناشز العاصية - حتي يثوب إليه من رشده ما عزب ، وحياءً من الله أن نحمل في بشاشة الحق صدورًا موغرةً - وقد أرادها المعروف وجوهًا طليقة . وما سبق بيانه من أدب الخلاف ، وما فيه من رعاية حرمة العلم ، والأسوة بالرعيل الخيِّر = تمامه وكماله : أن يناظر العالم مخالفه بندية واحترام ، يناقش أدلته ، ويفند دعاويه ، ويحتجُّ لرأيه ، ويبرهن له ، ويبين وجه الحق والصواب فيه ، أما الترفُّع ترفُّع الكبرياء والزهو عن أن يناظر مخالفه ، أو يعالن بفتواه هكذا لأقرانه من العلماء غُفْلاً من الدليل والتعليل ، وكأنها الحق الذي طبَّق المفصل وهَمَز الشاكلة عنده من الله فيه عهدٌ وبرهانٌ ؛= فليس هذا بفعل المخلصين ، وأولئك ليسوا بالصالحين . وما أعجب عجبي من أولئك الذين ينتحلون الظاهر ، ويمشقونها تَسْعَلُ في صدور أوراقهم : ( أهل الظاهر : الإسلام كما أنزله الله .. أو كما شرعه الله ) ، وما حسبت مؤمنًا يدَّعي في دين الله كهذه الدعوى المقيتة ! ، أن يحتجن من رحمة الله - فيما يلهم المؤمنين من فقهٍ وبصيرةٍ وهدًى - لنفسه المغرورة دونهم ، ألا سَعِدَتْ بالنور بصائر عن أهون من هذا كانت تَفْرق وتَحَاشى - عزازةً لدين الله وتَجِلَّةً ! . |