لحظة حرية     ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
الصيف عاد ، وآذن الوقت بالرحيل ......... العطلة الصيفية دقت على أبوابنا وأمرتنا بأن نتجهز : نفضت سجادتي الوحيدة ، ووضعت بداخلها ألواحاً من الصابون المعطر ، هي آخر طريقة وجدتها لحمايتها من العت والحشرات الضارة دون اللجوء إلى النفتالين برائحته المزعجة ، ثم طويتها ، وركنتها إلى جنب ، حتى أيلول القادم .
ستكون هذه أخر مشاركاتي ، إذاً ، قبل أيلول المقبل .
حتى ذلك الحين ، كونوا بخير ، سأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ، وأتمنى للجميع صيفاً سعيداً .
لحظة حرية
سأحكي اليوم سيرة آخر معركة حضرتها في طرابلس العام 1983 ، وذلك قبل أن نغادر جميعنا لبنان ، تباعاً ، في العام الذي تلاه . كانت المعركة هذه المرة بين أبو عمار والسوريين ، ولقد ذهب ضحيتها عشرات القتلى ، ودمرت فيها أجزاء من هذه المدينة العريقة ، لكن هذا كله تحصيل حاصل لا يقتضي ربما التنويه ........ إلا أنني تذكرته ، وتذكرت ذلك الشعور المحبط بالقسوة ، واليأس من رحمة الإنسان ، وأنا أقرأ كلمات الأستاذ زهير التي هزت وجداني في قصيدته : عقد تموز ، وبشكل خاص عندما قال :
حـدثـان لا iiأنـسـاهـما |
|
ما عشت في عصر الكسوف |
قـصـف المنازل في iiالظلا |
|
م ومـشـهـد الرد iiالعنيف |
فـي رقـبـة الصحفية iiال |
|
شـقـراء تـذبح iiكالخروف |
وفـضـيـلـة iiمـصلوبة |
|
فـي ثـوب عاهرة iiعيوف |
تلك الذكرى ، التي سأروي بعضاً من تفاصيلها ، هي شهادة التاريخ على ما عشناه ونعيشه في واقعنا من عبث يومي . لأن هذه الواقعة ، حدثت بعد عام واحد فقط من الإجتياح الإسرائيلي لبيروت ، والذي كان بنتيجته ترحيل المقاومة الفلسطينية عن لبنان ..... حملوهم بيومها على مراكب في البحر ، كما نحمل عندنا في طرابلس صناديق البرتقال على السفن المهاجرة ، إلى تونس ، الخضراء هي أيضاً ، كمثل ربوعنا . وقع هذه المأساة كان جرحاً في قلوبنا وفي وجداننا ، عشناه ولا نزال كطقوس ملحمة كبرى أرجو أن أنجح بالتعبير عنها يوماً .
لكن عرفات ، كان قد عاد إلى طرابلس ، بإيعاز من الخميني هذه المرة ، لمحاربة " المارقين " ، أي السوريين وتحت شعار طائفي ??? لو سعيتم إلى تفسير هذه الشعارات فلن تفلحوا أبداً ، صدقوني ، لأنها " ضحك على الذقون " ، ولأنها مجرد شعارات للإستهلاك الوقتي ، وهي الشجرة التي تخفي وراءها غابة المصالح وشبق السلطة والنفوذ الذي لا يعرف من العقائد إلا منطقه الخاص ، وهو منطق القوة الغاشمة ....... كانت طموحات الخميني بتلك الفترة ، أكبر من الدور السوري في لبنان ، وكان يريد تجاوز حاجته إليهم . الباقي هو للتعمية وإثارة الأحقاد .
كان القصف قد اشتد على المدينة لدرجة لا تطاق ، حتى غادرها اكثر أهلها إلى المناطق المجاورة ، عكار ، الضنية ، الكورة ، وسوريا ..... جميع أهلي كانوا قد غادروا ، وبقي أخي الكبير بهدف حماية البيت من السرقة ، فقررت البقاء معه لأنني لم أكن أطيق هذا الترحال القسري ، ولقد اضطر بأن يذعن لعنادي مجبراً .
وفي هذا اليوم الذي أردت الحديث عنه بالذات ، كان القصف قد تركز على شارعنا بشكل مخيف في منطقة الزاهرية ، وذلك لعلمهم بوجود عرفات فيه . فعرفات كان قد عاود إحتلال مركز " قوات الصاعقة " التابعة للسوريين ، واحتمى في منزل صغير ، في زقاق بين البيوت ، في شارع لطيفة ، وأصبح خلال إقامته في جيرة الأهالي ، يفتي ويحكم في قضايا الزواج والطلاق والخلافات الزوجية والعائلية . وحاكت مخيلة الناس البسطاء في حينا أساطيرها حول عرفات الداعية في هذه المرة ، وحكايا تقواه وورعه ، وكيف يصوم ويفطر على سبع تمرات ، ومنهم من قال تسع حبات من الزيتون ...... والله أعلم .
لم يعد البقاء في البيت ممكناً ، وتيرة القصف كانت قد اشتدت لدرجة أننا بتنا نشعر بأن البناية برمتها كانت تهتز وتتداعى . كنا في الطابق الرابع ، وكان قد أصبح من الخطورة بمكان البقاء في الطوابق العالية . اضطررنا للنزول إلى الملجأ ، وكانت تلك المرة الأولى بعد عشر سنوات من الحرب الضروس أن نضطر للنزول إليه .
كان ملجأ بنايتنا قد تحول ، ومنذ زمن طويل ، في القسم الأكبر منه ، إلى برادات للسمك واللحوم المجلدة . وكان هدير المحركات اللازمة لتشغيل هذه البرادات ، ومن ثم هدير مولدات الكهرباء اللازمة لتشغيل هذه المحركات ، بما أن الكهرباء كانت مقطوعة ، تصم الآذان ........ ملجأ كئيب بأنوار خافتة وهدير محركات ، وروائح سمك وعفونة تختلط برائحة نفاذة ، قاتلة ، عرفت فيما بعد بانها رائحة السم الذي يضعونه لقتل الجرذان .
هناك ، رأيت جمعاً من الناس لا أعرفهم . بمجملهم ، كانوا من عائلات المقاتلين الفلسطينيين الذين رافقوا عرفات في مغامرته تلك ......... نساء وأولاد يتصايحون ليسمعوا بعضهم البعض ، ويعجون بالمكان . لم أشأ النظر إلى وجوههم في ذلك اليوم ، لم يكن عندي طاقة لأن أرى أو أتعاطف مع أي مخلوق . كان الضيق الذي يعتريني أكبر من الحزن ، واكبر من العطف ، واكبرمن الشفقة ، وأكبر من العقل حتى ، بل كان ذلك الضيق من النوع الذي يدفع بالإنسان للقيام بتصرفات جنونية .
نظرت إلى أخي الذي كان بقربي ، يستند بمؤخرته إلى جرة غاز فارغة ، يتلفت حوله وبيده رزمة من المفاتيح هي كل ما نملك ، يعبث بها وينقلها من يد لأخرى بعصبية ظاهرة . كان بجلسته ، يستطيل بجذعه إلى الأمام بوضعية من يتأهب للقيام ، و يستدير برأسه من حوله بوضعية من يبحث عن مخرج . ولما التقت عينانا في ذلك الجحر المظلم ، رأيته ينهض بدون كلام ، وأنا أتبعه بصمت ، لا مبالية بكل ما كان يجري من حولنا في ذلك المكان القذر والمزدحم بالخوف والبؤس .....
في مدخل البناية ، كان " خليل الوزير " أبو إياد ، الذي اغتاله الموساد في العام التالي في تونس ، يدلي بتصريح لصحافيين أجانب يحملون على اكتافهم كاميرات ضخمة ، ويتحلقون من حوله وهو واقف بباب سيارة مرسيدس ، من حولها مرافقيه . كان ما يقوله هو آخر ما يهمنا في هذه اللحظة المصيرية التي كنا نسعى فيها للخروج من هذا الجحيم .
لا أدري بأية أعجوبة استطاع أخي إخراج السيارة الرينو 5 الصغيرة من الكاراج وذلك عائد بدون شك لصغر حجمها . إنطلقنا بها باتجاه مستشفى البيسار ، ثم مبنى البلدية ، ثم ساحة التل . لم نر في طريقنا غير الصحافيين المتلطين في مداخل البنايات ، ببشرتهم التي لونتها شمسنا السخية ، وشعورهم الشقراء ، وكاميراتهم الهائلة ، وعيونهم النهمة التي ترصد أدنى حركة في الشارع .
لم يكن في الشارع غير تلك السيارة المجنونة التي كنا بداخلها ، نقايض الموت بالحرية . وعندما وصلنا إلى مفرق البحصاص ، بعد أن قطعنا الأوتوستراد العريض المكشوف تماماً للقنص ، والتففنا بحركات بلهلوانية من حول الثقوب التي كانت القذائف قد أحدثتها في أسفلت الشارع ، والتي كانت لا تزال تتساقط من حولنا كالعناقيد الناضجة . عندها فقط ، ولبرهة وجيزة ، اجتاحني إحساس عارم بالخلاص . لحظة الحرية هذه ، المشبوبة بالتوتر ، كانت إحساساً فريداً عشته في حياتي أذكره بارتياح ، رغم كل ما خالطه من الحماقة .
وطـنـي أقـلـني من وقو |
|
فـي طال يا وطني iiالوقوف |
لـمـا رأيـتـك في iiالهوا |
|
ن خرجتُ من كل iiالصفوف |
هذه الكلمات الخالدة أيضاً ، لن انساها ما حييت .
إلى اللقاء .
|