النص - الفصل السابع والأخير كن أول من يقيّم
ولمّا تكامل حصول المال الذي هو ألف تُومان، أخذه ابن مُفلح وحمله إلى تيمور، فقال تيمور لابن مُفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا إنما هو يسوى ثلاثة آلاف ألف دينار، وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر لي أنكم عجزتُم.
وكان تيمور لمّا اتّفق أولاً مع ابن مفلح على ألف ألف دينار، يكون ذلك على أهل دمشق خاصّة، والذي تركته العساكر المصريّة من السّلاح والأموال يكون لتَيمور. فخرج إليه ابن مفلح بأموال أهل مصر جميعها، فلمّا صارت كلّها إليه وعلم أنه استولى على أموال المصريين، ألزمهم بإخراج أموال الذين فرّوا من دمشق، فسارعوا أيضاً إلى حمل ذلك كلّه، وتدافعوا عنده حتى خلُص المال جميعه.
فلمّا كمل ذلك ألزمهم أن يُخرجوا إليه جميع ما في البلد من السّلاح، جليلها وحقيرها، فتتبّعوا ذلك وأخرجوه له، حتى لم يبق بها من السِّلاح شيء. فلمّا فَرَغ ذلك كلّه، قبض على ابن مفلح ورفقته()، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خُطط دمشق وحاراتها وسِكَكها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرّقه على أمرائه، وقَسَم البلد بينهم، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم، ونزل كلّ أمير في قسمه وطلب مَن فيه، وطالبهم بالأموال.
فحينئذٍ حَلَّ بأهل دمشق من البَلاء ما لا يوصَف، وأُجري عليهم أنواع العذاب من الضَّرب والعَصر والإحراق بالنّار، والتّعليق مَنكوساً، وغَمّ الأنف بخرقة فيها تُراب ناعم، كلّما تنفّس دخل في أنفه حتى تكاد نفسه تَزهَق. فكان الرّجل إذا أشرف على الهلاك يُخلّى عنه حتى يستريح، ثم تُعاد عليه العُقوبة أنواعاً، فكان المُعاقَب يحسد رفيقه الذي هلك تحت العقوبة على المَوت ويقول: يا ليتني أموت وأستريح ممّا أنا فيه!
ومع هذا كلّه تؤخَذ نساؤه وبناته وأولاده الذّكور، وتُقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرّجل المُعذَّب امرأته أو ابنته وهي توطأ، وولده وهو يُلاطُ به، فيصرخ هو من ألم العذاب، والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللّواط()، وكلّ ذلك من غير تستُّر في النّهار بحضرة المَلأ من النّاس.
ورأى أهل دمشق أنواعاً من العذاب لم يُسمع بمثلها، منها أنهم كانوا يأخذون الرّجل فتُشدُّ رأسُه بحبل ويلوونه حتى يغوص في رأسه، ومنهم مَن كان يضع الحبل بكتفي الرّجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكَتِفان، ومنهم من كان يربط إبهام يدي المُعذَّب من وراء ظهره، ثم يُلقيه على ظهره ويذرّ في منخريه الرّماد مسحوقاً، فيقرّ على ما عنده شيئاً بعد شيء، حتى إذا فرغ ما عنده لا يصدّقه صاحبه على ذلك، فلا يزال يكرّر عليه العذاب حتى يموت، ويعاقَب ميّتاً مَخافة أن يتماوَت. ومنهم مَن كان يُعلِّق المُعذَّب بإبهام يديه في سقف الدّار ويُشعل النّار تحته، ويطول تعليقه فربّما يسقط فيها، فيُسحب من النّار ويُلقوه على الأرض حتى يُفيق، ثم يعلّقه ثانياً.
واستمرّ هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوماً، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة، فهلك في هذه المدّة بدمشق بالعقوبة والجوع خَلقٌ لا يعلم عددهم إلا الله تعالى.
* * *
فلمّا علمتْ أمراء تيمور أنه لم يبق بالمدينة شيء، خرجوا إلى تيمور، فسألهم: هل بقي لكم تعلُّقٌ في دمشق؟ فقالوا: لا. فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق على أتباع الأمراء()، فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب، ومعهم سيوفٌ مسلولة مشهورة وهم مُشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدُّور وغيرها، وسَبوا نساء دمشق بأجمعهنّ، وساقوا الأولاد والرّجال، وتركوا من الصّغار من عُمره خمس سنين فما دُونَها، وساقوا الجميع مربوطين في الحبال.
ثم طرحوا النّار في المنازل والدُّور والمساجد، وكان يوم (sic.) عاصف الرّيح، فعمّ الحريق جميع البلد، حتى صار لهيب النّار يكاد أن يرتفع إلى السَّحاب، وعملت النّار في البلد ثلاثة أيام بلياليها، آخرها يوم الجمعة.
* * *
وكان تيمور - لعنه الله - سار من دمشق في يوم السبت ثالث شهر شعبان، بعد ما أقام على دمشق ثمانين يوماً، وقد احترقت كلّها وسقطت سقوف جامع بني أميّة من الحريق، وزالت أبوابه وتفطَّر رُخامُه، ولم يبقَ غيرُ جُدُره قائمة. وذهبت مساجد دمشق ودُورها وقياسرها وحمّاماتها، وصارت أطلالاً بالية ورُسوماً خالية، ولم يبق بها ]دابّة تدبُّ[() إلا أطفالٌ يتجاوز عددهم ]آلاف[()، فيهم مَن مات، وفيهم مَن سيموت من الجوع().
(النجوم الزّاهرة، 12: 227-245)
* * *
|