المقدمة الطللية (6) كن أول من يقيّم
وأما جميل فيقول : حلت بثينة من قلبي بمنزلة بين الجوانج لم ينزل بها أحد صادت فؤادي بعينيها ومبتسم كأنه حين أبدته لنا برد عذب كأن ذكي المسك خالطه والزنجبيل وماء المزن والشهد وجيد أدماء تحنوه إلى رشأ أغن لم يتبعها مثله ولد رجراجة رخصة الأطراف ناعمة تكاد من بدنها في البيت تنخضد خدل مخلخلها وعث مؤزرها هيفاء لم يغدها بؤس ولا وبد هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة تمت فليس يرى في خلقها أود نعم لحاف الفتى المقرور يجعلها شعاره حين يخشى القر والصرد ( 13 ) لا يكاد جميل في هذه الأبيات ينفرد برؤية جمالية خاصة ، فهو يتحدث عن الفم الذي هو مثل البرد ، وعن العينين اللتين تصيدان الفؤاد ،والعنق الذي هو مثل عنق الظبية ، ويصفها بأنها بدينة ناعمة لا تكاد تتحرك في بيتها ، ويصف ساقيها بامتلاء ، ثم يصفها بأنها مرفهة ناعمة ، وهي هيفاء رشيقة حين نراها قادمة ، وهي ممتلئة ضخمة حين نراها مدبرة ، وأن هذا النموذج تام لا يرى في خلقه عوج ، ولنلحظ أن مواضع التركيز عند المجنون وجميل تكادان أن تتفقا ، بل إننا نجد بعض المعاني نفسها تتكرر عند كل منهما ، ولا تكاد رؤيته للمرأة في الأبيات التالية تختلف كثيرا ، يقول : وقامت تراءى بعد ما نام صحبتي لنا وسواد الليل قد كاد يجلح بذي أشر كالأقحوان يزينه ندى الطل إلا أنه هو أملح كأن الخزامى عالج في ثيابها بعيد الكرى أو فأر مسك تذبح كأن الذي يبتزها من ثيابها على رملة من عالج متبطح وبالمسك تأتيك الجنوب إذا جرت لك الخير أم ريا بثينة تنفح من الخفرات البيض خود كأنها إذا ما مشت شبرا من الأرض تنزح منعمة لو يدرج الذر بينها وبين حواشي ثوبها ظل يجرح إذا ضربتها الريح في المرط أجفلت مآكمها والريح في المرط أفضح ترى الزل يلعن الرياح إذا جرت وبثنة إن هبت لها الريح تفرح إذا الزل حاذرن الرياح رأيتها من العجب لولا خشية الله تمرح (14 ) هناك نجد جميل لا يتحدث عن نفس المواضع التي اختار الحديث عنها في الأبيات السابقة : الأسنان ، الفم ، المسك الذي يخالطها ، امتلاء جسمها ، حياؤها ، هي منعة ، يصيبها الإعياء إذا ما مشت . وهي عند كثير عزة : تبدت فصادته عشية بينها وقد كشفت منها لبين ستورها بجيد كجيد الرئم حال تزينه غرائر مسترخي العقاص يصورها تلوث إزار الخز منها برملة رواح كساها هائل الترب مورها ( 15 ) فهذه المحبوبة قد صادته ، حين بانت بعنق مثل عنق الظباء ، هذا العنق محلى بزينة تزينه ، وشعر مسترخ يميل منة كثرته ، وهي أيضاً عنده : من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تفيدها منعمة لم تلق بؤس معيشة هي الخلد في الدنيا لمن يستفيدها ( 16 ) وهي أيضا : منعمة لو يدرج الذر بينها وبين حواشي بردها كاد يجرح ( 17 ) وأما قيس بن ذريح ، فيصفها بقوله : إذا عبتها شبهتها البدر طالعا وحسبك من عيب لها شبه البدر لقد فضلت لبنى على الناس مثلما على ألف شهر فضلت ليلة القدر إذا ما مشت شبرا من الأرض أرجفت من البهر حتى ما تزيد على شبر لها كفل يرتج منها إذا مشت ومتن كغصن البان مضطمر الخصر ( 18 ) هذه النصوص ترسم صورة شديدة الوضوح للمرأة التي تغزل فيها العذريون ، وهي صورة تمثل نموذج الجمال كما تصوروه ، ولا يظن أن كل محبوبات الشعراء كن يتصفن بهذه الصفات المتشابهة ، مما نرجح معه أن هذا الوصف هو وصف للنموذج أكثر منه وصفاً واقعياً ، قد يفصل أحدهم أجزاءه ، وقد يجمل آخر ، غير أن المحصلة النهائية هي هذا النموذج الجمالي ، أهم ملامح المرأة فيه أنها موسومة بالحسن ، بيضاء باكرها النعيم ، موردة الخدين ، واضحة الثغر ، عيناها تصيدان القلوب ، شعرها أسود ، خصرها أهيف ، أنيابها مفلجة ، وأسنانها مثل الأقحوان ، عنقها مثل عنق الظبية ، وهي ثقيلة الأعجاز لا تستطيع المشي بسهولة ، ثيابها معطرة ، وهي شديدة الحياء إن تتكلم تقصد . صورة المرأة هنا غير مميزة ، تصلح أن تكون نموذجاً ، ليست فيها هذه الفروق النفسية والجسمية أيضتا ، وإنما نجد حشداً من الصفات يتناقله الشعراء في أبياتهم ، فلا تكاد تفرق بين بثينة وعزة ولبنى وليلى وغيرهن ، وربما كان السبب أن شعراءنا جزء من نسيج الشعر العربي الذي كان يحفِل بالمبالغة في الوصف ، المبالغة في الشجاعة والكرم والحب وسائر العلاقات ، والصفات التي وجدنا أصداءها في الشعر . |