أبو الزهور الفلسطيني كن أول من يقيّم
رأي الوراق :     
أستاذتنا الكريمة ضياء ،
وما اعتذرت إلا لأن الواجب رايته يقضي علي بان لا اغفل سفرا ضخما رائعا من هذه المشاركات القيمة التي ساهم فيها أصحابها من مشاركين ومشاركات ، وفيها من الشعر ومن النثر ما يشفي الغليل ، ويبريء السقيم العليل ، فكان اعتذاري عن غفلتي وتقصيري ، فمثل " أحاديث الوطن والزمن المتحول " لا يحق لي ان اغفل عنها .
ومن المشاركات التي اطلعت عليها مشاركتك بعنوان : مجنون (1) : زهير " أبو الزهور" ، التي أوحت لي بالمشاركة التالية عن ابي زهور طبق الأصل عن الذي ذكرته ، والتي استعرت لها في أولها بعضا من سطور مشاركتك القيمة :
أبو الزهور الفلسطيني
كنا نرى " أبو الزهور " الفلسطيني دائماً نظيفاً ، حليقاً ، متأنقاً في لباسه . كان يرتدي عادة البدلة والطربوش ويزين نفسه بأنواع من الزهور مختلفة ، يضعها في جيب سترته ، فوق صدره ، ويضع منها خلف أذنيه ، ويشكل أخرى على طربوشه .
كان مزهرية متنقلة ، يذرع رصيف الشارع الرئيسي في مدينة نابلس أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، جيئة وذهابا ، منتصب القامة مرفوع الهامة ، وكانت مشيته أقرب ما تكون إلى مشية عسكري في طابور . وكان لا يكلم أحدا إلا بحساب ، و إذا طرحت عليه سؤالا أجابك بسرعة وباقتضاب . وكانت قسمات وجهه المعبرة تعبر اكثر ما تعبر عن تبرمه بالناس من حوله ، وعن ضيقه بأفقهم الثقافي الضحل مقارنة بما يمتلكه هو من آفاق ثقافية واسعة رحبة ، وأن عقولهم دون مستوى عقله في الفهم والتفكير ، ودون ثقافته المنقطعة النظير . كان هذا آخر عهدي به لما كنت فتى يافعا .
وتمر الأعوام ، ويشاء الله أن التقي " أبو الزهور" بعد انقطاع دام عشرة أعوام اختفى خلالها " أبو الزهور" حتى كاد الناس أن ينسوه . التقيته في " جنين" حين انتقل عملي إليها ، فإذا هو هو ، إلا أنه يرتدي الحطة والعقال بدلا من الطربوش ، وقد قلل من عدد الزهور والورود التي يزدان بها . كان الرجل حكيما فعلا ، فقد استبدل الحطة بالطربوش ، فكل بيئة لها ما يناسبها من الزي ، فوق أن الطربوش أخذ يؤول إلى الزوال .
وكنت أفسر سبب قلة زهور" أبو الزهور" بأنها قلة الخير بين الناس ، وقلة هدأة البال بل انعدامها ، فقد كان الاحتلال قد ضرب أطنابه الغليظة فيما كان تبقى من أرض فلسطين . وتبين لي بعد مدة أن تفسيري كان صحيحا لمّا علمت أن " أبو الزهور " مر من أمام سور جنينة مدرسة للبنات في المدينة ، وكان متلهفا ، بالطبع ، إلى قطف بعض من زهور تلك الجنينة الجميلة كي يتزين بها كما يحب ويهوى . ولم يكن " أبو الزهور " لصا ولا يرضى لنفسه أن يكون كذلك ؛ فاستأذن مديرة تلك المدرسة في قطف ما يرغب ، فأبت عليه أن يقطف زهرة واحدة ، فما كان منه إلا أن خاطبها قائلا : " والليل إذا عسعس " ، ولم يزد على هذا الخطاب حرفا واحدا .
وبدا أن مديرة المدرسة لم تفهم معنى ما خاطبها به " أبو الزهور " ، أو أنها استبعدت أن يفعل ما نوى على فعله . المهم أنها فوجئت في اليوم التالي بجنينة المدرسة وقد صارت خرابا بلقعا خالية من أية زهرة .
لم أكلم " أبو الزهور " في حياتي ولا مرة ، إلا مرة واحدة طرحت عليه فيها السلام وأنا أمر من جانبه ، فقد كنت أخشى أن يظنني من العابثين ؛ ولكني كنت أشاهد الكثير من أحواله ، وأنصت باهتمام إلى ردوده على من كان دأبهم ممازحته من أجل تسلية أنفسهم لا غير . وكنت كثيرا ما أتتبع أخباره ممن يُعنون به أولا بأول . ولم يكن "أبو الزهور" ليسلم من ممازحة جنود الدوريات الإسرائيلية الذين كانوا وقتها من العرب الفلسطينيين الدروز . كانوا يثقلون عليه بالألفاظ النابية متعمدين ذلك تعمدا كي يستمتعوا بردوده المنفعلة من مثل : " يا أولاد الفاعلة ، روحوا ل ... "غولدا مائير" اسألوها بدلا مني ." وبما أن " أبو الزهور" عند الناس ، مجنون ، فلا عليه من أحد بأسا ولو كان من جند الاحتلال ، وتلك نعمة انفرد بها المجانين دون العقلاء . وكان إذا ضايقه بعض الفتية من أهل المدينة وعبثوا به ، يطير صوابه ويأخذ يقذفهم بأقذع الألفاظ ، والتي كان أقلها قذعا تلك التي تنفي عنهم جنسيتهم العربية ، وتصفهم بأنهم نسل المغول والططر أيام اجتاحوا بلاد العرب اجتياحا ليس أشد وأقسى منه تاريخا على " أبو الزهور " إلا تصرفات هؤلاء "الوضعاء" الذين لا يألون جهدا في التفكه والتندر بمعاناته متخذين منه هدفا سهلا .
لما مات أبو الزهور ماتت الحكمة المجنونة معه ، ولم تعد لنا حكمة نأخذها من أفواه المجانين . نعم ، الحكمة المجنونة ماتت وبقيت بعدها الحكمة العاقلة المدّعاة ادعاء . حكمة مبهرجة تنطق بها الأفواه دون ان يكون لها في النفوس أثر حميد يرجى ، أو هدف صادق خلا من النفاق ، فما هي إلا تشدق بالألفاظ الخالية من أي بصيص للحياة .
وها أنا ، والحمد لله ، قد عرفت أبوين للزهور : أبا الزهور اللبناني ، وأبا الزهور الفلسطيني ، ولعل هذين البلدين أولى من غيرهما بآباء الزهور ، على الأقل قبل أن ذبلت وذوت زهور العراق . وليتني أعرف أبا زهور عراقي ، وآخر سوداني ، وأخر... ، وآخر....
والمجنون " أبو الزهور" مجنون حقا لا ريب في ذلك . نعم ، هو مجنون بحب الجمال ، مجنون بحب الطبيعة الصادقة الأليفة المحبوبة البهية الطلعة... طبيعة تمنحك قبسا من بهجتها المشتعلة مرحا ، وتهبك جذوة تعيد اشتعال ما خبا فيك من حب الحياة الزاهرة السعيدة بعد أن طغت على مشاعرك الآلام والأحزان ، وبرّحت فؤادك تباريح بنات الدهر . وكلما قست عليك الحياة بقسوة الأحياء من بني الإنسان ــ وربما كان من أولئك القساة من هم من بني جلدتك ــ كلما احتضنتك الطبيعة الساحرة تروح عنك ما تعاني من قسوة .
ومن زهور الطبيعة وورودها أصناف تجل عن الحصر ، فمنها صنف يدعى الحب ، وهو على أنواع وأشكال وألوان ، ومنها آخر يدعى الإيثار ، ومنها زهر التضحية ، ومنها ريحان الحنان ، ومنها ورد الوفاء ، ومنها أقحوان المودة ، ومنها نرجس الرقة والوداعة ، ومنها ياسمين الصداقة ، ومنها فلّ التقوى ، ومنها ومنها الكثير من أصنافها البارعة الجمال .
ولعل أشواك الطبيعة لا تقل عطاء عن زهورها ، فهي تعبق بالحكمة أضوع ما يكون العبق ، وهي إن أدمت أصابعك العابثة ، فإنها تقول لك : احذر وخزات الحاقدين ، واستعذ بالله من همزات الشياطين ، وكن صبورا على غدر السنين ، وانظر إلى أمورك كلها بعين المبالاة ، فلا تحقرن صغيرا وإن دق ، فربما يأتيك الخطر من الدقيق ، ولا أدق من رأس شوكة .
ولقد سمت العرب أبناءها وبناتها بمشتقات زهر : زهير ، وزاهر ، وزهر وزهر الدين وزهري وزهرية وأزهر وأزهري ومزهر وازدهار وأزهار وزاهرة ، وزَهرة ، وزُهرة ، وزهّار ، وزهراء ، وزهور ، وزهيرة ، وزهران ... والمكان الذي نضع فيه ما نقطفه من زهور سميناه "مزهرية " . أسماء كلها تحمل معنى النضارة والصفاء والضياء والإشراق والنور ، فهل بعد المجنون ، أبي هذه الزهور كلها ، من يفوقه من العقلاء إشراقا ونورا وعقلانية!
لقد انتقل أبو الزهور إلى رحمة الله من زمان ، وأنا ما زلت حتى هذه اللحظة أجهل اسمه الحقيقي ، وسوف اظل به جاهلا ، فلا حاجة بي إليه .
قلنا إن " أبو الزهور " مات وماتت معه حكمته ، ولكن ما بقي من زهوره الذابلة تنتظر بفارغ الصبر " أبو زهور " آخر يقوم بريّها لعل نضارتها تعود من جديد ، ولتنبض قلوبها بالحياة الزاهرة .
|