شكلت دمشق الشام حاضرة للتفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ورغم انتقال مركز السلطة منها تاريخياً إلى مدن إسلامية أخرى فإن ذلك لم يفقدها دورها بصفتها قلباً وقلعة للأمة، وبقيت مركزية في إسهامها الفكري والحضاري تاريخياً ورغم أن إنهاء الوجود الصليبي في المنطقة يعود شرفه للمماليك، إلا أن هناك مجموعة من الآراء التي تناولت العصر المملوكي وحملت في طياتها اتهامات إلى هذا العصر بأنه عصر انحطاط وتأخر وظلمة، فما المعطيات التي استندوا إليها في هذه الآراء أو الاتهامات التي وجّهوها لهذا العصر؟ وما موقف السلاطين المماليك من علماء العصر والتراث الإسلامي؟ كانت تلك بضعة من مجموعة تساؤلات أراد الإجابة عليها الدكتور أحمد حميد في المحاضرة التي ألقاها في المركز الثقافي العدوي بعنوان «دمشق وأثرها العلمي في العصر المملوكي» في الحادي عشر من أيار/ مايو سنة 2008. البداية كانت من مناسبة دمشق عاصمة للثقافة العربية، إذ يقول: «دمشق تعيش عاصمة الثقافة العربية وذلك ليس بغريب عنها، فهي قبل أن تُتوج كانت عاصمة للثقافة العربية والعالمية منذ أقدم العصور بدليل أن الكثير من أبنائها تجاوزوا حدودها إلى خارج الوطن وأثروا في المنجزات العلمية العالمية، فحريٌّ بنا أن نلقي بعض الأضواء على هذه المدينة وبعض نتاجها العلمي في عصر من عصور الحضارة العربية، واخترت من العصور: (المملوكي) لأنه تعرض للكثير من اتهامات الجمود والانحطاط، ومن جهة ثانية لكون أطروحتي للدكتوراه تناولت هذا العصر وكان عنوانها "الحياة الفكرية في العصر المملوكي الثاني" فأثبتُّ من خلال العودة إلى أكثر من خمسين مخطوطاً وقرابة ألف كتاب بين مرجع ومصدر أن هذا العصر اتسم بالازدهار والتقدم، ويكفينا أنه قام بإعادة أحياء تراث الأمة الذي أُبيد على يد المغول من جهة، ومن جهة ثانية كان هذا العهد شاهداً على مجموعة من الاختراعات التي لم تكن موجودة في العصور السابقة. «أذكر على سبيل المثال طريقة بريل للمكفوفين، هذه الطريقة التي نُسبت فيما بعد إلى لويس بريل الفرنسي المتوفى في 1850م، مع العلم أن العصر المملوكي أنتج هذه الطريقة قبل لويس بريل بخمسة قرون على يد زين الدين علي الآمادي المتوفى عام 1314م الذي كان كفيف البصر، وأما الاختراع التاريخي الثاني فهو المدفعية. وبالعودة إلى الكتب التي تناولت تاريخ السلاح بالمقارنة مع المصادر العربية التي وجدت في هذا العصر، تبينتُ أن المماليك في مصر والشام أوجدوا هذا السلاح قبل أوروبا بما لا يقل عن نصف قرن ولاسيما قبل بريطانيا التي عملت فيما بعد على تطوير هذا السلاح. ً والحق أن هذا العصر أوجد عالِماً قد وضع الرموز الرياضية التي نستخدمها في يومنا هذا (س، ع، ط) لأول مرة في العصر المملوكي، ومن العلماء الذين يشار إليهم ابنُ خلدون الذي هو أول من أوجد الجغرافية الاقتصادية وعلم الاجتماع وعلم السكان ويمكنني الجزم هنا أنني من خلال بحثي لم أجد عالماً في ذاك الزمن عمل على هذا العلم قبل ابن خلدون». وإن «ما يميز المماليك اهتمامهم ببناء المساجد والجوامع ، فقد أولَوها رعايتهم فأنفقوا عليها الكثير من الأموال، وأرادوا أن يتجاوز دورها الخطبة والصلاة إلى الإسهام العلمي وإنجاب الكثير من الأجيال العلمية التي برزت في ميادينَ مختلفةٍ من العلوم، وأهمها الطب على الإطلاق. «أجد هنا أنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى بعض أسماء العلماء من مختلف العلوم الذين اشتهروا في دمشق والسمة المميزة لهم أنهم اشتغلوا في العلوم النظرية كافةً من فقه وحديث وعقيدة وأدب وتاريخ ومنهم موسوعي دمشقي ابن فضل الله العمري المتوفى سنة 1348م، مؤلف "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، وفي الكتاب بحث عن جغرافية الأرض إلا أن بحثه اقتصر على الجغرافية السياسية في بلاد الإسلام، وعبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم ابن حسن المتوفى عام 1262 الذي درس علوم الشريعة والعربية وتولى الخطابة في الجامع الأموي، والمؤرخ عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي المعروف بأبي شامة، ومن مؤلفاته (كتاب الروضتين في أخبار الدولتين) وكتاب (الذيل على الروضتين) و(المقاصد أو المناحة السنية في شرح القصائد النبوية) وكتاب (المرشد الوجيز إلى علوم الكتاب العزيز).
ومن أدباء العصر نذكر اللغوي شمس الدين محمد بن الحسن الصائغ الحنفي المتوفى 1325م، وكاتب الوداعة علي بن المظفر بن إبراهيم بن عمر بن يزيد الكندي الوداعي المتوفى سنة 1326م، ومن مؤلفاته كتاب موسوعي جامع بعنوان (التذكرة الكندية) الذي كتبه بخط يده في المدرسة السيمساطية في دمشق، أيضاً محمد بن يوسف بن عبد الله بن شمس الدين الخياط الحنفي الشاذلي الذي أصبح شاعر بلاط الملك الناصر في القاهرة عام 709 هجري، له دواوين أكثرها في الشعر الديني ،وله قصيدة في واحد وستين بيتاً تتناول حريق دمشق سنة 1340م.
ومن العلماء في العلوم العقلية ابن النفيس وهو علاء الدين بن أبي الحزم النفيس، ومن مؤلفاته كتاب شامل في الطب يقع في ثلاث مئة جزء وقد بُيّض منها ثمانون جزءاً، وله كتاب (الشامل في الصناعة الطبية)، أما الطبيب الثاني فهو أحمد بن أبي أصبيعة موفق الدين أبو العباس، طبيب مؤرخ للطب والأطباء وشاعر وكان والده من أمهر أطباء العيون بالكحل "كحّال دمشق"، ومن علماء الفلك الدمشقيين في العصر المملوكي المزي وابن الشاطر، ووضع المزي مجموعة جداول للزوايا الساعية ،وجداول أخرى للصلاة خاصة بدمشق، وله مؤلفات مختلفة تتعلق بالآلات.
أما ابن الشاطر فقد وضع جداول للصلاة تتعلق بمكانٍ لم تتم الإشارة إليه، على أن المزي وابن الشاطر اهتما بعلم الفلك والنماذج السيارة، وابتكرا مزولة عرفت في العصر الإسلامي( الوسيط).
ومن علماء علم الميكانيك والفيزياء بديع الزمان الجزري وقيصر ابن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر. إن «الكتاب والباحثين العرب نقلوا الكثير من الآراء التي تناولت العصر المملوكي من دون أن يمحّصوا فيما كتبه المستشرقون والمفكرون الغربيون مما يخص تاريخنا، فقد أصابتهم حمى الإعجاب بالحضارة الغربية من دون أن يقفوا وقفة تأمل فيما ينقلون عنهم، وذلك يدعونا إلى أن يكون النقل عن الكتاب الأوروبيين ومن يتفق معهم من الكتاب العرب محط دراسة وتمحيص دقيق لما كتبوه عن حضارتنا ونتاجنا الفكري قبل الأخذ به». يذكر أن الدكتور نقولا زيادة في كتابه «دمشق في العصر المملوكي» قد وضع إحصائية تضمنت أسماء مئة وخمسة وثلاثين عالماً قضَوا حياتهم أو أجزاء منها في سورية، وكان غالبهم يعيش في دمشق، وصُنفوا على الشكل التالي: الفقهاء ستة وعشرون، المفسرون والمحدثون ثلاثة وعشرون، المتصوفون وأهل النحو والأدب والشعراء اثنان وثلاثون، المؤرخون والجغرافيون ثمانية وعشرون، الأطباء والعلماء والفلكيون الموسوعيون أربعة، مؤلفون متفرقون ثلاثة.
المماليك الجراكســة ( 748 - 923 هـ / 1382 - 1517 م )
رأى السلطان المنصور قلاوون أن تكون له فرقة جديدة من جنس جديد غير المماليك الموجودين بعصره يعتمد عليهما ضد منافسيه من كبار الأمراء وتكون سندا له و لأولاده من بعده فأعرض عن شراء المماليك الأتراك والتتار والتركمان وأقبل على شراء المماليك الجراكسة الذين ينتمون إلى بلاد الكرج ( جورجيا ) وهى البلاد الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود
وبعد وفاة قلاوون حرص أبنائه وأحفاده على اتباع سياسته من الإكثار من هؤلاء المماليك ، وقد عرف المماليك الجراكسة أيضا باسم المماليك البرجية وذلك أن المنصور قلاوون فرض فى أول الأمر عليهم أن
يمكثوا بأبراج القلعة حتي لا يختلطوا بغيرهم من طوائف المماليك وبالأهالي ، وبمرور الزمن سمح لهم الأشرف خليل من النزول من القلعة بالنهار على أن يعودوا إليها قبل المغرب للمبيت وبذلك استطاع المماليك البرجية الوقوف على أحوال البلاد الداخلية وهكذا استطاع المماليك البرجية بمرور الزمن أن يكونوا منافسا قويا للمماليك البحرية ، وقد بدأ عصر المماليك البرجية بالأمير برقوق الذى اشتراه الأمير " يلبغا الخاصكي " ثم أعتقه فصار من جملة اليلبغاوية وقد ظل يرتقي بفضل طموحه وذكائه إلى أن وصل إلى تقدمة ألف ثم ولي منصب أتابك العسكر سنة 780 هـ / 1378م ثم أعلن نفسه سلطانا سنة 787 هـ / 1385م .
وقد ظل عصر المماليك الجراكسة أكثر من مائة وأربعة وثلاثين سنة ( 784 - 923 هـ / 1382 - 1517 م ) تعاقب على عرش السلطنة ثلاثة وعشرون سلطان منهم تسعة حكموا مائة وثلاثة سنوات ارتبط بهم تاريخ دولة المماليك الجراكسة وهم الظاهر برقوق ، وفرج بن برقوق ، والمؤيد شيخ ، الأشرف برسباي ، الظاهر جقمق ، والأشرف إينال ، وخشقدم ، الأشرف قايتباى ، وقانصوه الغوري ، بينما حكم أربعة عشر سلطانا لمدة تسع سنوات فقط ، وقد امتاز عصر السلاطين العظام التسع السابقين
بمهارتهم الحربية كما امتاز عصرهم بحبهم للأدب ومجالس العلم كما امتاز هذا العصر بإقامة العديد من الأثار والمؤسسات الخيرية من مدارس ومساجد وأسبلة وبيمارستانات .
إلا أنه لم تلبث أن ساءت أحوال البلاد فى أواخر عصر السلطان قايتباي بسبب كثرة الأعباء المالية وانتشار مرض الطاعون بدولة المماليك كلها سنة 897 هـ / 1492م ووفاة السلطان قايتباي سنة 901 هـ / 1496 م ، ثم بدأ أمراء المماليك التنازع على الحكم وقتل بعضهم البعض إلى أن عين الأشرف قانصوه الغوري 906 هـ / 1501م فى الحكم فاستطاع أن يعمل بسرعة على إعادة الأمن والاستقرار إلى الدولة ثم اتجه إلى إصلاح الأزمة المالية التى مرت بالبلاد وقام بتشييد
العديد من المباني والوكالات والربوع كما عني بتحصين الإسكندرية ورشيد
ثم حدث بعد ذلك أن واجهت مصر أكبر عقبتين لها الأول وهو اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح سنة 892 هـ / 1487م وأعقب ذلك تمكن " فاسكو دي جاما " من الوصول إلى الهند عن طريق
الطواف حول أفريقيا سنة 904 هـ / 1498 م وبذلك حول طريق التجارة العالمي من البحر الأحمر ومصر فلم تعد مصر محل الوساطة التجارية بين الشرق والغرب وبذلك فقدت سلطنة المماليك المورد الرئيسي لثروتها ومن ثم بدأت فى الذبول السريع
ثم ازداد الأمر سوءا بظهور الخطر الثاني الذى واجه سلطنة المماليك وهو اشتداد خطر العثمانيين الذين استطاعوا محاربة المماليك وقتل الأشرف قانصوه الغورى فى معركة مرج دابق بعد خيانة الأمير خاير بك له ، ثم اختير طومان باى سلطانا سنة 922 هـ / 1516م وكان أخر سلاطين المماليك فى مصر حيث استطاع العثمانيون بقيادة سليم الأول الدخول إلى مصر والاستيلاء عليها وبذلك بدأ حكم الدولة العثمانية سنة 1517م .
هل يعقل أن يظهر من يزعم أنه مسلم وينكر سنة النبي محمد ،صلىالله عليه وسلم، الذي أرسله الله ،سبحانه، للناس كافةً، وأمر الناس بأتباع أوامره! لقد حدث ما أخبر به هذا النبيُّ الصادق بعد وفاته ،إشارةً علىصدقه، وتثبيتاً للمؤمنين، وفضحاً لهؤلاء، بل إن عبارتهم التي يروّجون لها إلى معتقدهمهي نفسها التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم. فعن المقدام بن معد يكربالكندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك الرجلمتكئاً على أريكته يحدّث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل ماوجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ،ألا وإن ما حرم رسولالله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله ).
هل القرآن الكريم يُغني عن السنة المطهرة ؟ (1)( من قبل 9 أعضاء ) قيّم
هل القرآن يغني عن السنة ؟
بقلم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
هناك من يقول في هذا العصر، بل في هذه السنوات الأخيرة بالذات: إن القرآن يغني عن السنة. فينبغي أن نطرح الثانية ونكتفي بالقرآن وحده. وقبل أن نتهم هذه المقولة وأصحابها بالشرود عن الحقيقة وعن ميزان المنطق، ينبغي أن نتبين وجهة نظرهم والمعنى الذي يقصدون إليه من وراء هذه الأطروحة. إنهم يقصدون أن يؤكدوا لنا أن القرآن حوى كل شيء، وأن يذكرونا بقوله عز وجل :
( ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام: 38]، وإذا كان القرآن قد حوى فعلاً كل شيء، وكان تبياناً لكل شيء، فما الحاجة إذن إلى إضافة شيء مّا إليه؟ .. ما الحاجة إلى السنة مادام الانضباط بكتاب الله سبحانه وتعالى يبصرنا بكل شيء؟ .. هذا بالإضافة إلى أن القرآن كله منزل من عند الله يقيناً، ولا مجال للريب في شيء منه. أما السنة فقد اختلط فيها الصحيح بالموضوع بالضعيف بالمنكر، وأصبح تمييز الصحيح فيها عن غيره أمراً عسيراً. ولذلك فخير لنا أن نريح وأن نستريح، وأن نعتمد على القرآن وحده، لاسيما وإن القرآن فيه كل ما نتطلبه، وفيه كل ما نبحث عنه. هذه باختصار هي وجهة نظر أرباب هذه المقولة، فما موقفنا منها؟ وما هي النقاط التي نأخذها على هذه الأطروحة؟ سنضع هذه الأطروحة الأخرى في ميزان المنطق العلمي ذاته الذي وضعنا فيه المقولات أو الأطروحات السابقة، فإن وجدنا أن هذا الميزان قد أثبت صحتها، أخذنا بها، ودافعنا عنها، وإلا فلابد أن نكشف عن عوارها وأن نحذر منها، وأن نبين الخلفيات الكامنة وراءها. بادئ ذي بدء، أقول إننا إذا تأملنا في كتاب الله سبحانه وتعالى الذي ندعى إلى الأخذ به وحده، سنجد أن الأخذ بهذه الأطروحة، أو بهذه المقولة، يستلزم الإعراض عن القرآن ذاته، بل أقول لكم: إنه يستلزم تخطئة القرآن. و فاتني أن أبين لكم أولاً المعنى الشرعي للسنة، وهو: كل ما أُثر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قول أو فعل أو تقرير، على أن يصل ذلك إلينا بطريقة صحيحة، طبق المنهج المرسوم عند علماء مصطلح الحديث، تلك هي السنة. إذن أعود فأقول بادئ ذي بدء، إننا إن أخذنا بهذه الأطروحة القائلة: القرآن يغني عن السنة، فلسوف نجد أنفسنا نعرض عن القرآن ذاته، الذي نزعم أننا نريد أن نتمسك به ولا نتمسك بغيره، بل لسوف نجد أنفسنا نخطئ القرآن فيما يقول. وآية ذلك أننا عندما نصغي إلى كتاب الله عز وجل لا نجده يقول: اكتفوا في فهم دينكم وإسلامكم بهذا الكتاب، بكلامي وحده، بل هو يقول لنا: اجعلوا من سنة محمد (صلى الله عليه وسلم) بياناً لكل ما استغلق عليكم من كلامي، اجعلوا من سنة محمد (صلى الله عليه وسلم) المقتدى الثاني بعد هذا الكتاب. لو رأينا القرآن يقول لنا لا تتمسكوا إلا بهذا الكتاب، إذن فذلك يكفي دليلاً على صحة هذه الأطروحة، ولكنا نظرنا فرأيناه يأمرنا أمراً جازماً باتباع السنة إلى جانب القرآن، وبتحكيم كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى جانب القرآن، أليس الإلحاح على اطّراح السنة بعد هذا إعراضاً بيِّناً صريحاً عن القرآن ذاته.
هل القرآن الكريم يغني عن السنة المطهرة ؟ (2)( من قبل 5 أعضاء ) قيّم
وماذا يقول القرآن، في هذا، بصريح العبارة والنص؟ إنه يقول : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله )[النساء : 64]. ويقول : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) [النساء : 80]، ويقول ( وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )[الحشر: 7]، ويقول: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )[النساء : 59]، ويقول ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )[النحل: 44]. هل أزيدكم فأضعكم أمام آيات أجلى و اصرح مقرونة بالتحذير والتهديد. حسناً، يقول جل جلاله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً )[النساء : 65]. فهذه آيات صريحة واضحة قاطعة في الأمر باتباع رسول الله فيما يقول ويفعل من أمور الدين وفيما يشرح ويبين به نصوص القرآن، وبأن نطيع الرسول كما نطيع القرآن وبأن نجعل من كلام محمد (صلى الله عليه وسلم) بياناً لما استغلق علينا من كلام الله. وأحب أن أنبه إلى أن قول الله سبحانه وتعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً )[النساء: 65] إنما نزل في خصومة وقعت بين رجلين من المسلمين، وجاءا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليقضي بينهما، وقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بعد أن سمع وحقق، لأحدهما، فقال له الآخر: ألأجل أنه ابن عمتك، أو لأنه قريبك، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)[النساء: 65]. ومعلوم أن هذا الذي قضى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن تنفيذاً لآية موجودة في القرآن، وإنما كان بحكم من عنده، ومع ذلك فقد أعلن القرآن أن الإنسان لا يعدّ، أياً كان، مؤمناً بالله إلا إن قبل حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخضع له، ثم لم يجد في نفسه أي حرج تجاهه. فها هو القرآن ينفي سمة الإيمان عمن لم يُحكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما يقوله ويقضي به من أمور، حتى ولو كان القرآن ساكتاً عنه. فإذا جاء بعد هذا من يقول: لا، بل القرآن يغني عن السنة، ولا داعي إلى تحكيم السنة، أليس موقفه هذا معارضة صريحة للقرآن ذاته؟؟ بل أليس هذا الموقف ينطوي على تخطئة للقرآن ذاته؟ وكيف يكون هذا الموقف تحكيماً للقرآن، إذا كان صاحبه يخطئ القرآن، ويعرض عن أوامره، أو عن كثير من أوامره(صلى الله عليه وسلم)؟ ويبدو أن رسول الله أُخبر من قبل ربه عز وجل أن في الناس من سيعمدون إلى سنة رسول الله فيمزقونها ويبعدونها عن مجال الأخذ بها والاعتماد عليها في فهم القرآن، بسلاح بهلواني كاذب من القرآن ذاته فنبه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وحذر منه. من ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم)، فيما رواه العرباص بن سارية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعظ أصحابه موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقال له أحد الصحابة : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: ” أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ” والحديث حسن صحيح، رواه أبو داود، الترمذي وابن ماجة وأحمد. كذلك يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه أبو داود والترمذي ” يوشك رجل متكئاًَ على أريكته يحدث بحديث عني فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال حلّلناه وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه. ألا وإن الذي حرّمه رسول الله مثل الذي حرّمه الله سبحانه وتعالى ” وإن في تصوير رسول الله لحال هؤلاء الناس، ما يكشف عن استكبارهم على السنة وصاحبها تحت غطاء التحاكم إلى القرآن. ولعمري إن في من كانت هذه هي حاله لا يمكن أن يكون وفياً للقرآن الذي لم يصلنا إلا عن طريق رسول الله، ولا أن يكون صادقاً في الالتزام به!.. قد يقول هؤلاء: عذرنا الذي يدفعنا إلى إبعاد السنة لا يتمثل في أننا نكذّب كلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، أو في أننا نستهين بسنته، بل إننا بدافع من الغير عليها والحماية لها نطالب في هذا العصر بالإعراض عنها، إذ قد اختلط الصحيح منها في هذا العصر بالضعيف والمنكر والموضوع، والتبس على الباحث هذا بهذا بذاك، وإنما سبيل الحفظ لكرامة رسول الله وسنته في هذه الحال أن نبعدها عن التحكيم خوفاً من أن نقع في الزيف، ومن أن ننسب إلى رسول الله ما هو منه بريء.. هذا ما قد يقوله بعض منهم، فما هو جوابنا عن هذه المعذرة؟
هل القرآن الكريم يغني عن السنة المطهرة ؟ (3)( من قبل 5 أعضاء ) قيّم
جوابنا أن هذا الكلام فيه ما يدل على أن هؤلاء الناس أعرف بما قد آلت إليه السنة من الله سبحانه وتعالى!! إنهم يتهمون الله بالجهل، ويتهمونه بأنه لا يعلم مآل هذه السنة النبوية، في حين أنهم هم الذين عرفوا وتبينوا هذا المآل. لقد قال الله عز وجل خطاباً للناس في سائر العصور والأحقاب ( من يطع الرسول فقد أطاع الله )[النساء : 80]. وقال ( وما آتاكم الرسول فخذوه )[الحشر: 8] وقال: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )[النحل: 44] دون أن يعلم أن الأوامر الصحيحة التي نطق بها رسول الله ستمتزج بالمزيفة والموضوعة والضعيفة، ومن ثم فلن يتأتى للناس الطاعة المطلوبة منهم لرسول الله، في حين أن هؤلاء الناس هم الذين عرفوا ذلك من دون الله عز وجل!!! أفهذا هو كلام من يؤمن بالله ؟؟؟ أم هل هذا كلام من يؤمن بأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ويصرّ على تحكيمه والأخذ به ؟ وكيف يحكّم القرآن ويأخذ به من يخطّئه في قراراته وتعليماته؟ ! على أننا نقول: من هذا الذي قال لكم إن سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) امتزج فيها الصحيح بالباطل بالزيف بالضعيف، ولم يعد يستبين للباحث هذا من ذالك ؟ من قال هذا الكلام؟ السنة النبوية المطهرة أول كتاب، أو أول موضوع ومصدر من مصادر الشريعة الإسلامية بعد القرآن وُقي من الزيف، وإليكم بيان ذلك: كلنا نعلم أن هنالك وضاعين، وضعوا أحاديث مكذوبة على لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهنالك أحاديث ضعيفة وهنالك أحاديث منكرة، لاشك في هذا ولا ريب، ولكن مَن مِن المثقفين لا يعلم أن الله عز وجل قيض لهذه السنة علماً من أعجب العلوم التي تكاد ترقى إلى درجة الإعجاز، قيضه الله لحماية الحديث الصحيح من الدخيل ومن الزيف ومن الموضوع ونحوه. أما سمع أصحاب هذه الأطروحة بعلم يسمى علم مصطلح الحديث؟ أما سمعوا بعلم يسمى علم الجرح والتعديل؟ أو ما بلغهم السبب الذي من أجله ظهر علم الجرح والتعديل وعلم مصطلح الحديث؟ من المعلوم أن الذي دفع العلماء، في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني، إلى إيجاد هذين العلمين إنما هو حماية حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فعلم مصطلح الحديث صنف الأحاديث وقسمها إلى أحاديث آحاد وأحاديث متواترة، وقسم حديث الآحاد إلى أحاديث صحيحة وحسنة وضعيفة وموضوعة، والضعيفة قسمت أيضاً إلى أقسام، ووضعت ضوابط محددة لكل من هذه الأقسام. ولسنا الآن بصدد الحديث عن تفصيلات قواعد هذا العلم، ولقد وجدت مؤلفات كثيرة تحوي الأحاديث الموضوعة، ولكن وجودها أكبر شاهد ودليل على نقيضها أي على أن الأحاديث الموضوعة، إنما هو الوجه الآخر لاهتمامهم بتصفية الأحاديث الصحيحة من الزغل ومن الزيف. وإذا أردنا أن نتساءل عن العهد الذي كاد أن يختلط فيه الحديث الصحيح بالضعيف بالموضوع فإنه على كل حال ليس هذا العهد، وإنما هو القرن الأول والثاني من عصر الهجرة النبوية المشرفة، في ذلك الوقت حاول الدساسون، وحاول الوضاعون أن يسربوا الأحاديث الباطلة إلى كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وسرعان ما قام علماء الحديث فتداركوا .. وفرزوا .. وصنفوا.. وميزوا الأحاديث الصحيحة عن الأحاديث الباطلة والموضوعة. أما اليوم فالأمر لا يحتاج إلى جهد، ولا يحتاج إلى فرز، لأن أولئك العلماء أتعبوا أنفسكم و بذلوا الجهد الذي بذلوه، ثم صنفوا المصنفات المختلفة وأوضحوا لنا قائمة الأحاديث الآحاد، والأحاديث المتواترة، الأحاديث الآحاد الصحيحة والضعيفة وغيرها، وبوسع أي باحث إذا أراد أن يستدل بحديث ذكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يرجع إلى المراجع الخاصة بهذا العلم، فيتبين الحديث الصحيح من الحديث الضعيف. فيا عجباً لمن يأتي في هذا العصر، تماماً كما قال رسول الله، في مظهر من الكسل المستكبر الذي يأتي سمجاً ثقيلاً على النفس والعقل معاً، متكئاً على أريكته ليقول لنا: نحن لا نستطيع أن نستبين الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة، لنعمل بالأولى ونتجنب الثانية، فلنستعض عن السنة كلها بالقرآن.
هل القرآن الكريم يغني عن السنة المطهرة ؟ (4)( من قبل 5 أعضاء ) قيّم
ونقول له: تلك هي مصنفات الأحاديث المختلفة مفروزة منسقة مبينة أمامك، وما عليك إلا أن تمد يدك ثم تفتح عينيك وعقلك لتقرأ ! ولكن ماذا كنت تقول يا ترى لو أنك كنت تعيش في القرن الأول أو الثاني من الهجرة ؟ إذن لمزقت السنة النبوية كلها، و لخنقت الإسلام كله في ضباب كسلك!!! هذا ما نقوله في الرد على من يتثاءب تثاؤب الكسول الثقيل، ثم المستكبر فوق ذلك كله على كتاب الله وسنة رسوله، ليتأفف قائلاً: إنه لمن الصعوبة بمكان أن نلتقط الأحاديث الصحيحة المميزة عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة. تلك هي المعذرة الأولى التي تصطنع اليوم لإبعاد السنة النبوية عن مجال الاحتجاج بها، وللتفريق الذي حذر القرآن منه بين الله ورسوله. فما المعذرة الأخرى؟
المعذرة الأخرى هي دعوى أن في أحاديث رسول الله ما لا يتفق مع أعراف العصر، أو لا ينسجم مع مقتضى الحضارة والمدينة الحديثة. وربما ساقوا مثالاً على ذلك حديث رسول الله الذي رواه البخاري في صحيحه وابن ماجة في سننه أنه (ص) قال: ( إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم ليلقه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه داء )وربما استشهد على ذلك أيضاً بحديث جابر الذي يرويه مسلم في صحيحه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بلعق الأصابع والصحفة، أي وعاء الطعام. وقال: ( إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة )وربما أضافوا إلى هذين الحديثين أمثالهما. فأصحاب هذه الأطروحة يقولون: كيف يمكن أن ينسجم مع المدينة الحديثة حديث يأمر إذا وقع الذباب في شراب أحدنا أن يغمسه كاملاً ثم يلقيه، مع ما يبعث ذلك في التقزز في النفس!! أم كيف يتفق مع المدينة الحديثة أن نأخذ أنفسنا بهذه الوصية الثانية: إذا أكل أحدنا ثم قام من طعامه أن يلعق أصابعه التي أكل بها، وأن يمسح الوعاء الذي كان فيه الطعام حتى لا يبقى في قعره شيء. تلك هي الحجة الأخرى، فما موقفنا من هذا الكلام.؟ أقول قبل كل شيء: ما هو مقياس المدنية التي ينبغي أن نأخذ أنفسنا بها، وأن نخضع لإيحاءاتها؟ الجواب المنطقي هو أن مقياس المدينة الحديثة: كل ما يتفق مع المنطق والعلم، وكل ما يتفق مع الفطرة الإنسانية والحاجات الأصلية لبني الإنسان.. لا شك أن مدينة تستوحي قوانينها من المنطق والعقل ومن الحاجات الأساسية لبني الإنسان يجب أن نتبعها. أما المدنية الشاردة وراء هذين الضابطين فلا أعتقد أن الإنسان العاقل ملزم باتباعها، بل هو ملزم بالتحرر منها، بل على المسلمين أن يقفوا في وجه هذه المدنية، وأن يبذلوا ما يملكون لتصحيحها وتقويم عوجها. إذ إنهم أصحاب رسالة، وأمّة تخطيط وإبداع، وليست مهمتهم أن يكونوا ذيولاً إمّعات، يسيرون وراء تقليد الناس، إذا أحسنوا يحسنون، وإذا أساؤوا يسيئون. هذا هو موقفنا من المدنيات والحضارات كلها. على ضوء هذا الميزان، أقول: ما مشكلة حديث الذبابة الذي يقوم ويقعد به طائفة من الناس انتقاصاً لسنة رسول الله وتكريهاً للناس بها؟! تعالوا نفهم معنى الحديث أولاً: يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) ” إذا وقع الذباب في شراب أحدكم ” أي إذا وقع فعلاً ولم تُجد الوقاية ” فليغمسه ثم ليلقه “أي لا يلقين الذباب خارج الشراب حتى يغمسه كله فيه. وهو حرّ بعد ذلك في أن يتلف الشراب أو أن يستبقيه. وهذا الأمر سببه أن ” في أحد جناحي الذبابة داء وفي الآخر شفاء وأنها تتقي بجناحها الذي فيه داء ” فاقتضت الحيطة أن يلاحق الداء بالدواء، خوفاً من أن يبقى من ذلك الشراب شيء فيشربه من لا يعلم شيئاً عن هذا الذي وقع فيه، فيؤذيه الداء المتسبب عن ذلك.