التعريف بابن خلدون كن أول من يقيّم
عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، أبو زيد وليّ الدّين الحَضْرَمي، المؤرّخ الفيلسوف الطائر الصّيت، العالم الاجتماعي البحّاثة. أصله من إشبيلية ومولده بتونس عام 732 هـ ومنشؤه بها. رحل إلى فاس وغرناطة وتلمسان والأندلس وتولّى أعمالاً، وعاد إلى تونس. ثم توجّه إلى مصر فأكرمه سلطانها المملوكي الظاهر برقوق، وولي فيها قضاء المالكية لمرّات عديدة كان أولها عام 786 هـ، وكان محتفظاً بزيّ بلاده معروفاً به. في عام 803 هـ سافر ابن خلدون إلى الشام بمنتصف شهر ربيع الأول، صحبة حاشية السّلطان الفتى النّاصر فرج ابن السّلطان الظاهر برقوق، للدّفاع عن دمشق في وجه جيوش تيمورلنك، وكان له اللقاء الشهير مع الطاغية المغولي على أبواب المدينة أثناء حصار جيوش المغول لها. هذا اللقاء روى لنا وقائعه عدد من المؤرّخين، من بينهم ابن عَرَبْشاه في كتابه »عجائب المَقدور في نوائب تَيْمُور«، وابن قاضي شُهبَة في تاريخه الشهير، غير أن المستشرق كراتشكوڤسكي يرى في مضمون هذه الرّواية تزويقاً مُبالغاً فيه. بينما يتّضح من سَرد ابن خلدون لوقائع اللقاء - إن صَدَق - أنه أصاب لدى تَيْمُور مكانة وحُظوة، ولو أنه بدا أمام الطاغية المغولي ضعيفاً وصاغراً، لم يجرؤ على التّعبير عن أدنى معارضة أو محاولة لمقاومة الغزاة، على نقيض ما كنا رأيناه في مجلس سابق في »الورّاق« حول مغامرة البطل المجهول الصّارم أوزْبك. توفي ابن خلدون فجأة بالقاهرة عام 808 هـ، وكان فصيحاً جميل الصورة عاقلاً، صادق اللهجة عزوفاً عن الضَّيْم طامحاً للمراتب العالية. وكان لمّا رحل إلى الأندلس اهتزّ له سُلطانها وأركب خاصّته لتلقّيه، وأجلسه في مجلسه. اشتهر ابن خلدون بمؤلفات عديدة، لكن أجلّها وأسماها اعتباراً بين باحثي العربية كتابه »العبَر وديوان المُبتدأ والخَبَر، في تاريخ العرب والعجم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر«، في سبعة مجلدات. وهو كتاب في التاريخ العام، اشتهرت منه بوجه الخصوص مقدّمته التي أفردت باسم »مقدّمة ابن خلدون«، وهي تُعدّ بحق من أصول علم الاجتماع، طُبعت وحدها مراراً وتُرجمت إلى الفرنسية وإلى لغات أخرى عديدة. أول من طبعها كان المستشرق الفرنسي كاترمير E. M. Quatremère في ثلاثة أجزاء بباريس سنة 1858، وعلى هذه الطبعة بنى المستشرق الفرنسي دى سلان De Slane ترجمته الفرنسية لمقدّمة العبَر الصادرة في باريس سنة 1862، بثلاثة مجلدات أيضاً. وفي عام 1867 نُشر كتاب العبَر كاملاً في بولاق بمصر بعناية الشيخ نصر الهوريني. وختم ابن خلدون كتاب »العبَر« بفصل عنوانه: »التّعريف بابن خلدون«، ذكر فيه نسبته وسيرته وما يتّصل به من أحداث عصره، ورحلته إلى المشرق بمصر والحجاز عام 789 هـ. ثم أفرد هذا الفصل فتبسّط فيه وجعله ذيلاً للعبر وسمّاه: »التّعريف بابن خلدون مؤلّف الكتاب، ورحلته غرباً وشرقاً«. وقام بنشر »التّعريف« مع مقدّمة ابن خلدون مُترجماً إلى الفرنسية المستشرق دى سْلان، ثم نشره بالعربية العلاّمة المغربي محمد بن تاويت الطَّنجي، وطُبع ضمن منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة في عام 1951. ومن هذه النّشرة أخذنا النص المتعلّق بإقامة ابن خلدون بدمشق، وبخاصّة فترة نيابة الأمير المملوكي تَنم الحَسَني الظاهري بدمشق ومصرعه مع الأمير الكبير الأتابك أيْتَمش البجّاسي على يد السّلطان عام 802 هـ، ثم عن سفر ابن خلدون مع السّلطان الناصر فَرَج إلى دمشق عام 803 هـ للقاء جيوش المغول. يروي ابن خلدون بعد ذلك خشية السّلطان فَرَج من سفر أعوان فتنة أيْتَمش البجّاسي وتَنم الحَسَني إلى مصر، لئلاّ يتابعوا فيها أعمال العصيان، فانسحب إلى مصر خوفاً على مُلكه المضطرب. وهذه كانت من تتمّات حوادث الثّورة ضدّ أبيه الظاهر بَرْقوق بقيادة الأمير المملوكي منْطاش، وكنتُ ذكرت حول ذلك تفاصيل وافية في دراسة نشرتها تتضمّن نصّ رحلة ابن حجّة الحموي لدمشق عام 791 هـ، وتلوه نصّ رحلة السّلطان برقوق إليها عام 796 هـ برواية ابن صَصْرى. يلي ذلك النّص الهام جدّاً الذي يصف به مُجريات لقائه بالطاغية تيمورلنك على أبواب دمشق ومحاوراتهما، وكيف أخفق العُلماء في تليين قلب الغازي على المدينة، فأعقب ذلك اجتياح المغول لدمشق وتدميرهم الهمجي لها، بعد أن كانت دُرّة المشرق إبّان نهضتها العمرانية والحضارية الكبرى في العهد المملوكي. ودفعاً للإطالة، عمدتُ إلى اختصار بعض الحشو ما أمكن. يذكّرنا النصّ - وشتّان بين الرّجلين - بما مرّ بذكر المملوك الصّارم أوزْبك، البطل الذي قابل الطاغية التّتري هُولاگو خان وقام بدور هام للغاية على الصعيد الاستخباراتي والعملياتي، كان له أكبر الأثر في نصر عين جالوت. المصــادر: التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً، مقدمة الطنجي. كتاب العبر لابن خلدون، المقدّمة والمتن. الضوء اللامع للسخاوي، 4: 145. تاريخ الأدب الجغرافي العربي لكراتشكوڤسكي، 439-445. دائرة المعارف، بإدارة فؤاد أفرام البستاني، 3: 26-40. تيمورلنك وحكايته مع دمشق للعلبي، 163. دمشق الشّام في نصوص الرّحالين العرب، د. أحمد إيبش، 2: 549. |