البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات أحمد إيبش

 14  15  16  17  18 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
إبراهيم متفرقة اسم لامع يجهله أكثرنا    كن أول من يقيّم

أخي الحبيب زهير:
بعد مزيد التحيّة والسّلام، ليت كتاب سهيل صابان كان موجوداً لدي. ولو كنت أعلم أن لك اهتماماً بالموضوع لكنت اقتنيت عن "إبراهيم متفرقة" كتاباً في إستانبول في آخر زيارة لي. إنما سأحاول غداً البحث في المراجع التركية لدي حول سيرة حياته. وأفيدك أن تمثالاً نصفياً له قد وضع منذ سنوات في ساحة صغيرة بداخل سوق الوراقين في إستانبول (ما يعرف بالتركية بسوق صحفلار).
لكن اسمح لي الآن من فضلك أن أصوّب نقطة بسيطة: الجيش العثماني لم يكن آنذاك أخذاً في غزو المجر، بل كان غزاها فعلاً قبل قرن ونيّف. ففي عام 1521 م تمكن الجيش العثماني من تمزيق الجيش الصربي في معركة كوسوفا الحاسمة، التي فتحت الطريق أمام العثمانيين إلى الظفر ببلغراد نفسها (يدعوها مؤرخونا آنذاك: بئر الأغراض). ثم سرعان ما أحس المجريون بالخطر، فقاموا بتجييش قواهم مع جيش كرواتي، فخفّ السّلطان العثماني سليمان القانوني بنفسه على رأس جيشه في عام 1526 واشتبك بالجيشين المذكورين في معركة موهاكس Mohács الفاصلة بأرض كرواتيا، وكانت نتيجة ذلك أن جيشه دخل المجر فاحتل أقساماً كبيرة منها، مع أقسام أخرى تتبع رومانيا (ترانسلفانيا). ولم يكن الجيش العثماني متفوقاً بالعدد، بل بات ليالي المعركة في العراء، بلا طعام أو ماء.
بوسع القارئ أن يتخيل لماذا يكره الصرب المسلمين، فلقد لقوا منهم في الماضي كسرات شنيعة، وأمرّها كانت معركة كوسوفا، الموئل التاريخي للشعب الصربي.
 
هذا كله بالطبع لا صلة له بإبراهيم متفرّقة، ذاك موضوع آخر ألخص لك ترجمته عقب إرسال موضوعي عن لقاء ابن خلدون بتيمورلنك عند أسوار دمشق الغربية. أرجو إمهالي بعض الوقت، وشكراً.

10 - مارس - 2008
إبراهيم متفرقة وجهوده في إنشاء المطبعة العربية
التعريف بابن خلدون    كن أول من يقيّم

عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، أبو زيد وليّ الدّين الحَضْرَمي، المؤرّخ الفيلسوف الطائر الصّيت، العالم الاجتماعي البحّاثة.  أصله من إشبيلية ومولده بتونس عام 732 هـ ومنشؤه بها.  رحل إلى فاس وغرناطة وتلمسان والأندلس وتولّى أعمالاً، وعاد إلى تونس.  ثم توجّه إلى مصر فأكرمه سلطانها المملوكي الظاهر برقوق، وولي فيها قضاء المالكية لمرّات عديدة كان أولها عام 786 هـ، وكان محتفظاً بزيّ بلاده معروفاً به.
في عام 803 هـ سافر ابن خلدون إلى الشام بمنتصف شهر ربيع الأول، صحبة حاشية السّلطان الفتى النّاصر فرج ابن السّلطان الظاهر برقوق، للدّفاع عن دمشق في وجه جيوش تيمورلنك، وكان له اللقاء الشهير مع الطاغية المغولي على أبواب المدينة أثناء حصار جيوش المغول لها.  هذا اللقاء روى لنا وقائعه عدد من المؤرّخين، من بينهم ابن عَرَبْشاه في كتابه »عجائب المَقدور في نوائب تَيْمُور«، وابن قاضي شُهبَة في تاريخه الشهير، غير أن المستشرق كراتشكوڤسكي يرى في مضمون هذه الرّواية تزويقاً مُبالغاً فيه.  بينما يتّضح من سَرد ابن خلدون لوقائع اللقاء - إن صَدَق - أنه أصاب لدى تَيْمُور مكانة وحُظوة، ولو أنه بدا أمام الطاغية المغولي ضعيفاً وصاغراً، لم يجرؤ على التّعبير عن أدنى معارضة أو محاولة لمقاومة الغزاة، على نقيض ما كنا رأيناه في مجلس سابق في »الورّاق« حول مغامرة البطل المجهول الصّارم أوزْبك. 
توفي ابن خلدون فجأة بالقاهرة عام 808 هـ، وكان فصيحاً جميل الصورة عاقلاً، صادق اللهجة عزوفاً عن الضَّيْم طامحاً للمراتب العالية.  وكان لمّا رحل إلى الأندلس اهتزّ له سُلطانها وأركب خاصّته لتلقّيه، وأجلسه في مجلسه.
اشتهر ابن خلدون بمؤلفات عديدة، لكن أجلّها وأسماها اعتباراً بين باحثي العربية كتابه »العبَر وديوان المُبتدأ والخَبَر، في تاريخ العرب والعجم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر«، في سبعة مجلدات.  وهو كتاب في التاريخ العام، اشتهرت منه بوجه الخصوص مقدّمته التي أفردت باسم »مقدّمة ابن خلدون«، وهي تُعدّ بحق من أصول علم الاجتماع، طُبعت وحدها مراراً وتُرجمت إلى الفرنسية وإلى لغات أخرى عديدة.  أول من طبعها كان المستشرق الفرنسي كاترمير  E. M. Quatremère  في ثلاثة أجزاء بباريس سنة 1858، وعلى هذه الطبعة بنى المستشرق الفرنسي دى سلان  De Slane  ترجمته الفرنسية لمقدّمة العبَر الصادرة في باريس سنة 1862، بثلاثة مجلدات أيضاً.  وفي عام 1867 نُشر كتاب العبَر كاملاً في بولاق بمصر بعناية الشيخ نصر الهوريني.
وختم ابن خلدون كتاب »العبَر« بفصل عنوانه: »التّعريف بابن خلدون«، ذكر فيه نسبته وسيرته وما يتّصل به من أحداث عصره، ورحلته إلى المشرق بمصر والحجاز عام 789 هـ.  ثم أفرد هذا الفصل فتبسّط فيه وجعله ذيلاً للعبر وسمّاه:  »التّعريف بابن خلدون مؤلّف الكتاب، ورحلته غرباً وشرقاً«.  وقام بنشر »التّعريف« مع مقدّمة ابن خلدون مُترجماً إلى الفرنسية المستشرق دى سْلان، ثم نشره بالعربية العلاّمة المغربي محمد بن تاويت الطَّنجي، وطُبع ضمن منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة في عام 1951.
ومن هذه النّشرة أخذنا النص المتعلّق بإقامة ابن خلدون بدمشق، وبخاصّة فترة نيابة الأمير المملوكي تَنم الحَسَني الظاهري بدمشق ومصرعه مع الأمير الكبير الأتابك أيْتَمش البجّاسي على يد السّلطان عام 802 هـ، ثم عن سفر ابن خلدون مع السّلطان الناصر فَرَج إلى دمشق عام 803 هـ للقاء جيوش المغول.
يروي ابن خلدون بعد ذلك خشية السّلطان فَرَج من سفر أعوان فتنة أيْتَمش البجّاسي وتَنم الحَسَني إلى مصر، لئلاّ يتابعوا فيها أعمال العصيان، فانسحب إلى مصر خوفاً على مُلكه المضطرب.  وهذه كانت من تتمّات حوادث الثّورة ضدّ أبيه الظاهر بَرْقوق بقيادة الأمير المملوكي منْطاش، وكنتُ ذكرت حول ذلك تفاصيل وافية في دراسة نشرتها تتضمّن نصّ رحلة ابن حجّة الحموي لدمشق عام 791 هـ، وتلوه نصّ رحلة السّلطان برقوق إليها عام 796 هـ برواية ابن صَصْرى.
يلي ذلك النّص الهام جدّاً الذي يصف به مُجريات لقائه بالطاغية تيمورلنك على أبواب دمشق ومحاوراتهما، وكيف أخفق العُلماء في تليين قلب الغازي على المدينة، فأعقب ذلك اجتياح المغول لدمشق وتدميرهم الهمجي لها، بعد أن كانت دُرّة المشرق إبّان نهضتها العمرانية والحضارية الكبرى في العهد المملوكي.  ودفعاً للإطالة، عمدتُ إلى اختصار بعض الحشو ما أمكن.
يذكّرنا النصّ - وشتّان بين الرّجلين - بما مرّ بذكر المملوك الصّارم أوزْبك، البطل الذي قابل الطاغية التّتري هُولاگو خان وقام بدور هام للغاية على الصعيد الاستخباراتي والعملياتي، كان له أكبر الأثر في نصر عين جالوت.
 
المصــادر:
التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً، مقدمة الطنجي.
كتاب العبر لابن خلدون، المقدّمة والمتن.
الضوء اللامع للسخاوي، 4: 145.
تاريخ الأدب الجغرافي العربي لكراتشكوڤسكي، 439-445.
دائرة المعارف، بإدارة فؤاد أفرام البستاني، 3: 26-40.
تيمورلنك وحكايته مع دمشق للعلبي، 163.
دمشق الشّام في نصوص الرّحالين العرب، د. أحمد إيبش، 2: 549.
De Slane, M.G.: Autobiographie d’Ebn Khaldoun, Paris, 1862.
Fischel, Walter J., Ibn Khaldun in Egypt: His public functions and his historical research (1382-1406), A study in Islamic Historiography, University of California Press, Berkeley 1967.
 

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
الفصل الأول    كن أول من يقيّم

من فصل
ولاية القضاء الثانية بمصر
ما زلتُ منذ العزل عن القضاء الأول سنة سبع وثمانين، مُكبّاً على الاشتغال بالعلم تأليفاً وتدريساً، والسّلطان([1]) يُولّي في الوظيفة من يراه أهلاً متى دعاه إلى ذلك داعٍ، من موت القائم بالوظيفة أو عَزله، وكان يراني الأولى بذلك لولا وجود الذين شَغّبوا من قبل في شأني من أمراء دولته وكبار حاشيته، حتى انقرضوا.
واتّفقت وفاة قاضي المالكيّة إذْذاك ناصر الدّين ابن التَّنَسي، وكنتُ مُقيماً بالفَيّوم لضمّ زرعي هناك، فبعث عني وقلّدني وظيفة القضاء في منتصف رمضان من سنة إحدى وثمانمائة.  فجريتُ على السَّنَن المعروف مني، من القيام بما يجب للوظيفة شرعاً وعادةً.  وكان رحمه الله يرضى بما يسمع عني في ذلك.
ثم أدركته الوفاة في منتصف شوّال بعدها، وأحضر الخليفة والقُضاة([2]) والأمراء، وعَهد إلى كبير أبنائه فَرَج ولإخوته من بعده واحداً واحداً، وأشهدهم على وصيّته بما أراد، وجعل القائم بأمر ابنه في سلطانه إلى أتابكه أيْتَمش([3]).  وقضى، رحمة الله عليه، وترتّبت الأمور من بعده كما عهد لهم.  وكان النائب بالشّام يومئذ أمير من خاسكيّة السّلطان يُعرف بتَنم، وسمع بالواقعات بعد السّلطان، فغَصّ أن لم يكن هو كافل ابن الظاهر بعده ويكون زمام الدّولة بيده.  وطفق سَماسرة الفتن يُغرونه بذلك.
وبينما هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك أيْتَمش، وذلك أنه كان للأتابك دَوَادار غرّ يتطاول إلى الرّئاسة، ويترفّع على أكابر الدّولة بحظّه من أستاذه، وما له من الكفالة على السّلطان.  فنقموا حالهم مع هذا الدّوادار، وما يسومهم به من الترفّع عليهم والتعرّض لإهمال نصائحهم، فأغروا السّلطان بالخروج عن رقّة الحَجْر، وأطاعهم في ذلك.  وأحضر القضاة بمجلسه للدّعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل بما عُلم من قيامه بأمره وحُسن تصرّفاته، وشهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافّةً، وأهل المراتب والوظائف منهم، شهادةً قَبلَها القضاة، وأُعذروا إلى الأتابك فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم.
ونَفَذ الحكم يومئذ برفع الحجْر عن السّلطان في تصرّفاته وسياسة مُلكه، وانفضّ الجَمع، ونزل الأتابك من الإسطبل إلى بيت سُكناه، ثم عاوَد الكثيرُ من الأمراء نظرهم فيما أتوه من ذلك، فلم يروه صواباً وحملوا الأتابك على نقضه والقيام بما جعل له السّلطان من كفالة ابنه في سُلطانه.  وركب وركبوا معه في آخر شهر المولد النّبوي، وقاتلهم أولياء السّلطان فَرَج عشيّ يومهم وليلتها فهزموهم، وساروا إلى الشام مستصرخين بالنائب تَنم([4]) وقد وَقَر في نفسه ما وَقَر من قبل، فبَرَّ وفادتهم وأجاب صريخهم، واعتزموا على المضيّ إلى مصر.
وكان السّلطان لمّا انفضَّت جموع الأتابك وسار إلى الشام اعتمله في الحركة والسّفر لخَضْد شوكتهم وتفريق جماعتهم.  وخرج في جُمادى حتى انتهى إلى غزّة، فجاءه الخبر بأن نائب الشام تَنم والأتابك والأمراء الذين معه خرجوا من الشام زاحفين للقاء السّلطان، وقد احتشدوا وأوعبوا وانتهوا قريباً من الرّملة .  فراسلهم السّلطان مع قاضي القضاة الشافعي صدر الدّين المُناوي، وناصر الدّين الرَّمّاح أحد المعلّمين لثقافة الرّماح، يُعذر إليهم ويحملهم على اجتماع الكلمة وترك الفتنة وإجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم، فاشتطّوا في المطالب وصمّموا على ما هم فيه.
 ووصل الرّسولان بخبرهم، فركب السّلطان من الغد وعبّا عساكره وصمّم لمعاجلتهم، فلقيهم أثناء طريقه وهاجمهم فهاجموه، ثم ولّوا الأدبار منهزمين وصُرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه، فما غشيهم الليل إلا وهم مصفّدون في الحديد، يقدمهم الأمير تَنم نائب الشام وأكابرهم كلهم.
ونجا الأتابك أيْتَمش إلى القلعة بدمشق، فآوى إليها واعتقله نائب القلعة.  وسار السّلطان إلى دمشق، فدخلها على التعبئة في يوم أغرّ، وأقام بها أيّاماً، وقتل هؤلاء الأمراء المعتقلين وكبيرهم الأتابك ذبْحاً، وقتل تَنم من بينهم خنقاً، ثم ارتحل راجعاً إلى مصر.


([1]) أي السّلطان المملوكي الظاهر برقوق، وهو أول سلاطين المماليك البُرجيّة الچراكسة، تولّى الحكم سنة 784 هـ بعد أن خلع الملك الصالح حاجي بن شعبان، فكانت مدّة حكم برقوق 16 سنة وبضع شهور.  قامت عليه في الشام عام 791 هـ فتنة لخلعه.
([2]) كان حضر ابن خلدون ممن مجلس هذه الوصيّة، ذكر ذلك ابن العَيني في عقد الجُمان، حوادث سنة 801 هـ.
([3]) أيتَمش بن عبد الله الأسنْدَمري البجّاسي الجُرجاني الأمير سيف الدّين، أتابك العساكر بالدّيار المصريّة، أصله من مماليك أسنْدَمر الجُرجاني.  قُتل مع تَنم سنة 802 هـ.  ترجمته في المنهل الصافي لابن تغري بَرْدي.
([4]) الأمير سيف الدّين تَنم tanım ابن عبد الله الحسني الظاهري، اسمه الأصلي تَنْبك tan-bey (بالتركية: أمير فَجْر)، من مماليك الظاهر برقوق، وكان نائب دمشق في أيامه.

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
الفصل الثاني    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

]زيارة ابن خلدون لبيت المَقدس[
وكنتُ استأذنتُ في التقدّم إلى مصر بين يدي السّلطان لزيارة بيت المقدس، فأذن لي في ذلك، ووصلتُ إلى القُدس ودخلتُ المسجد وتبرّكتُ بزيارته والصّلاة فيه، وتعفّفتُ عن الدّخول إلى القُمامة لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن، إذ هو بناء أمم النّصرانيّة على مكان الصّليب بزعمهم، فنكرته نفسي ونكرتُ الدّخول إليه، وقضيتُ من سُنن الزّيارة ونافلتها ما يجب.
وانصرفتُ إلى مدفن الخليل عليه السّلام.  ومررتُ في طريقي إليه ببيت لحم، وهو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح، شيَّدت القياصرة([1]) عليه بناءً بسماطين من العمد الصّخور مُنجّدة مُصْطَفَّة، مرقوماً على رؤوسها صور ملوك القياصرة وتواريخ دُولهم، ميَسَّرة لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتّراجمة العارفين لأوضاعها.  ولقد يشهد هذا المصنع بعظَم مُلك القياصرة وضخامة دولتهم.
ثم ارتحلتُ من مدفن الخليل إلى غَزّة، وارتحلتُ منها فوافيتُ السّلطان بظاهر مصر، ودخلتُ في ركابه أواخر شهر رمضان سنة اثنين وثمانمائة.  وكان بمصر فقيه من المالكيّة يُعرف بنُور الدّين ابن الخَلاّل، ينوب أكثر أوقاته عن قُضاة القضاة المالكية، فحرّضه بعض أصحابه على السّعي في المنصب، وبَذل بعض موجوده لبعض بطانة السّلطان السّاعين له في ذلك.  فتمّت سعايته في ذلك، ولبس منتصف المحرّم سنة ثلاث، ورجعتُ أنا للاشتغال بما كنتُ مُشتغلاً به من تدريس العلم وتأليفه، إلى أن كان السّفر لمدافعة تَمُر عن الشام.


([1]) يعني القياصرة البيزنطيين، وبالفعل كانت الدّولة البيزنطية آنذاك وعاصمتها القسطنطينية (إستانبول حالياً)من أعظم ممالك الدّنيا، وكان أكثر المشرق جارياً في مُلكهم منذ عام 395 م، بما في ذلك سورية وفلسطين، إلى أن فتح المسلمون القُدس عام 638 م وحافظوا على المقدّسات المسيحية فيها.

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
الفصل الثالث    كن أول من يقيّم

من فصل
سفر السّلطان إلى الشام لمدافعة الطَّطَر عن بلاده
ثم زحف تَمُر إلى الشام سنة ست وتسعين وبلغ الرُّهَا، والظاهر يومئذ على الفرات، فخامَ تَمُر عن لقائه وسار إلى محاربة طُقْطَمش فاستولى على أعماله كلها، ورجعت قبائل المُغُل إلى تَمُر وساروا تحت رايته...
ثم بلغه هنالك([1]) مهلك الظاهر برقوق بمصر، فرجع إلى البلاد ومرّ على العراق ثم على أرمينية وأرزنكان حتى وصل سيواس فخرّبها وعاث في نواحيها، ورجع عنها أول سنة ثلاث من المائة التاسعة، ونازل قلعة الرُّوم فامتنعت، وتجاوزها إلى حلب، فقابله نائب الشام وعساكره في ساحتها ففضّهم، واقتحم المُغُل المدينة من كلّ ناحية، ووقع فيها من العيث والنّهب والمصادرة واستباحة الحُرَم ما لم يعهد الناس مثله([2]).
ووصل الخبر إلى مصر، فتجهّز السّلطان فَرَج ابن الملك الظاهر إلى المُدافعة عن الشام، وخرج في عساكره من التُّرك مسابقاً المُغُل وملكهم تَمُر أن يصدّهم عنها.


([1]) أي في دلّي (دلهي بالهند) حيث غزا البلاد يعيث فساداً.  ونذكّر هنا أن ننقل باختصار.
([2]) جرى بحلب من فظائع المغول ما لا يقلّ عمّا جرى إثرها بدمشق، انظر نصّ الأمير تغري بَردي الأتابكي كما نقله ابنه المؤرخ أبو المحاسن يوسف ابن تغري بردي.

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
الفصل الرابع    كن أول من يقيّم

من فصل
لقاء الأمير تَمُر سلطان المُغُل والطَّطَر
لمّا وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تَمُر مَلَكَ بلاد الرُّوم وخَرّب سيواس ورجع إلى الشام، جمع السّلطان عساكره وفتح ديوان العطاء ونادى في الجند بالرّحيل إلى الشام، وكنتُ أنا يومئذ معزولاً عن الوظيفة، فاستدعاني دَوَاداره يَشْبك وأرادني على السّفر معه في ركاب السّلطان، فتجافيتُ عن ذلك، ثم أظهر العزم عليّ بليّن القول وجزيل الإنعام، فأصخيتُ وسافرتُ معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث، فوصلنا إلى غزّة فأرحنا بها أياماً نترقّب الأخبار، ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الطَّطَر إلى أن نزلنا شقحب.
وأسرينا فصبّحنا دمشق، والأمير تَمُر في عساكره قد رحل من بعلبك قاصداً دمشق، فضرب السّلطان خيامه وأبنيته بساحة قبّة يَلْبُغا، ويئس الأمير تَمُر من مهاجمة البلد، فأقم بمرقب على قبّة يَلبُغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثاً أو أربعاً، فكانت حربهم سجالاً.
ثم نمي الخبر إلى السّلطان وأكابر أمرائه أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها، فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشيةً من انتقاض الناس وراءهم واختلال الدولة بذلك([1]).  فأسروا ليلة الجمعة من شهر ]جُمادى الأولى[ وركبوا جبل الصّالحية ثم انحطّوا في شعابه وساروا على شافة البحر إلى غزّة، وركب الناس ليلاً يعتقدون أن السّلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر، فساروا عصباً وجماعات على شَقْحَب إلى أن وصلوا إلى مصر، وأصبح أهل دمشق متحيّرين قد عميت عليهم الأنباء.
وجاءني القضاة والفقهاء، واجتمعت بمدرسة العادلية، واتّفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تَمُر على بيوتهم وحُرَمهم، وشاوروا في ذلك نائب القلعة، فأبى عليهم ذلك ونكره فلم يوافقوه، وخرج القاضي برهان الدين ابن مُفلح الحنبلي([2]) ومعه شيخ الفقراء بزاوية ]...[ فأجابهم إلى التأمين، وردّهم باستدعاء الوجوه والقضاة، فخرجوا إليه متدلّين من السّور بما صحبهم من التَّقدمة، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرّقاع بالأمان وردّهم على أحسن الآمال، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد، وتصرُّف الناس في المعاملات، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها ويملك أمرهم بعزّ ولايته.
وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عني، وهل سافرتُ مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت.  وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض الناس تشاجُرٌ في المسجد الجامع، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول.  وبلغني الخبر من جوف الليل، فخشيتُ البادرة على نفسي.


([1]) هذا في الواقع سبب سقوط دمشق بيد تيمورلنك، لانسحاب الناصر فرج إلى مصر خوفاً على ملكه المضطرب فيها.  راجع ما يرد في نصّ الأمير تَغري بَردي الظاهري، الذي توجّه إلى الشام بحملة حربية بُغية ترتيب قوّاتها للدفاع في وجه الغازي المغولي الرّهيب.  لكن للأسف ذهبت جهوده أدراج الرّياح بسبب شكوك أعوان السّلطان بأنه موالٍ للثائرين على النّاصر بدمشق، فراحت دمشق ضحية السياسة الخرقاء.
([2]) اختير القاضي برهان الدين إبراهيم بن محمّد بن مفلح (توفي 803 هـ) للتفاوض مع تيمورلنك لمعرفته بالتركية والفارسية، فانطلت عليه عهوده بالأمان، وأقنع الدمشقيين بقبولها وسكّن خواطرهم، ثم نقض تيمور كل ما أبرمه معه واجتاح المدينة غدراً، لا بل استغلّ معرفته بحارات المدينة وأزقتها فألزمه بكتابة أسمائها وأوصافها في جرد مفصّل.

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
الفصل الخامس    كن أول من يقيّم

وبكّرتُ سَحَراً إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبتُ الخروج أو التدلّي من السّور، لما حدث عندي من توهّمات ذلك الخبر([1]).  فأبوا علي أولاً، ثم أصخوا لي ودلّوني من السّور، فوجدتُ بطانته عند الباب ونائبه الذي عيّنه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك من بني جَقطاي أهل عصابته، فحيّيتهم وحيّوني وفدّيت وفدّوني، وقدّم لي شاه ملك مركوباً، وبعث معي من بطانة السّلطان من أوصلني إليه.
فلمّا وقفتُ بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التّعريف باسمي أني القاضي المالكي المغربي.  فاستدعاني، ودخلتُ عليه بخيمة جلوسه متكئاً على مرفقه، وصحاف الطعام تَمُرُّ بين يديه، يشير بها إلى عُصَب المُغُل جلوساً أمام خيمته حلقاً حلقاً.
فلما دخلتُ عليه فاتحتُ بالسلام، وأوميتُ إيماءة الخضوع، فرفع رأسه ومدّ يده إليَّ فقبّلتُها، وأشار بالجلوس فجلستُ حيث انتهيت، ثم استدعي من بطانته الفقيه عبد الجبّار بن النُّعمان([2]) من فقهاء الحنفيّة بخُوارزم، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني من أين جئتُ من المغرب؟  ولمَ جئت؟  فقلتُ: جئتُ من بلادي لقضاء الفرض، ركبت إليها البحر ووافيتُ مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع ]وثمانين[ من هذه المائة الثامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظاهر على تخت المُلك لتلك العشرة الأيام بعَدَدها.
فقال لي: وما فعل معك؟  قلتُ: كلَّ خير، برّ مَقْدمي وأرغد قراي وزوّدني للحجّ.  ولمّا رجعتُ وفّر جرايتي، وأقمتُ في ظلّه ونعمته رحمه الله وجزاه.  فقال: وكيف كانت توليتُه إيّاك القضاء؟  فقلتُ: مات قاضي المالكيّة قبل موته بشهر، وكان يظنّ بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة، وتحرّي المعدلة والحقّ والإعراض عن الجاه.  فولاّني مكانه، ومات لشهر بعدها، فلم يرضَ أهل الدّولة بمكاني، فأدالوني منها بغيري، جزاهم الله.
فقال لي: وأين مولدك؟  فقلتُ: بالمغرب الجوّاني كاتب للملك الأعظم هنالك.  فقال: وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟  فقلتُ: هو في عُرف خطابهم معناه الدّاخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كلّه على ساحل البحر الشامي من جنوبه.  فالأقرب إلى هنا بَرْقَة، وإفريقية، والمغرب الأوسط: تلمسان وبلاد زناتة، والأقصى: فاس ومرّاكش، وهومعنى الجوّاني.
فقال لي: وأين مكان طَنْجَة من ذلك المغرب؟  فقلتُ: في الزّاوية التي بين البحر المُحيط والخليج المُسمّى بالزُّقاق، وهو خليج البحر الشامي([3]).  فقال: وسَبْتَة؟  فقلتُ: على مسافة من طَنْجة على ساحل الزُّقاق، ومنها التَّعدية إلى الأندلُس لقُرب مسافته، لأنها هناك نحو العشرين ميلاً.  فقال: وفاس؟  فقلت: ليست على البحر، وهي في وسط التّلول وكُرسي ملوك المغرب من بني مَرين.  فقال: وسجلماسَة؟  قلتُ: في الحَدّ ما بين الأرياف والرّمال من جهة الجنوب.
فقال: لا يقنعني هذا، وأحبُّ أن تكتب لي بلاد المغرب كلها، أقاصيها وأدانيها، وجباله وأنهاره وقُراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده([4]).  فقلتُ: يحصل ذلك بسعادتك.  وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبتُ الغَرَض فيه في مختصر وجيز يكون قدر ثنتي عشرة من الكراريس المنصّفة القَطع.


([1]) ذكر المقريزي في السّلوك (حوادث 803 هـ): وكان قاضي القضاة وليّ الدّين عبد الرّحمن ابن خلدون المالكي بداخل دمشق، فلمّا علم بتوجّه السّلطان تدلّى من سُور المدينة، وسار إلى تَيْمُور فأكرمه وأجلّه وأنزله عنده، ثم أذن له في المسير إلى مصر فسار إليها.
([2]) عبد الجبّار بن النّعمان المعتزلي أحد خواصّ تيمورلَنك الذين طافوا معه البلاد وكان رئيساً للفُقهاء عنده، ذكر ابن المبرد في »الرّياض« أنه: »كان يمتحن العلماء ويناظرهم بين يديّ اللّنك، وهو من قلّة الدّين على جانب كبير«.  توفي سنة 808 هـ.
([3]) البحر الشامي هنا يعني البحر الأبيض المتوسّط، وكان يُعرف آنذاك أيضاً ببحر الرّوم .
([4]) لا شك أن الغاية كانت جمع البيانات الاستخبارية العامّة، تمهيداً لغزو المغرب أيضاً.

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
الفصل السادس    كن أول من يقيّم

ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمّونه الرّشته([1])، ويُحكمونه على أبلغ ما يمكن، فأحضرت الأواني منه وأشار بعرضها عليّ، فمثلتُ قائماً وتناولتها وشربتُ واستطبتُ، ووقع ذلك منه أحسن المواقع.  ثم جلستُ وسكتنا وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية صدر الدين المُناوي، أسره التابعون لعسكر مصر بشقحب وردّوه، فحُبس عندهم في طلب الفدية منه، فأصابنا من ذلك وجل، فزوّرتُ في نفسي كلاماً أخاطبه به وأتلطّفه بتعظيم أحواله ومُلكه([2])...
فوقع في نفسي لأجل الوَجَل الذي كنتُ فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح إليه ويأنس به مني، ففاتحته وقلتُ: أيّدك الله!  لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك.  فقال لي التّرجمان عبد الجبّار: وما سببُ ذلك؟  فقلتُ: أمران، الأول أنك سُلطان العالم ومَلك الدّنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد مَلك مثلُك، ولستُ ممّن يقول في الأمور بالجُزاف، فإني من أهل العلم، وأبيّن ذلك فأقول:
إن المُلك إنما يكون بالعَصبيّة، وعلى كثرتها يكون قَدر المُلك، واتّفق أهل العلم من قبل ومن بعد أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والتُّرك، وأنتم تعلمون مُلك العرب كيف كان لمّا اجتمعوا في دينهم على نبيّهم، وأمّا التُّرك ففي مُزاحمتهم لملوك الفُرس، وانتزاع مُلك أفراسياب خُراسان من أيديهم شاهدٌ بنصابهم من المُلك.  ولا يساويهم في عصبيّتهم أحدٌ من ملوك الأرض من كسرى أو قَيْصَر أو الإسكندر أو بُختَنَصَّر، أما كسرى فكبير الفُرس ومليكُهم، وأين الفُرس من التُّرك؟  وأما قَيْصَر والإسكندر فملوك الرّوم، وأين الرُّوم من التُّرك؟  وهذا بُرهانٌ ظاهر على ما ادّعيتُه في هذا المَلك.
وأمَّا الأمر الثاني مما يحملني على تمنّي لقائه، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحَدَثان بالمغرب والأولياء، وذكرتُ ما قَصَصتُه من ذلك قبل([3]).  فقال لي: وأراك قد ذكرتَ بُختَنَصَّر مع كسرى وقَيْصَر والإسكندر، ولم يكن في عدادهم، لأنهم مُلوكٌ أكابر، وبُختنصّر قائد من قوّاد الفُرس، كما أنا نائب من نوّاب صاحب التَّخت، وهو هذا.. وأشار إلى الصّفّ القائمين وراءه، وكان واقفاً معهم، وهو رَبيبُه الذي تقدّم لنا أنه تزوّج أمّه بعد ساطْلُمُش([4])، فلم يُلْفه هناك، وذكر له القائمون في ذلك الصّفّ أنه خرج عنهم.
فرجع إليّ وقال: ومن أيّ الطوائف هو بُخْتَنَصَّر؟  فقلتُ: بين الناس فيه خلاف، فقيل من النَّبَط([5]) بقيّة ملوك بابل، وقيل من الفُرس الأولى، فقال: يعني من وَلَد مَنُوشهر.  قلت: نعم، هكذا ذكروا، فقال: ومَنُوشهر له علينا ولادة من قبَل الأمّهات.  ثمّ أفَضْتُ مع التّرجمان في تعظيم هذا القول منه، وقلتُ له: وهذا ممّا يحملني على تمنّي لقائه.
فقال الملك: وأيُّ القولين أرجح عندك فيه؟  فقلتُ: إنه من بقيّة ملوك بابل.  فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر.  فقلتُ: يعكّر علينا رأي الطَّبَري، فإنه مؤرّخ الأمّة ومحدّثهم، ولا يرجُحه غيره.  فقال: وما علينا من الطّبري؟  نُحضر كتب التاريخ للعرب والعجم، ونُناظرك.  فقلتُ: وأنا أيضاً أناظر على رأي الطّبري.


([1]) الرّشْتَه طعام يُصنع بعَدَس ولحم وشرائط من العجين.  ذكره المؤرّخ الدمشقي يوسف ابن عبد الهادي في رسالته »الطباخة« بالاسم والوصف ذاته.  ولا زالت الرّشتايه إلى اليوم بدمشق تُطلق على أكلة بها شرائط عجين، ومن مشتقّاتها أكلتان شعبيّتان: ستّي زْبقي وحرّاق أصبعه.
([2]) يتابع ابن خلدون هنا نصّاً طويلاً عن تقوّل المنجمين بظهور الغازي تيمورلنك وتنبّؤهم بغزواته وأعماله، ويختتم بقوله: »فكان في نفسي من ذلك كلّه ترقُّبٌ له«.
([3]) في الفقرة المطوّلة أعلاه التي ذكرنا أننا حذفناها، حول أقوال المنجّمين.
([4]) في مطلع الفصل السابق (سفر السّلطان إلى الشام) ذكر ابن خلدون لمحة مفيدة عن تاريخ قبائل الجَقْطاي وقيام دولتهم ومَلكهم ساطْلُمُش المذكور، وأنه مات عن ابن وحيد اسمه محمود، فكفله تيمور كبير أمراء الجَقْطاي وتزوّج أمه وقام بأمور المملكة.
([5]) تعبير النَّبَط بالمُصطلح العربي القديم يُقصد به كافّة الشعوب السّاميّة الشرقيّة الكلدانية التي تتحدّث وتكتب بهجات كلدان (أم الفرع الشرقي)، كالآشوريين والبابليّين والآراميّين.

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
الفصل السابع    كن أول من يقيّم

وانتهى بنا القول، فسكتُّ.  وجاء الخبر بفتح المدينة، وخروج القضاة وفاءً بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان، فرُفع من بين أيدينا، لما في رُكبته من الداء، وحُمل على فرسه فقبض شكائمه واستوى في مركبه، وضُربت الآلات حفافيه حتى ارتجّ لها الجو، وسار نحو دمشق، ونزل في تربة مَنْجَك([1]) عند باب الجابية، فجلس هناك ودخل إليه القضاة وأعيان البلد، ودخلتُ في جملتهم، فأشار إليهم بالانصراف وإلى شاه ملك نائبه أن يخلع عليهم في وظائفهم، وأشار إلي بالجلوس، فجلستُ بين يديه.
ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء، فأحضروا عُرفاء البُنيان المهندسين، وتناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة لعلّهم يعثرون بالصّناعة على منفذه، فتناظروا في مجلسه طويلاً، ثم انصرفوا.
وانصرفتُ إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنتُه في ذلك فأذن فيه، وأقمتُ في كسْر البيت، واشتغلتُ بما طلب مني في وصف بلاد المغرب، فكتبتُه في أيام قليلة، ورفعتُه إليه فأخذه من يدي، وأمر موقّعه بترجمته إلى اللسان المُغلي.
ثم اشتدّ في حصار القلعة([2])، ونصب عليها الآلات من المجانيق والنُّفوط والعرّادات والنقب، فنصبوا لأيّام قليلة ستين منجنيقاً إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى، وضاق الحصار بأهل القلعة، وتهدم بناؤُها من كل جهة، فطلبوا الأمان.  وكان بها جماعة من خُدّام السّلطان ومخلّفه، فأمّنهم السّلطان تَمُر وحضروا عنده، وخرّب القلعة وطمس معالمها([3]).
وصادر أهل البلد على قناطر من الأموال استولى عليها، بعد أن أخذ جميع ما خلّفه صاحب مصر هنالك من الأموال والظَّهْر والخيام، ثم أطلق أيدي النهّابة على بيوت أهل المدينة، فاستوعبوا أناسيها وأمتعتها، وأضرموا النار فيما بقي من سَقَط الأقمشة والخُرثي، فاتّصلت النار بحيطان الدُّور المدعّمة بالخشب، فلم تزل تتوقّد إلى أن اتّصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه فسال رصاصُه وتهدّمت سُقُفه وحوائطه([4])، وكان أمراً بلغ مبالغه في الشَّناعة والقُبح، وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد، ويحكم في مُلكه ما يشاء([5]).


([1]) نائب الشام مَنْجَك اليوسفي (وليها 759 هـ ثم 770-775 هـ) دُفن عام 776 هـ بالقاهرة، لكن المقصود هنا حتماً تربة ابنه فَرَج قبلي مدرسة أفريدون العجمي بالسّويقة، وكانت له دار فخمة (النّجوم الزاهرة، 13: 119).  ولذريّة مَنْجَك تربة بالجزماتية في الميدان.
([2]) لماذا لم يُعلّق ابن خلدون بكلمة واحدة على نقض تيمورلنك لعهوده بالأمان للمدينة؟  هل اكتفى بنجاته شخصياً، ولتذهب المدينة بمَن حَوَت؟  وددنا لو أنه حاول ولو بكلمة واحدة أن يفعل شيئاً!  فأين منه همّة ذاك البطل الكبير صارم الدّين أوزبك.
([3]) لذلك يلاحظ الرائي اليوم أن قلعة دمشق، التي كان بناها الملك العادل أبو بكر محمد ابن أيوب (أخو السّلطان النّاصر صلاح الدّين) خلال 15 عاماً 599-614 هـ، لم يبق من بنائها الأصلي القديم إلا الواجهة الشرقية الواقعة في قلب المدينة قرب باب الفَرَج، وبها كتابات ونقوش أيوبيّة جميلة جداً.  أما واجهتاها الغربية والشمالية فلم يبق من بنائهما الأيوبي القديم شيء بعد أن هدمها الطاغية تيمورلنك.
([4]) انظر ما سيلي في نصّ الأمير تَغري بَرْدي الأتابكي حول فظائع المغول بدمشق.
([5]) هذا كل ما كلّف الرّجل خاطره بذكر فاجعة دمشق!  ثم بعد ذلك يذكر قدوم رجل من أعقاب بني العبّاس إلى تيمورلنك، مطالباً بدعمه للوصول إلى منصب الخلافة، وبعد مناظرات مع الفقهاء والقضاة ظهر بطلان دعواه فردّه.

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
الفصل الثامن    كن أول من يقيّم

الرجوع عن هذا الأمير تمُر إلى مصر
كنتُ لمّا لقيتُه وتدلّيت إليه من السّور كما مرّ، أشار عليّ بعض الصّحاب ممن يخبر أحوالهم بما تقدّمتْ له من المعرفة بهم، فأشار بأن أطرفه ببعض هدية، وإن كانت نَزْرة فهي عندهم متأكّدة في لقاء ملوكهم، فانتقيتُ من سوق الكتب مصحفاً رائعاً حسناً في جزء محذو، وسجَّادة أنيقة، ونُسخة من قصيدة البُردة المشهورة للأبوصيري في مدح النبي صلّى الله عليه وسلم، وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة.
وجئتُ بذلك فدخلتُ عليه، وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه، فلمّا رآني مقبلاً مَثَل قائماً وأشار إليّ عن يمينه، فجلستُ وأكابر من الجقطيّة حفافيه، فجلستُ قليلاً، ثم استدرتُ بين يديه وأشرتُ إلى الهدية التي ذكرتُها وهي بيد خُدّامي، فوضعتُها واستقبلني، ففتحتُ المُصحف فلمّا رآه وعرفه قام مُبادراً فوضعه على رأسه([1])، ثم ناولتُه البُردة فسألني عنها وعن ناظمها، فأخبرتُه بما وقفتُ عليه من أمرها، ثم ناولتُه السجّادة فتناولها وقبلها، ثم وضعتُ عُلب الحلوى بين يديه، وتناولتُ منها حَرفاً على العادة في التأنيس بذلك، ثم قَسَم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه، وتقبّل ذلك كله، وأشعر بالرضى به.
ثم حوّمتُ على الكلام بما عندي في شأن نفسي([2])، وشأن أصحاب لي هنالك، فقلتُ: أيّدك الله!  لي كلامٌ أذكره بين يديك، فقال: قُل.  فقلتُ: أنا غريبٌ بهذه البلاد غُربتين، واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشأي، وأخرى من مصر وأهل جيلي بها، وقد حصلتُ في ظلّك وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غُربتي، فقال: قُل الذي تريد أفعلْه لك. 
فقلتُ: حال الغُربة أنسَتني ما أريد، وعساك - أيّدك الله - أن تعرف لي ما أريد.  فقال: انتقل من المدينة إلى الأرْدو([3]) عندي، وأنا إن شاء الله أوفي كُنه قصدك.  فقلتُ: يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك، فأشار إليه بإمضاء ذلك.
فشكرتُ ودعوتُ وقلتُ: وبقيتْ لي أخرى، فقال: وما هي؟  فقلتُ: هؤلاء المُخلّفون عن سلطان مصر من القرّاء والموقّعين والدّواوين والعمّال، صاروا إلى إيالتك، والمَلك لا يُغفل مثل هؤلاء، فسُلطانكم كبير وعَمَالاتكم متّسعة وحاجة مُلككم إلى المتصرّفين في صنوف الخدم أشدُّ من حاجة غيركم.  فقال: وما تريد لهم؟  قلت: مكتوب أمان يستنيمون إليه ويعوّلون في أحوالهم عليه.  فقال لكاتبه: اكتب لهم بذلك.  فشكرتُ ودعوت، وخرجتُ مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب الأمان، وختمه شاه ملك بخاتم السّلطان، وانصرفتُ إلى منزلي.
*  *  *


([1]) يا للتُّقى والخشوع، لو كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، كان فعل ما فعل بالمدن والشعوب الآمنة؟
([2]) شأن نفسي!!  هذا هو المهمّ، لو أن الرّجل حكى ولو كلمة واحدة في رثاء المدينة وأهلها الملتاعين لترك للقارئ مجالاً يعذره، لكنه كشف عن نفس متقاعسة جبانة.
([3]) الكلمة تركية: ordu، وتعني الجيش أو المعسكر.

11 - مارس - 2008
خيانة ابن خلدون !!!
 14  15  16  17  18