 | شاهد على عصر كن أول من يقيّم
نتفٌ مشجية لمآل الإسلام وأهله في الجزيرة الأندلسيّة وبقاء سلطان الإسلام في قلوب كثير من أهلها قروناً متطاولة بعد سقوطها لم تكن المقومات والعوائد العربية والإسلامية لتطمس آثارها بالكلية من القطر الأندلسي بعد امتزاج دام ثمانمائة سنة من العمران ,والبناء, التشييد, والمجد التام, الذي هو محصلة سواعد الإسلام وبنيه- لولا الإفناء المنظم الذي امتد حتى إلى الآثار الطوامس, والأحجار السواكن, والكوامن في المكامن. وهذه صور من أعمال العقل الذي أعمته العصبية, والإحن المحمولة, تترامى بها صحائف الأخبار ولفائف الأنباء, تحيط القارىء بالأبعاد إحاطة تجعل بينه وبين الحقائق الخفية خطوة من الفكر, ويغني عن بيان واقع الحال: المثال أو المثالان. عن الحلل: ((وكيف كان الأمر فقد تنصر كثير من مسلمي طليطلة, وبقي كثير من المسلمين على دينهم, لا سيما طبقة الخواص, ولكنهم لم يهجروا البلدة دفعة واحدة. وما خلت طليطلة من المسلمين تماماً إلا بعد قرون متطاولة. ومن الغريب أن طليطلة رجعت إلى النصارى في الثلث الثالث من القرن الحادي عشر للمسيح, وأنه في أوائل القرن السابع عشر كان لا يزال فيها مسلمون في زي نصارى. وقد نقلنا في بحث مسلمي الأندلس في (حاضر العالم الإسلامي) في الجزء الثاني عن كتاب (الأنوار النبوية في أنباء خير البرية), للعالم النسابة سيدي محمد بن عبد الرفيع الأندلسي المتوفى في رجب عام اثنين وخمسين وألف,- وصفه يوم كانوا بالأندلس لحالة المسلمين الذين كانوا مضطرين تحت خطر الحرق بالنار, أن يظهروا النصارنية وهم يبطنون الإسلام, وكيف كان والد المؤلف المذكور يعلم ولده, الإسلام سراً, ويوصيه بأن يكتم ذلك حتى عن والدته وعمه وأخيه, وجميع أقاربه, وأن لا يخبر أحداً من الخلق بما يعلّمه إياه في الخفاء. ثم كان يرسل والدته إليه فتسأله: ما الذي يعلمك والدك فيقول لها: لا شيء, فتقول له: أخبرني بذلك و لا تخف لأني عندي الخبر بما يعلمك. فيقول لها: أبداً ما هو يعلمني شيئاً. قال: وكذلك كان يفعل عمي, وأنا أنكر أشدّ الإنكار ثم أروح إلى مكتب النصارى. وآتي الدار فيعلمني والدي, إلى أن مضت مدة, فأرسل إلي من إخوانه في الله والأصدقاء. فلم أقرّ لأحد قط بشيء, مع أنه رحمه الله تعالى قد أقلى بنفسه للهلاك لإمكان أن أخبر بذلك عنه فيحرق لا محالة. لكن أيدنا الله سبحانه وتعالى بتأييده إلخ. إلى أن يقول: فلما تحقق والدي رحمه الله تعالى أني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب, فضلاً عن الأجانب, أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وعمي وبعض أصحابه الأصدقاء فقط, وكان يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين وأنا أسمع, فلما رأى حزمي مع صغر سني فرح غاية الفرح, وعرفني بأصدقائه وأحبائه وإخوانه في دين الإسلام فاجتمعت بهم واحداً واحداً.))اهـ وقد علقت على هذه الجملة بقولي: إن الإسلام بالأندلس حسبما يظهر من هذا الوصف كان أصبح شبيهاً بجمعية سرية تكتم أمرها أشد الكتمان, ولا يقدر واحد من المسلمين أن يبوح بإسلامه إلا لمن يكون قد ابنلى أمانته, وامتحن صدقه فكانوا يجتمعون سراً إذا كان بعضهم واثقاً ببعض, ويتكلمون في أمر الدين في أشد الخفية. ثم نقلت عنه ما يلي: (( وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار من جيان, مدينة ابن مالك إلى غرناطة, وإلى قرطبة, وإلى أشبيلية, وطليطلة, وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء أعادها الله تعالى للإسلام فتخلص لي معرفتهم لي من معرفتهم أني ميزت سبعة رجال, كانوا كلهم يحدثونني بأمور غرناطة, وما كان بها في الإسلام حينئذ, وبما أقوله وقلته بعد, فسندي عال لكونه ما تم إلا بواسطة واحدة بيني وبين الإسلام بها)) اهـ. وعلقت على هذه الجملة الأخرى ما يلي: إنما من عرف كون ابن عبد الرفيع توفي عام ألف واثنين وخمسين للهجرة, لا يخفى عنه انه كان شاباً في أول سني الألف للهجرة, أي منذ نيف وثلاثمائة سنة. ويظهر له أنه منذ نيف وثلاثمائة سنة كان في جيان وغرناطة وأشبيلية وقرطبة أناس لا يزالون يدينون بالإسلام سراً, وهما في الظاهر نصارى. وأغرب من هذا وجود مثل هؤلاء في طليطلة المصاقبة لمجريط, والتي كان مضى على استرجاع الاسبانيول لها يوم زارها ابن عبد الرفيع أكثر من خمسمائة سنة. أي أنه بقي مسلمون في الباطن في طليطلة من بعد أن زال عنها حكم الإسلام بخمسمائة عام. ثم ذكرت في محل آخر من هذا البحث: (( وقيل لي إن أحد المغاربة وقع في هذه الأيام الأخيرة ببعض قرى طليطلة, فوجدهم يذبحون الأكباش يوم عيد النحر عندنا, ويقولون إنها عادة توارثوها عن آبائهم))اهـ. ثم إني أذكر في المبحث نفسه فصلاً عثرت عليه في جريدة (( العَمَلَة)) النمساوية الصادرة في فينة, عددها المؤرخ في 3 يناير 1932, جاء فيه بمناسبة الكلام عن ثورات أهل العمل, كلام عن موريسك الأندلس, وأعمال ديوان التفتيش الكاثوليكي ما يلي: (( فأخذ هذا الديوان ينقّب وينقّر عن الكلية والجزئية من أعمال المسلمين, ومنع جميع شعائرهم الدينية, بل منع جميع عاداتهم ومذاهبهم في الحياة: ولو لم يكن لها تعلق بالدين, وعاقب على ذلك. وكان يعاقب أشد العقاب من علم عنه أنه لا يأكل لحم الخنزير أو الميتة, أو عرف عنه أنه لا يشرب الخمر, أو قيل إنه أدرج ميتة في كفن نظيف. وكانت النظافة في ذاتها يعاقب عليه, وفي سنة 1597 وجد في طليطلة المسمى (( موريسكوبار ثولوم شانجه)) فلحظ عليه القوم أنه شديد التطهر, فعذبوه عذابا شديدا, وما زالوا يعذبونه حتى أقر بأنه يتطهر عن عقيدة, فحكموا عليه بالسجن المؤبد, ويضبط جميع أملاكه. ووجدوا قرآناً عند عجوز اسمها (( ايزابلا زاسن)) فقالت إنها لا تقدر أن تقرأه فلم ينفعها هذا القول وعذبوها, ولكن لما كان عمرها تسعين سنة اكتفوا من إهانتها بحملها على حمار, والطواف بها في الشوارع وعليها غطاء مكتوب عليها اسمها و ((إثمها)) ثم زجّوها في السجن بعد ذلك, وبقيت فيه إلى أن علّموها قواعد المسيحية.)) اهـ. | 14 - أغسطس - 2007 | تذكار الأمير |
 | المختار من الطبائع3 كن أول من يقيّم
الاستبداد والإنسان عاش الإنسان دهرا طويلاً يتلذذ بلحم الإنسان ويتلمظ بدمائه, إلى أن تمكن الحكماء في الصين ثم الهند من إبطال أكل اللحم كلياً سداً للباب, كما هو دأبهم إلى الآن. ثم جاءت الشرائع الدينية الأولى في غربي آسيا بتخصيص ما يؤكل من الإنسان بأسير الحرب ثم بالقربان ينذر للمعبود ويذبح على يد الكهان. ثم أبطل أكل لحم القربان وجعل طعمة للنيران, وهكذا تدرج الإنسان إلى نسيان لذة لحم إخوانه, وما كان لينسى عبادة إهراق الدماء لولا أن إبراهيم, شيخ الأنبياء, استبدل قربان البشر بالحيوان واتبعه موسى عليه السلام وبه جاء الإسلام. وهكذا بطل هذا العدوان بهذا الشكل إلا في أواسط أفريقيا عند (النامنام). الاستبداد المشؤوم لم يرضَ أن يقتل الإنسان الإنسان ذبحاً ليأكل لحمه, أكلاً كما كان يفعل الهمج الأوّلون, بل تفنّن في الظلم, ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم, ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم, أو بغصب ثمرات أتعابهم. وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل. إن بحث الاستبداد والمال بحث قوي العلاقة بالظلم القائم في فطرة الإنسان, ولهذا رأيتُ أن لا بأس في الاستطراد لمقدمات تتعلّق نتائجها بالاستبداد الاجتماعي المحميِّ بقلاع الاستبداد السياسي, فمن ذلك: إن البشر المقدّر مجموعهم بألف وخمسمائة مليون (لعهد الكواكبي) نصفهم كَلٌّ على النصف الآخر, ويشكل أكثرية هذا النصف الكَلِّ نساء المدن. ومَن النساء? النساء هنَّ النوع الذي عرف مقامه في الطبيعة بأنه هو الحافظ لبقاء الجنس, وأنه يكفي للألف منه ملقح واحد, وأن باقي الذكور حظهم أن يساقوا للمخاطر والمشاق أو هم يستحقون ما يستحقه ذكر النحل, وبهذا النظر اقتسمت النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى, وتحكمن بسن قانون عام به جعلن نصيبهن هين الأشغال بدعوى الضعف, وجعلن نوعهن مطلوباً عزيزاً بإيهام العفة, وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن مَحمدتين في الرجال, وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ويظلم أو يظلم فيعان, وعلى هذا القانون يربين البنات والبنين, ويتلاعبن بعقول الرجال كما يشأن حتى أنهن جعلن الذكور يتوهمون أنهن أجمل منهم صورة. والحاصل أنه قد أصاب من سماهن بالنصف المضر, ومن المشاهد أن ضرر النساء بالرجال يترقى مع الحضارة والمدنية على نسبة الترقي المضاعف. فالبدوية تشارك الرجل مناصفة في الأعمال والثمرات فتعيش كما يعيش, والحضرية تسلب الرجل لأجل معيشتها وزينتها اثنين من ثلاث وتعينه في أعمال البيت, والمدنية تسلب ثلاثة من أربعة وتود أن لا تخرج من الفراش, وهكذا تترقى بنات العواصم في أسر الرجال. وما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبا أن تسمى المدنية النسائية لأن الرجال فيها صاروا أنعاما للنساء. ثم إن الرجال تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة أيضا, فإن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة, يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة, ينفقون ذلك في الرفه والإسراف, مثال ذلك أنهم يزينون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحياناً متراوحين بين الملاهي والمواخير, ولا يفكرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام. ثم أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون والمحتكرون وأمثال هذه الطبقة, ويقدرون كذلك بخمسة في المائة, يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع. وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظالمة هي الاستبداد لا غيره. وهناك أصناف من الناس لا يعملون إلا قليلاً, إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة و المشعوذين باسم الأدب أو الدين, وهؤلاء يقدرون بخمسة عشر في المائة أو يزيدون على أولئك. نعم لا يقتضي أن يتساوى العالمُ الذي صرف زهرة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم في ظل الحائط, ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل, ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت, بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته ويقاربه في معيشته ويعينه على الاستقلال في حياته. لا, لا, لا يطلب الفقير معاونة الغني, إنما يرجوه أن لا يظلمه, ولا يلتمس منه الرحمة, إنما يلتمس العدالة, لا يؤمّل منه الإنصاف, إنما يسأله أن لا يميته في ميدان مزاحمة الحياة. بسط المولى, جلّت حكمته, سلطان الإنسان على الأكوان فطغى وبغى ونسي ربه وعبد المال والجمال وجعلهما منيته ومبتغاه, كأنه خُلق خادماً لبطنه وعضوه فقط, لا شأن له غير الغذاء والتحاكّ, وبالنظر إلى أن المال هو الوسيلة الموصلة للجمال كاد ينحصر أكبر همّ للإنسان في جمع المال, ولهذا يُكنى عنه بمعبود الأمم وبسرِّ الوجود, وروى (كريسكوا), المؤرخ الروسي, أن كاترينا شكت كسل رعيتها فأرشدها شيطانها إلى حمل النساء على الخلاعة ففعلت وأحدثت كسوة المراقص, فهب الشبان للعمل وكسب المال لصرفه على ربات الجمال, وفي ظرف خمس سنين تضاعف دخل خزينتها فاتسع لها مجال الإسراف. وهكذا المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال. | 15 - أغسطس - 2007 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |